المصدر - المجلة كان أسبوع واحد من الصراع العسكري الدامي في السودان كافيا لتوجيه الضربة القاضية إلى كل الآمال والإيجابيات المتبقية لتصحيح أرقام المؤشرات الاقتصادية التي جهدت الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية و"نادي باريس" لتصويبها منذ نحو أربع سنوات. لكنّ الأرقام الأهمّ والأفدح هي هذه التي تُجبَل بالدماء وقد بلغت عند كتابة هذه الكلمات 459 قتيلا و4075 مصابا بحسب منظمة الصحة العالمية ونزوح الآف المدنيين وفرار 10 آلاف شخص إلى جنوب السودان!
هي ضربة جديدة مؤلمة تأتي بعد سلسلة من النكسات ومسار تراكمي للسلبيات المالية والمعيشية امتد طوال 18 شهرا منذ الانقلاب على الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وهو الاقتصادي الخبير الذي تفاهم مع المجتمع الدولي ودفعه للاستجابة الى اتفاق تاريخي في يونيو/حزيران 2021 أعفى بموجبه السودان من 50 مليار دولار من ديونه ( نحو 90 في المئة) من أصل 56 مليارا، الأمر الذي أعاد البلاد الى سكة الأمل، تمهيدا لحصولها على أربعة مليارات دولار منحا وقروضا جديدة، صُرف قسمٌ يسير منها، قبل ان يتجمد كل شيء وتعود البلاد الى نقطة الصفر.
ها هي بلاد الخير تعود لتتصدر الشاشات والأخبار وتحتل الخبر المشؤوم الأول في العالم العربي وأفريقيا، حيث تتسابق الكاميرات والمواقع إلى النقل المباشر وتدبيج التحليلات وكتابة الريبورتاجات والتقارير وإلقاء الأضواء على الشخصيتين العسكريتين المتقاتلتين، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو "حميدتي"، بكشف النقاب عن القدرات البشرية والعسكرية و"الذهبية" لكل منهما وخلفيات الصراع المستجد بين حليفي الأمس، الذي لا يبدو حسمه قريبا،في حين تتعاظم احتمالات انزلاقه الى حرب أهلية!
وضع إنساني قاس
لكن ماذا نعرف عن اقتصاد السودان بلد الأنهار والنيلين الأبيض والأزرق، والأرض الخصبة والذهب والفضة؟
يُصنَّف السودان باعتباره واحدا من أكثر الاقتصادات فقراً في العالم، حيث يبلغ عدد سكانه نحو 48 مليون نسمة، على مساحة تزيد على 1,8 مليون كيلومتر مربع، لا يتعدى نصيب الفرد فيه من الناتج المحلي الإجمالي الألف دولار، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي لعام 2022، وقد ارتفعت البطالة فيه الى أكثر من 19 في المئة في 2021 وفقا للبنك الدولي.
كانت الاحتياجات الإنسانية في معظم مناطق السودان حتى ما قبل اندلاع النزاع الأخير، قد وصلت إلى مستويات مأسوية، وساهمت الاضطرابات المتلاحقة في البلاد في ارتفاع معدلات الفقر في السنوات المنصرمة إلى أكثر من 56 في المئة من مجموع السكان، على الرغم من شطب نصف ديون السودان ومدّه بتمويل من الصندوق بنحو 2,5 مليار دولار.
ويقدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن 18 مليون نسمة، أي أكثر من ثلث السكان، يعيشون في حال من الجوع والفقر المدقع الدائم بسبب الجفاف والحروب والصراعات المحلية، وهم في أمس الحاجة إلى مساعدات إنسانية حيوية أهمها الغذائية والصحية والتعليمية.وتتلاقى هذه التقديرات مع ما أوردته "وثيقة اللمحة العامة على الاحتياجات الإنسانية في السودان لعام 2023"، حيث يصل هذا العدد الى 15,8 مليون نسمة، مما يعني زيادة مقدارها 1,5 مليون شخص مقارنةً بعام 2022، وهو أعلى معدل سجله السودان منذ عام 2011. ووفقا للوثيقة، سيعاني نحو 4 ملايين طفل دون سن الخامسة، والنساء الحوامل والمرضعات، أي ربع الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدات في عام 2023، من سوء تغذية يهدد حياتهم.
