بواسطة :
10-07-2014 07:54 صباحاً
7.3K
المصدر -
الغربية- متابعة- نواف العتيبي:
**
يلتف عبد الحكيم بجلابيته الحمراء المطرزة، وقد برز بملامح وجهه التعب والحكمة مختلطان في عالم لم يعد يميز فيه بين الواقع والخيال بين قصص ربيت عليها أجيال منذ الأزل.
ففي كل يوم وعلى مدى أربعة عقود وأكثر، وقف عبد الحكيم في سوق جامع الفنا، الذي يقع بقلب مدينة مراكش المغربية، وبين برودة الطقس شتاء ولفحات الحرارة الصحراوية صيفاً يبقى هو العامل الثابت في مشهد المدينة الذي لا يمكنه الفرار من وجه التغيير.
يقف في موقعه، لابساً قبعة تقليدية تتشبث على رأسه الأقرع، أطراف أصابعه يعلوها السواد مخلوطاً بالتراب، ووجهه كما تبدو قطعة من الجلد لم ترحمها ظروف الطقس المتغايرة.
صوت المؤذن يعلو في ساعات الفجر مرتداً بين ظلال سواد السوق، وبعد انتهاء عبد الحكيم من أداء صلاة الفجر، يتجه نحو ضوء الضحى، ويتخذ موقعه، ليتمتم دعوة بأن "كل الأمور تعود إلى الخالق"، يصفق بيديه ليكسب انتباه جمهوره، عندها تبدأ الحكاية:
"كان يا ما كان في قديم الزمان كان هنالك نجار"، يسرد عبد الحكيم حكاية من قصص "ألف ليلة وليلة"، ويكمل: "كان رجلاً صادقاً وكريماً أكثر من أي من حوله..."
وخلال لحظة نشأت الحلقة من حوله، دائرة مقدسة من الأرواح المتلهفة والفضولية لسماع التتمة، تتلاصق أكتاف أجسامها وتتقدم لسماع الحكواتي، كما تقدمت غيرها يوماً بعد يوم، وكل يوم.
بالنسبة إليهم يشكل عبد الحكيم مجموعة من الأشخاص المجتمعين بهيئة واحدة، فهو المرفه والحكيم والساحر، إذ يقول مالك، صاحب محل لبيع العطور بجوار الموقع الذي يتخذه عبد الحكيم بأن لهذا الحكواتي "القدرة على نقل سامعيه لممالك بعيدة"، مضيفاً: "يمكنه أن يسحر الجميع بهذه القصص التي تربيت عليها أنا نفسي، مثلما تربي عليها ابني"، إذ لا يمكن للناس مقاومة الاستماع للحكواتي خاصة مع صوت رواية الحكاية بالهمس التي تجذب أقل الناس فضولاً، وسرده البطيء للقصص، كمن يوزع الحلويات على من حوله ببطء ليشعروا بلذتها الحقيقية.
معظم الناس يمكنهم بلوغ مدينة مراكش من خلال السفر بالطائرة، ويصعب عليهم معرفة موقع المطار من الأعلى، لكن أسوار المدينة الطينية ترشد من يمكنه أن يتوه عنها في صحراء المغرب المحمرة، التي بناها من أسس المدينة قديماً لتكون وجهة للحياة والموت.
للمدينة طابعها الساحر، الذي تدخل فيه إلى عالم لا تفرق به بين الخيال والواقع، وكأنك تعيش في إحدى قصص عبد الحكيم، ومع بلوغ الحرارة حدها الأقصى خلال فترة الظهيرة، يخرج سحرة الثعابين من ملاجئهم الباردة، ويعزفوا على آلة "النفار" التي تعتبر مزماراً ليأخذوا ثعابينهم في رحلة تنويم مغناطيسي تبدأ في الزواحف بالرقص على أنغام الحر اللاهب.
ومع اختفاء حرارة النهار تدريجياً يمكنك أن ترى البهلوانيين يكشفون مواهبهم في ساحة الفنا، ترى بعدها أعضاء من مجموعة "غناوة" وهي أخوية قديمة، تضرب طبولاً حديدية لإبعاد أرواح الجن.
يتوقف عبد الحكيم لفترة عن سرده القصص ليتوجه لصلاة المغرب، يشرب الماء خلال مضغه لفطير "مسمن"، وهو نوع من الفطائر التقليدية في المغرب، بعدها يمسح عينيه بمنديل قماشي، ليقص إحدى أقدم قصص "ألف ليلة وليلة" .. "مدينة النحاس."