المصدر - خالد حسن
لم يكن يعرفه الكثيرون قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، فقد برز أشياخ عراقيون بكتاباتهم وعلمهم قبله، ولكن في محنة العراق مع الاحتلال ما استطاعوا أن يؤثروا في مسار الأحداث الساخنة.
يوم أن كان العراق ينهار اختفت الأسماء العراقية المعروفة، أو على الأقل غمرتها الأحداث واستغرقوا في التأمل وبعضهم رجع إلى فنه وصنعته الأولى في الكتابة والتنظير عن بعد، فليس أكثر من مقال هنا وهناك وتصريح وحوارات على الهامش.
تقدم الشيخ حارث الضاري حيث تباطأ وتردد وتأخر آخرون، كان صارما في مواقفه لا يتزحزح رغم هول الضغوط، واجه الغزو الأمريكي ورفض الانخراط في كل ما أسسه الاحتلال من عملية سياسية وانتخابات، في وقت كان الحزب الإسلامي الإخواني يسارع خطاه نحوها متلهفا من غير تردد ولا تمعن ولا تبصر ولا تمهل، في سقطة مدوية ومريعة لجماعة الإخوان في العراق لا أظن أن كثيرا من العراقيين ستُمحى من تاريحهم.
كان يطعن في العملية السياسية ويرفضها تحت الاحتلال في وقت تعاطف فيه بعض الكتاب والمثقفين والسياسيين مع الحزب الإسلامي وكانوا يرون بالمشاركة، فلا يُعقل أن يصنع العراق الجديد بمعزل عن السنة، ولو أن يتركوا بصمة، وهم في هذا وافقوا الحزب الإسلامي في مبدإ المشاركة غير أنهم تراجعوا عن المضي معه بعد الذي أظهره المالكي من توحش وطائفية وتسلط، ويتحمل الحزب وحده تبعات التجربة العملية، فقد كان بإمكانه الانسحاب بعد أن اكتشف له أنه مجرد واجهة لمشروع اختطاف العراق.
لم يكن الشيخ حارث الضاري سياسيا من قبل ولا يُعرف له نشاط في هذا، لكنه كان ثاقب النظر راجح العقل قوي الحجة صلب المواقف، مع خلق رفيع، وتعامل بمنطق الكبار مع من شارك من السنة في العملية السياسية، فلم يفجر في الخصومة ولم يقطع التواصل ولا شنع عليهم بأكثر مما يتطلبه البيان، فقد كان شريفا أصيلا حرا نبيلا.
وكان سباقا في تحذيره من خطر النفوذ الإيراني في العراق وتغلغله وتوسعه، خصوصا مع تعيين المالكي رئيسا للوزراء، في وقت رأى فيه كثير من المتابعين، آنذاك، الحديث عن "الاحتلال" الإيراني للعراق مبالغة وسوء تقدير، ليتبين لنا بعد كل هذه السنوات كما لو أننا اكتشفنا معه إيران من جديد، إيران الحرس الثوري والتمدد في الفراغ والفوضى والهشاشة والفساد، إيران الحرس الثوري التي لا يمكن الوثوق بها ولا التعويل على وعودها، لأن الحاكم الفعلي خارج الحدود كان الحرس الثوري ولا أحد غيره، في وقت بلغ نفوذهم وهيمنتهم على القرار ذروته، وتبين لنا بعض صيحة نذير وتحذير للشيخ حارث الضاري أن الحرس الثوري لم يخضع بغداد لسيطرته، وفقط، وإنما اختطف القرار في طهران أيضا.
الضاري كان مقاوما من طراز رفيع، أسس مجموعة مسلحة تقاوم الاحتلال الأمريكي وكان لها حضور مؤثر في بعض مناطق، وتضررت كغيرها من مجموعات المقاومة السنية بغلو القاعدة وهجومها ومحاولاتها لإخضاعهم جميعا لسيطرتها، تألم لهذا وتحسر واغتم له، ولكنه كان يرى بعقله ويتابع هذا يوميا داخل العراق ومن خارجه عندما طورد وهدد، أن الاحتلال الأمريكي يسهل مهمة الإيرانيين في بسط نفوذهم العراق لمواجهة أي نهوض للعراق خارج السيطرة، وقد يفجر هذا المنطقة بأكملها ويمهد لبروز مجموعات أكثر تطرفا من القاعدة.
تفطن لما كان يحذر منه الكثيرون، وهذا من إنجازاته التي لا تخفى، فقد نشر الوعي بهذا وأقام الحجة على المغفلين والمترددين والمشككين، وخذله العرب الرسميون ونأى عن صيحاته الأتراك، وكان يحذر من إحكام إيران السيطرة على بغداد في سنوات الاحتلال الأولى لتمدد بعد ذلك، فما توفاه الله تعالى إلا والطائرات الإيرانية تحط في مطار صنعاء إيذانا بـ"فتح" جديد، كانت بدايته من بغداد.
لم يخدم قضية السنة في العراق خلال سنوات الاحتلال كما خدمها الشيخ حارث الضاري بالموقف الحاسم والعقل الراجح والتبصر والمقاومة الشريفة والندية ورفض الخضوع والتهديد، وفي كل هذا وفي أحلك فترات حياته، معاناة وتألما وغبنا، لم يفقد صوابه واتزانه ونبله وأدبه، رحمة الله عليه.
ما كان يراه الكثيرون مبالغة من الشيخ حارث تجاه إيران الحرس الثوري وسوء تقدير للموقف وسلبية في التعامل مع العملية السياسية في العراق والإغراق في الحذر والإحجام اقتنع به اليوم أغلب القوم، ولكن يكفي الشيخ حارث الضاري أن خطَ مسارا سياسيا مقاوما داخل العراق ألهم الكثيرين من بعده في البلاد العربية الأخرى وأسقط الأقنعة عن إيران الحرس الثوري.*