وكان السودان حقق تقدما كبيرا في التعليم الأساسي خلال عقد من الزمن حتى عام 2018، بإضافة نحوٍ من ثلاثة آلاف مدرسة الى النظام التعليمي، مما سمح لمليون طفل إضافي بالحصول على التعليم وفق تقديرات الـ"يونيسف". لكن على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه، لا يزال نحو سبعة ملايين طفل في السودان خارج المدرسة.
الاقتصاد: نمو خجول فانكماش
قبل اندلاع المعارك بين الجنرالين، توقع صندوق النقد الدولي أن يسجل السودان نموا اقتصاديا ضعيفا في حدود 1,2 في المئة في عام 2023، بسبب الحروب والتأثيرات الكارثية لتغير المناخ. وكان الاقتصاد شهد نموا بلغ 0,5 في المئة عام 2021 عقب إعفاء السودان جزئيا من ديونه، ليعود فينكمش نحو 2,5 في المئة في عام 2022 بعد الانقلاب الذي نفذه العسكر في أكتوبر/تشرين الأول 2021 واستيلائهم على السلطة. هذه النسب هي من بين أضعف المعدلات في مجموع المنطقة العربية والقارة الأفريقية.
وكشف تقرير حديث لمركز الطاقة والسياسة العالمية التابع لجامعة كولومبيا في أبريل/نيسان 2023، أن انفصال جنوب السودان عام 2011 - الذي احتفظ بثلاثة أرباع احتياطيات النفط – أفضى إلى أن يفقد النظام نصف عائداته المالية، ونحو ثلثي قدرته على سداد موجباته الدولية، فشهد الاقتصاد على إثرها انكماشا بنسبة 10 في المئة.
ويعاني السودان ضعفا في النظام المالي والمصرفي إذ يشير خبراء الى أن نحو 90 في المئة من الكتلة النقدية في البلاد خارج الجهاز المصرفي. كما شهد البنك المركزي السوداني تراجعا كبيرا في احتياطي العملات الأجنبية، بعد توقف المساعدات الدولية بمليارات الدولارات كانت مقررة للحكومة الانتقالية، لا سيما من الولايات المتحدة الأميركية، عقب الانقلاب.
التضخم والعملة
تفاقم تدهور الجنيه السوداني منذ الانفصال، فمن أقل من 40 جنيها للدولار ما قبل عام 2011، صعودا الى 450 جنيها في عهد الحكومة الانتقالية في 2021 حيث استقر لبضعة أشهر، استمرت العملة في التراجع بعد الانقلاب العسكري، لتفقد نحو 40 في المئة من قيمتها بعد مرور خمسة أشهر على الانقلاب.وعلى الرغم من الاجراءات التي اتخذتها السلطات بقيادة الجيش، ولا سيما تشكيل لجنة طوارئ اقتصادية في آذار/مارس 2022 واتخاذها قرار تعويم الجنيه، ومنح المصارف التجارية الصلاحيات لتحديد سعر الصرف بشكل يومي، وتوقيفها عشرات التجار الذين ينشطون في تجارة العملة في السوق السوداء، فإن هذه الخطوات لم تلجم تدهور الجنيه السوداني ليصل حتى اللحظة الى نحو 570 جنيها للدولار الواحد.
بدوره بلغ التضخم في البلاد معدلات قياسية حيث ارتفعت الأسعار أكثر من359 في المئة في 2021 بحسب صندوق النقد الدولي ، وهي من أعلى المعدلات في العالم، في مقابل توقعات متفائلة للصندوق بأن ينخفض التضخم الى نحو 139في المئة في 2022، ونحو71,6 في المئة في 2023، باتت في مهبّ الصراع.
الثروات المهدورة
يتميز ذهب السودان بنوعيته وجودته ونسبة التركيز فيه وهي من بين الاعلى في العالم. يُعَد السودان أحد أهم منتجي المعدن الأصفر في القارة السمراء بـ90 إلى 120 طنا في العام وفقا لإحصاءات وزارة المعادن السودانية، ويندرج ترتيبه بين البلدان الخمسة عشر الأولى المنتجة للذهب في العالم في عام 2022، وهو الثالث في أفريقيا، تسبقه غانا وجنوب أفريقيا، وتليه مالي وبوركينا فاسو.ولكان أصبح الأول أفريقيا لولا انفصال جنوب السودان الذي يكاد يوازيه في الانتاج. تصل احتياطيات السودان من الذهب إلى 1550 طناً، وشكلت صادراته 46 في المئة من الصادرات الإجمالية البالغة 4,36 مليارات دولار في 2022 وفق أرقام البنك المركزي السوداني، أي ما يوازي 34,5 طنا من الذهب وقيمة ملياري دولار.
