سؤال يطرح نفسه : هل انتهى زمن الصحافة الورقية ؟
المصدر -
1– الصحافة الورقية في أزمة
شهدت الصحافة الورقية خلال السنوات الأخيرة ازمة حقيقية، أخذ تتفاقم من سنة إلى أخرى في العديد من الدول الغربية المتقدمة نتيجة لثورة الاتصالات والمعلومات وظهور شبكة الإنترنت. وتتمثل هذه الأزمة في عزوف الكثير من القراء عن اقتناء أو مطالعة الصحف الورقية ونشوء جيل جديد لم يعد يتعامل مع الورق، وفي تغيّر أنماط الاهتمام والقراءة لدى مجتمع المعرفة، وشيوع ثقافة الحصول المجاني على المعلومة. كل هذا أدى إلى التراجع المتواصل لمبيعات الصحف الورقية وانخفاض عائداتها من الإعلانات، التي تتحرك بسرعة صوب شبكة الإنترنت.
وقد لجأت مجموعة كبيرة من الصحف ذائعة الصيت إلى تقليص أرقام توزيعها والغاء آلاف الوظائف وتسريح عدد كبير من العاملين فيها، بينها صحف، واسعة الانتشار مثل شيكاغو تربيون، بوسطن غلوب وانجلوس تايمز، وحتى المجلة الأوسع انتشارا في العالم وهي مجلة تايم الأميركية الشهيرة.
وثمة صحف اخرى، تحولت إلى صحف رقمية، مثل كريستيان ساينس مونيتور التي الغت طبعتها الورقية منذ العام 2008 واكتفت بنسخة رقمية على موقعها على شبكة الانترنت.
واعلنت مجلة نيوزيوك الأسبوعية الأميركية الشهيرة توقف نسختها الورقية عن الصدور منذ نهاية العام الماضي واقتصارها على نسختها الالكترونية التي حملت عنوان نيوزويك غلوبال من بداية العام الحالي. كما توقفت مجلة يو أس نيوز أند ريبورت وهي الثالثة الأوسع انتشارا في أميركا في تشرين الثاني من العام 2010، اضافة إلى المئات من الصحف المحلية الأميركية، التي اختفت عن الوجود نهائياً. وتشير الإحصاءات إلى ان عدد الوظائف في الصحافة الورقية الأميركية قد تقلص بحوالي 30% منذ عام 2008 ومن المتوقع ان تستمر هذه العملية بوتائر أسرع في المستقبل المنظور.
ولم تقتصر الأزمة على الولايات المتحدة، ففي بريطانيا تم إغلاق صحيفة ذي لندن بيبير بعد الإعلان عن إغلاق أكثر من مائة صحيفة محلية لفشلها في التكيّف مع ظروف المنافسة الحادة مع الإعلام الإلكتروني. ويبدو ان صحيفة الغارديان اليومية، واسعة الانتشار على وشك ايقاف القطاع المطبوع من الصحيفة وملحقها الأسبوعي الأوبزيرفر نظرا لتكبد هذا القطاع خسارة تقدر بحوالي 44 مليون دولار سنويا.
وقد رضخت ثلاث صحف تقليدية كبرى في لندن إلى أن تعتمد مقاسات أصغر لصحفها، تنافسا مع باقي الصحف الأخرى التي اعتمدت مقياس أقرب إلى مقاييس صحف التابلويد النصفية، كما أضطرت هذه الصحف إلى أن تعيد النظر في تبويباتها الصحافية لتواكب احتياجات سوق الجمهور من القراء.
وفي فرنسا توقفت جريدة فرانس سوار عن الصدور منذ شهر نوفمبر 2011، واكتفت بنسخة على الانترنت، وكانت إلى عهد قريب مؤسسة إعلامية مرموقة، عمل فيها مجموعة كبيرة من الإعلاميين على مستوى العالم.
وفي اسرائيل توقفت صحيفة معاريف عن توزيع طبعتها الورقية في الثالث من ايلول العام الماضي مع استمرار نسختها الالكترونية على شبكة الإنترنت.
وأزمة الطباعة والنشر شاملة ولا تقتصر على نوع محدد من المطبوعات الدورية. فقد اضطرت أشهر موسوعة عالمية وهي “الموسوعة البريطانية” إلى التوقف عن نشر نسختها المطبوعة والاقتصار على نسختها الالكترونية. كما تراجعت أرقام مبيعات الكتب الورقية، في حين أن الكتب الالكترونية تلقي رواجاً كبيراً وهذا يدل على التحول السريع والواسع من النشر الورقي إلى النشر الالكتروني.