إلا أن السودان الذي يرزح تحت نيران الحروب والأزمات المتعاقبة، لم يتمكن من الإفادة من هذه الثروة مع سيطرة عمليات التهريب المنظم على نسبة عالية من الانتاج يمكن أن تصل إلى 80 في المئة وفقا لوكالة "رويترز"، وهي خسائر فادحة تتكبدها الموازنة العامة للدولة. وتصف صحيفة "التلغراف"البريطانية الكرملين بأكبر لاعب أجنبي في قطاع التعدين الضخم في البلاد، ولكن بالوسائل غير المشروعة، إذ تمكنتموسكومن تهريب مئات أطنان الذهب من السودان على مدى السنوات القليلة الماضية.
نكسات الإنفصال... وخسارة النفط
أدى انفصال جنوب السودان إلى نكسات اقتصادية عدة تمثلت أولاها في خسارة 75في المئة من احتياطيات السودان النفطية لصالح جنوب السودان، وفق إدارة معلومات الطاقة الأميركية، وبالتالي خسارة عائدات النفط التي شكلت أكثر من نصف عائدات الحكومة السودانية و95 في المئة من صادرات البلاد. إلا أن القطاع يلعب دورا حيويا ويرتبط ارتباطا وثيقا بالبلدين حيث تمتد معظم الأصول المنتجة للنفط عبر حدودهما المشتركة.
منذ الانفصال، انخفض إنتاج النفط في السودان وجنوب السودان بسبب غياب الاستقرار السياسي في البلدين، اذ لم تتعد قيمة صادرات السودان من النفط الخام 317 مليون دولار في 2020 بحسب تقديرات إدارة التجارة العالمية الأميركية، في ظل تواضع إنتاج حقوله النفطية عند59 ألف برميل يوميا. تملك مصفاة نفط السودان القدرة على تكرير 90 الى 95 ألف برميل يوميا. كما تتلقى الحكومة السودانية إتاوة عينية بقيمة 14 ألف برميل يوميا من حكومة جنوب السودان في مقابل حقوق عبور خط أنابيب النفط إلى بورتسودان. وكان السودان قد عرض ثمانية بلوكات نفطية في جولة التراخيص الأخيرة في محاولة لتنشيط تنمية التنقيب والإنتاج في البلاد، وكان من المرتقب البدء بمنح التراخيص خلال السنة الجارية، لكن كل ذلك سيذهب أدراج التأجيل في ضوء المعارك الجارية.
خيرات الطبيعة المهدورة
حبا الخالق السودان ثروة طبيعية قوامها 11 نهرا ونحو 180 مليون فدان من الأراضي الخصبة جدا للزراعة، ويتمتع السودان بمكانة متقدمة زراعيا، ويلقب بسلة غذاء العالم العربي، لا بل العالم، لكن هذه الثروة تهددها عوامل الجفاف والمناخ، يُضاف إليها سوء استغلال الموارد الزراعية والمائية. كان يمكن لهذه الطبيعة الخصبة والموارد الطبيعية والبشرية للسودان، حيث يشكل المزارعون 38 في المئة من السكان النشطين، أن تجتذب مئات مليارات الدولارات لولا الواقعان الأمني والسياسي في البلاد على مدى عقود.
حاليا تأتي السعودية في المرتبة الأولى باستثمارات تراكمية تبلغ نحو 36 مليار دولار في السودان تتوزع على قطاعات عدة أبرزها القطاع الزراعي الذي يعد من أهم القطاعات الجاذبة للاستثمارات العربية. تليها الإمارات باستثمارات 7 مليارات دولار، والكويت 7 مليارات دولار، كما أن مصر من أبرز الدول المستثمرة في البلاد.
ضياع العمر والثروات
إنها لسنواتٌ ضائعة من عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية المتعاقبة والمتواصلة، والحروب الأهلية المختلفة، وعدم الإفادة من الثروات الطبيعية والحيوانية والمعدنية للسودان، والحرب في دارفور والنزاع في جنوب كردفان-النيل الأزرق على مدى سنوات. تقدر خسائر هذه الحروب بنحو 500 مليار دولار على مستوى التنمية الاقتصادية، ناهيك بالخسائر البشرية، ما أوصل بلاد الروائي الطيب صالح والشاعر محمد الفيتوري، بلاد الذهب والأرض الخيرة، الى الإفلاس.وها هم عسكر البلاد أنفسهم يفتتحون فصلا جديدا من الحروب والخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة، الذاهبة في مهبّ الإهدار واللاجدوى والهباء.
هي ضربة جديدة مؤلمة تأتي بعد سلسلة من النكسات ومسار تراكمي للسلبيات المالية والمعيشية امتد طوال 18 شهرا منذ الانقلاب على الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وهو الاقتصادي الخبير الذي تفاهم مع المجتمع الدولي ودفعه للاستجابة الى اتفاق تاريخي في يونيو/حزيران 2021 أعفى بموجبه السودان من 50 مليار دولار من ديونه ( نحو 90 في المئة) من أصل 56 مليارا، الأمر الذي أعاد البلاد الى سكة الأمل، تمهيدا لحصولها على أربعة مليارات دولار منحا وقروضا جديدة، صُرف قسمٌ يسير منها، قبل ان يتجمد كل شيء وتعود البلاد الى نقطة الصفر.
ها هي بلاد الخير تعود لتتصدر الشاشات والأخبار وتحتل الخبر المشؤوم الأول في العالم العربي وأفريقيا، حيث تتسابق الكاميرات والمواقع إلى النقل المباشر وتدبيج التحليلات وكتابة الريبورتاجات والتقارير وإلقاء الأضواء على الشخصيتين العسكريتين المتقاتلتين، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو "حميدتي"، بكشف النقاب عن القدرات البشرية والعسكرية و"الذهبية" لكل منهما وخلفيات الصراع المستجد بين حليفي الأمس، الذي لا يبدو حسمه قريبا،في حين تتعاظم احتمالات انزلاقه الى حرب أهلية!
وضع إنساني قاس
لكن ماذا نعرف عن اقتصاد السودان بلد الأنهار والنيلين الأبيض والأزرق، والأرض الخصبة والذهب والفضة؟
يُصنَّف السودان باعتباره واحدا من أكثر الاقتصادات فقراً في العالم، حيث يبلغ عدد سكانه نحو 48 مليون نسمة، على مساحة تزيد على 1,8 مليون كيلومتر مربع، لا يتعدى نصيب الفرد فيه من الناتج المحلي الإجمالي الألف دولار، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي لعام 2022، وقد ارتفعت البطالة فيه الى أكثر من 19 في المئة في 2021 وفقا للبنك الدولي.
كانت الاحتياجات الإنسانية في معظم مناطق السودان حتى ما قبل اندلاع النزاع الأخير، قد وصلت إلى مستويات مأسوية، وساهمت الاضطرابات المتلاحقة في البلاد في ارتفاع معدلات الفقر في السنوات المنصرمة إلى أكثر من 56 في المئة من مجموع السكان، على الرغم من شطب نصف ديون السودان ومدّه بتمويل من الصندوق بنحو 2,5 مليار دولار.
ويقدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن 18 مليون نسمة، أي أكثر من ثلث السكان، يعيشون في حال من الجوع والفقر المدقع الدائم بسبب الجفاف والحروب والصراعات المحلية، وهم في أمس الحاجة إلى مساعدات إنسانية حيوية أهمها الغذائية والصحية والتعليمية.وتتلاقى هذه التقديرات مع ما أوردته "وثيقة اللمحة العامة على الاحتياجات الإنسانية في السودان لعام 2023"، حيث يصل هذا العدد الى 15,8 مليون نسمة، مما يعني زيادة مقدارها 1,5 مليون شخص مقارنةً بعام 2022، وهو أعلى معدل سجله السودان منذ عام 2011. ووفقا للوثيقة، سيعاني نحو 4 ملايين طفل دون سن الخامسة، والنساء الحوامل والمرضعات، أي ربع الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدات في عام 2023، من سوء تغذية يهدد حياتهم.
وكان السودان حقق تقدما كبيرا في التعليم الأساسي خلال عقد من الزمن حتى عام 2018، بإضافة نحوٍ من ثلاثة آلاف مدرسة الى النظام التعليمي، مما سمح لمليون طفل إضافي بالحصول على التعليم وفق تقديرات الـ"يونيسف". لكن على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه، لا يزال نحو سبعة ملايين طفل في السودان خارج المدرسة.