وقد أتخذ هذا التحول اشكالا عديدة فهنالك صحف الكترونية تعد نسخة كاملة موازية لطبعاتها الورقية وأخري يقتصر النشر الالكتروني فيها على أجزاء مختارة من المحتوى. ولكن معظم الصحف الالكترونية ليس لها نسخ ورقية رديفة ويقتصر على النشر الالكتروني وحسب.
ويرى الملياردير روبرت موردوك، الذي يملك أكبر امبراطورية اعلامية في العالم – ان صح التعبير – أن كثيرا من الصحف الحالية في المملكة المتحدة ستتلاشى في القريب العاجل، ولن يتحمل سوق الصحف أكثر من صحيفة واحدة في كل سوق صحافية. وقد بينت الإحصائيات والاستبيانات الأخيرة صحة ما ذهب اليه موردوك.
وعلى النقيض من الدول الغربية، فأن الصحافة الورقية في البلدان النامية تشهد طفرة حقيقية ففي أفريقيا، ارتفع توزيعها بنسبة 14.2٪، وفي أميركا الجنوبية وآسيا لأكثر من 16٪.خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
ويرجع السبب في ذلك إلى محدودية انتشار الإنترنت فيها، ويتوقع ان يتوقف هذا الازدهار ويتراجع عندما يتم استخدام الإنترنت على نطاق واسع في العالم النامي.
ويبلغ عدد قراء الصحف الورقية في العالم حالياً نحو 1.7 مليار شخص. ولكن في مقابل هؤلاء فإن هناك حوالي 2.5 مليار من البشر يتعاملون مع الإنترنت وصحافته الالكترونية، التي تكتسب مزيدا من الجمهور القاري بمضي الزمن.
ان هذه الأزمة تطرح قضية في غاية الأهمية وهي مدى قدرة الصحافة الورقية على التكيّف والتعايش مع التطورات المتسارعة في ثورة ألاتصالات والمعلومات وانعكاسات الأخيرة على ممارسات العمل الصحفي.
2 – عادات القراءة الجديدة
يعتقد البعض ان ما يحدث للصحافة الورقية من تراجع وانحسار، ليس بمعزل عن الأزمة المالية العالمية الحالية، التي قد تكون مؤقتة وعابرة، ولكن التحدي الحقيقي المتواصل، الذي تواجهه الصحافة المطبوعة في العصر الرقمي، هو التغييرات الجذرية في عادات القراءة وأذواق الأجيال الجديدة، التي تتوجه بقوة صوب الصحافة الالكترونية، حيث ان الكثير من القراء، الذين كانوا يواظبون على قراءة صحفهم المفضلة مع قهوة الصباح، تحولوا إلى استخدام شبكة الإنترنت لمتابعة الأخبار اليومية ومعرفة أحدث المعلومات من مصادر متعددة، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات.
الجيل الجديد في عالم اليوم يريد الحصول على الأخبار بسرعة، كما يأكل في مطاعم “الفاست فوود”. وهذا التحول في عادات القراءة تشكل جوهر الأزمة التي تعاني منها الصحافة الورقية في العالم.
ان تصفح الصحف الالكترونية أقل تكلفة، والوصول إليها أسهل بكثير من الصحف الورقية. بإمكانك أن تتصفح ما تشاء من صحف العالم سواء كنت في بيتك تحتسي قهوة الصباح أو في مكان عملك أو أي مكان آخر تتوفر فيه خدمة الإنترنت.
معظم المتصفحين من الفئة الشبابية، لا يهتمون كثيراً بالمقالات الجادة والتقارير المطولة ولا بتفاصيل الأخبار، بل يلقون نظرة عابرة على العناوين في الصفحة الأولى. وهذه حقيقة ادركها فتى انجليزي في السابعة عشرة من العمر يدعي نك دي اليوزي، الذي وضع برنامجاً لتلخيص الأخبار وتحول إلى مليونير في فترة وجيزة.
التطبيق الجديد يقوم بتحليل الخبر ومن ثم تحويله إلى نص مكون من 400 حرف، بحيث يحصل المستخدم على الخلاصة المفيدة من الخبر. وحسب قناة بي بي سي يشير نك إلى أنه وجد أن قراءة التقارير الإخبارية المطولة على شاشة الهاتف الذكي الصغيرة أمر غير مريح، من هنا قام ببرمجة هذا التطبيق.