الاقتصاد: نمو خجول فانكماش
قبل اندلاع المعارك بين الجنرالين، توقع صندوق النقد الدولي أن يسجل السودان نموا اقتصاديا ضعيفا في حدود 1,2 في المئة في عام 2023، بسبب الحروب والتأثيرات الكارثية لتغير المناخ. وكان الاقتصاد شهد نموا بلغ 0,5 في المئة عام 2021 عقب إعفاء السودان جزئيا من ديونه، ليعود فينكمش نحو 2,5 في المئة في عام 2022 بعد الانقلاب الذي نفذه العسكر في أكتوبر/تشرين الأول 2021 واستيلائهم على السلطة. هذه النسب هي من بين أضعف المعدلات في مجموع المنطقة العربية والقارة الأفريقية.
وكشف تقرير حديث لمركز الطاقة والسياسة العالمية التابع لجامعة كولومبيا في أبريل/نيسان 2023، أن انفصال جنوب السودان عام 2011 - الذي احتفظ بثلاثة أرباع احتياطيات النفط – أفضى إلى أن يفقد النظام نصف عائداته المالية، ونحو ثلثي قدرته على سداد موجباته الدولية، فشهد الاقتصاد على إثرها انكماشا بنسبة 10 في المئة.
ويعاني السودان ضعفا في النظام المالي والمصرفي إذ يشير خبراء الى أن نحو 90 في المئة من الكتلة النقدية في البلاد خارج الجهاز المصرفي. كما شهد البنك المركزي السوداني تراجعا كبيرا في احتياطي العملات الأجنبية، بعد توقف المساعدات الدولية بمليارات الدولارات كانت مقررة للحكومة الانتقالية، لا سيما من الولايات المتحدة الأميركية، عقب الانقلاب.
التضخم والعملة
تفاقم تدهور الجنيه السوداني منذ الانفصال، فمن أقل من 40 جنيها للدولار ما قبل عام 2011، صعودا الى 450 جنيها في عهد الحكومة الانتقالية في 2021 حيث استقر لبضعة أشهر، استمرت العملة في التراجع بعد الانقلاب العسكري، لتفقد نحو 40 في المئة من قيمتها بعد مرور خمسة أشهر على الانقلاب.وعلى الرغم من الاجراءات التي اتخذتها السلطات بقيادة الجيش، ولا سيما تشكيل لجنة طوارئ اقتصادية في آذار/مارس 2022 واتخاذها قرار تعويم الجنيه، ومنح المصارف التجارية الصلاحيات لتحديد سعر الصرف بشكل يومي، وتوقيفها عشرات التجار الذين ينشطون في تجارة العملة في السوق السوداء، فإن هذه الخطوات لم تلجم تدهور الجنيه السوداني ليصل حتى اللحظة الى نحو 570 جنيها للدولار الواحد.
بدوره بلغ التضخم في البلاد معدلات قياسية حيث ارتفعت الأسعار أكثر من359 في المئة في 2021 بحسب صندوق النقد الدولي ، وهي من أعلى المعدلات في العالم، في مقابل توقعات متفائلة للصندوق بأن ينخفض التضخم الى نحو 139في المئة في 2022، ونحو71,6 في المئة في 2023، باتت في مهبّ الصراع.
الثروات المهدورة
يتميز ذهب السودان بنوعيته وجودته ونسبة التركيز فيه وهي من بين الاعلى في العالم. يُعَد السودان أحد أهم منتجي المعدن الأصفر في القارة السمراء بـ90 إلى 120 طنا في العام وفقا لإحصاءات وزارة المعادن السودانية، ويندرج ترتيبه بين البلدان الخمسة عشر الأولى المنتجة للذهب في العالم في عام 2022، وهو الثالث في أفريقيا، تسبقه غانا وجنوب أفريقيا، وتليه مالي وبوركينا فاسو.ولكان أصبح الأول أفريقيا لولا انفصال جنوب السودان الذي يكاد يوازيه في الانتاج. تصل احتياطيات السودان من الذهب إلى 1550 طناً، وشكلت صادراته 46 في المئة من الصادرات الإجمالية البالغة 4,36 مليارات دولار في 2022 وفق أرقام البنك المركزي السوداني، أي ما يوازي 34,5 طنا من الذهب وقيمة ملياري دولار.
إلا أن السودان الذي يرزح تحت نيران الحروب والأزمات المتعاقبة، لم يتمكن من الإفادة من هذه الثروة مع سيطرة عمليات التهريب المنظم على نسبة عالية من الانتاج يمكن أن تصل إلى 80 في المئة وفقا لوكالة "رويترز"، وهي خسائر فادحة تتكبدها الموازنة العامة للدولة. وتصف صحيفة "التلغراف"البريطانية الكرملين بأكبر لاعب أجنبي في قطاع التعدين الضخم في البلاد، ولكن بالوسائل غير المشروعة، إذ تمكنتموسكومن تهريب مئات أطنان الذهب من السودان على مدى السنوات القليلة الماضية.
نكسات الإنفصال... وخسارة النفط
أدى انفصال جنوب السودان إلى نكسات اقتصادية عدة تمثلت أولاها في خسارة 75في المئة من احتياطيات السودان النفطية لصالح جنوب السودان، وفق إدارة معلومات الطاقة الأميركية، وبالتالي خسارة عائدات النفط التي شكلت أكثر من نصف عائدات الحكومة السودانية و95 في المئة من صادرات البلاد. إلا أن القطاع يلعب دورا حيويا ويرتبط ارتباطا وثيقا بالبلدين حيث تمتد معظم الأصول المنتجة للنفط عبر حدودهما المشتركة.
منذ الانفصال، انخفض إنتاج النفط في السودان وجنوب السودان بسبب غياب الاستقرار السياسي في البلدين، اذ لم تتعد قيمة صادرات السودان من النفط الخام 317 مليون دولار في 2020 بحسب تقديرات إدارة التجارة العالمية الأميركية، في ظل تواضع إنتاج حقوله النفطية عند59 ألف برميل يوميا. تملك مصفاة نفط السودان القدرة على تكرير 90 الى 95 ألف برميل يوميا. كما تتلقى الحكومة السودانية إتاوة عينية بقيمة 14 ألف برميل يوميا من حكومة جنوب السودان في مقابل حقوق عبور خط أنابيب النفط إلى بورتسودان. وكان السودان قد عرض ثمانية بلوكات نفطية في جولة التراخيص الأخيرة في محاولة لتنشيط تنمية التنقيب والإنتاج في البلاد، وكان من المرتقب البدء بمنح التراخيص خلال السنة الجارية، لكن كل ذلك سيذهب أدراج التأجيل في ضوء المعارك الجارية.
خيرات الطبيعة المهدورة
حبا الخالق السودان ثروة طبيعية قوامها 11 نهرا ونحو 180 مليون فدان من الأراضي الخصبة جدا للزراعة، ويتمتع السودان بمكانة متقدمة زراعيا، ويلقب بسلة غذاء العالم العربي، لا بل العالم، لكن هذه الثروة تهددها عوامل الجفاف والمناخ، يُضاف إليها سوء استغلال الموارد الزراعية والمائية. كان يمكن لهذه الطبيعة الخصبة والموارد الطبيعية والبشرية للسودان، حيث يشكل المزارعون 38 في المئة من السكان النشطين، أن تجتذب مئات مليارات الدولارات لولا الواقعان الأمني والسياسي في البلاد على مدى عقود.
حاليا تأتي السعودية في المرتبة الأولى باستثمارات تراكمية تبلغ نحو 36 مليار دولار في السودان تتوزع على قطاعات عدة أبرزها القطاع الزراعي الذي يعد من أهم القطاعات الجاذبة للاستثمارات العربية. تليها الإمارات باستثمارات 7 مليارات دولار، والكويت 7 مليارات دولار، كما أن مصر من أبرز الدول المستثمرة في البلاد.
ضياع العمر والثروات
إنها لسنواتٌ ضائعة من عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية المتعاقبة والمتواصلة، والحروب الأهلية المختلفة، وعدم الإفادة من الثروات الطبيعية والحيوانية والمعدنية للسودان، والحرب في دارفور والنزاع في جنوب كردفان-النيل الأزرق على مدى سنوات. تقدر خسائر هذه الحروب بنحو 500 مليار دولار على مستوى التنمية الاقتصادية، ناهيك بالخسائر البشرية، ما أوصل بلاد الروائي الطيب صالح والشاعر محمد الفيتوري، بلاد الذهب والأرض الخيرة، الى الإفلاس.وها هم عسكر البلاد أنفسهم يفتتحون فصلا جديدا من الحروب والخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة، الذاهبة في مهبّ الإهدار واللاجدوى والهباء.