3 – صحافة تفاعلية جديدة
كتب احد أبرز المدافعين عن الصحافة الورقية في العالم العربي وهو الصحفي المعروف الأستاذ عبدالرحمن الراشد مقالا في جريدة الشرق الأوسط يقول فيها:
” هل سيصبح مصير الصحف الورقية مثل مصير الحمير والبغال والخيول في زمن ظهور السيارة؟ هل فعلا حان موعد تفكيك المؤسسات الصحافية والانتقال إلى الوسيلة الجديدة، المواقع الإلكترونية؟ رغم احتفاء الزميلات من المواقع الإلكترونية بأنباء وفيات الصحف المنتشرة في أنحاء العالم، كما لو أن وباء قد أصابها، فإنها قراءة خاطئة في نظري، وستثبت الأيام أن الصحف الورقية باقية لكن بلا ورق. وهنا يقع خلط، وربما تدليس متعمد، بإضافة كلمة الورقية إلى الصحف. فالصحيفة شكلا ورقية لكنها في واقع الأمر محتوي، أي الأخبار والآراء، أي المنتج المكتوب سواء كان على ورق أو جدران، كما كان يفعل الصينيون في الماضي، حيث تعلق ورقة على لوح في الحي ليصطف الناس في طابور لقراءتها بسبب نقص الورق وكثافة السكان، أو مثل الصحيفة اليوم من خلال الصفحات الإلكترونية. (لن تموت الصحافة.. عبدالرحمن الراشد، جريدة الشرق الأوسط، العدد 11509 الصادر في 2 يونيو 2010)
هذا الرأي – رغم احترامنا للكاتب – غير صحيح، لأن الصحافة الالكترونية تختلف عن الورقية ليس فقط من حيث الوسيلة المستخدمة لتقديم المادة الصحفية او للقراءة، بل من حيث المحتوى أيضاً، فالصحافة الالكترونية لا تقتصر على المنتج المكتوب، بل قدمت انواعا جديدة من طرق عرض الخبر مثل الفيديوهات، التي تنقل القارئ مباشرة إلى موقع الحدث بالصوت والصورة في الوقت الذي تكون فيه الصحيفة الورقية مضطرة لانتظار 24 ساعة لطبع الخبر وقد تكون أحداث أخرى قد جرت بعد ذلك، وبهذا تكون الصحف الورقية قد فقدت اهم عنصر من عناصر النجاح وهو ما يسمي بـ”السبق الصحفي”.
ولعل ابلغ دليل على قدرة الصحافة الالكترونية على نشر الأخبار بشكل فوري وعلي أوسع نطاق إلى جميع أنحاء العالم، هو ان الرئيس الأميركي باراك أوباما اختار موقع “تويتر” ليشكر مؤيديه بعد فوزه بولاية ثانية ليكون أول رئيس أميركي يعلن فوزه في تأريخ سباق رئاسة الولايات المتحدة عبر موقع للتواصل الاجتماعي. وقال اوباما عبر تغريده على موقعه في “تويتر”، “شكرا لكم.. لقد حدث هذا بسببكم”.
لا تستطيع الصحف الورقية مجاراة الصحف الالكترونية كوسيط نقل جديد للمعلومة والإعلان والتنافس مع مواقع التواصل الأجتماعي على الإنترنت – التي تجتذب مئات الملايين من المتصفحين مثل “التويتر”، “الفيسبوك” وغيرهما – في سرعة نشر الخبر للقارئ وقت حدوثه وتحديثه لحظة بلحظة، في زمن يتقادم فيه الخبر بسرعة بالغة، وإتاحة المجال للقراء للمشاركة في تحريرها والتعبير عن آرائهم ومناقشتها مع قراء آخرين بكل حرية على نحو لم يسبق له مثيلا.
كل ما تقدمه الصحافة الورقية من محتوى مرة في اليوم او الأسبوع، تقدمه الصحف الرقمية مجانا وفورا بكل سهولة. ولعل فوز الصحيفة الإلكترونية هفنجتون بوست بجائزة بوليتزر للصحافة لعام 2012 بعد أن تخطّت صحفاً عريقة لتنال الجائزة الأهم في الإعلام الأميركي، هو اعتراف صريح بالتفوق الرقمي على الورقي التقليدي.
ولا يقتصر الاختلاف بين الصحافتين على سرعة النشر والوسيلة المستخدمة لنقل المحتوى كما يظن البعض، فالصحافة الرقمية تقدم خدمات اعلامية كثيرة تعجزعنها الورقية منها الندوات وبرامج المحادثة (الشات) وشريط الأخبار المتحرك، اضافة إلى عدم وجود محددات لحجم المواد المنشورة وزمن العرض. وعلى خلاف الصحافة الورقية فأن الصحيفة الالكترونية بإمكانها تقديم المعلومة الجديدة بالحجم الكامل في أي وقت. كما تسمح شبكة الإنترنت بتراكم المعلومات وحفظها وأرشفتها. وبدلا من ايراد مقتطفات من المصادر، فأن النشر الالكتروني يسمح للكاتب بوضع روابط لمصادر ومراجع المادة المنشورة سواء اكانت مقالة او دراسة او حتى كتابا كاملا. بذلك يقتصد الباحث او الكاتب كثيرأ في حجم البحث أو الدراسة.
وثمة امكانيات فنية أخرى للصحف الالكترونية منها خدمة الانتقال إلى الإذاعات والقنوات الفضائية، وخدمات التعليقات، الردود الآنية، ألربط بالمواقع الأخري والأحصائيات الخاصة بالموقع الالكتروني (عدد القراءات لكل مادة صحفية وتوزيع القراء حسب البلدان والفئات العمرية والتحصيل العلمي وغيرها من البيانات)، التي تتيح للصحيفة الألكترونية معرفة مواطن القوة والضعف في عملها من اجل التطوير اللاحق.
4– مستقبل الصحافة الورقية
يتبنى خبراء الأعلام رؤية متشائمة لمستقبل الصحف والمجلات المطبوعة. ويرى عملاق الصحافة روبيرت مردوك أن الصحافة الورقية سوف تختفي بحلول عام 2020.
ويقول مؤلف كتاب “النهاية الحتمية للأعلام الورقي” فيليب ماييرز ان آخر مطبوع ورقي سيصدر في عام 2043.
كما تشير الدراسات الخاصة بمستقبل الصحافة الورقية إلى أن الصحافيين أنفسهم يعتقدون أن أنها ستكون أقل أهمية في الحياة العامة في السنوات القادمة.
ولكننا نعتقد ان تزايد قوة وفاعلية الصحافة الالكترونية، لا يعني بأي حال من الأحوال انقراض الصحافة الورقية المطبوعة في المستقبل المنظور، فما يحدث غالباً أن الوسائط الأكثر الحداثة، لا تؤدي بالضرورة إلى انقراض الوسائل القديمة. فالصحافة الرقمية لا تلغي دور الصحافة الورقية وأنهما يمكن ان يتعايشا مع بعضهما البعض، خاصة وان لكل منهما قارئه الخاص به ومصدره في استقاء الاخبار.
ومن متابعتنا للصحافة الرقمية وجدنا أن الجزء الأكبر من محتواها، سطحي، مما يؤدي إلى قمع حب الاستطلاع الذهني لدى الشباب، لأنهم يسبحون على سطح بحر المعلومات من دون نزول إلى الأعماق، حيث المعرفة الحقيقية. أما قارئ الصحف الورقية فهو يبحث عن المعلومات المعمقة والتفاصيل الدقيقة وكل ما ينمي تفكيره ويثري ثقافته.
لم ينته بعد، زمن الصحف الورقية في العصر الحاضر ولن ينتهي قريباً كما يزعم المتشائمون، ولكن على الصحف تأهيل نفسها للعصر الرقمي والإطلالة على العالم بنسخ إلكترونية لها على الإنترنت، لأن المواقع الالكترونية هي نافذة الصحافة الورقية للقراء. وثمة مفارقة بالغة الدلالة على حيوية الصحف الورقية وهي ان كثيراً من الصحف التي بدأت بداية إلكترونية فقط، توجهت بعد ذلك إلى الطباعة الورقية، ويبدو ان العلاقة المتبادلة بين الوسيلتين الورقية والرقمية ماضية إلى مزيد من التجسير والتكامل رغم المنافسة الشديدة القائمة حاليا بينهما.
وتجربة موقع “ويكليكس” وهو احد اشهر المواقع الالكترونية العالمية دليل آخر على ان الصحافة الورقية ما زالت مؤثرة جدا، رغم كل ما يقال عن سطوة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، فالوثائق السرية التي نشرها الموقع المذكور اتسع تأثيره كثيراً، بعد لجوء صاحب الموقع جوليان أسانج إلى كبريات المؤسسات الصحفية في جميع دول العالم لنشر ما بحوزته من وثائق في صحفها المطبوعة بشكل ورقي لاسيما في بريطانيا، وقد احدث هذا النشر ضجة كبرى اهتزت لها الحكومات في شتى انحاء العالم وبخاصة الفاسدة منها. وهذا دليل آخر على أن الصحافة الرقمية لن تكون بديلا عن الصحافة الورقية في المستقبل المنظور على الأقل، وان الوقت ما يزال مبكرا للحديث عن اختفاء الصحف المطبوعة قريبا.
وتبقى مسألة جوهرية في غاية الأهمية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها بأي حال من الأحوال، وهي ان الصحافة الالكترونية تفتقر إلى الديمومة التي تتصف بها المطبوعات الورقية. وان معظم ما نعرفه عن ماضي البشرية مدون بطرق مختلفة على الأشياء المادية: ألواح الطين، أوراق البردي، الأحجار، الجلود، ثم الورق ولولا هذا التدوين لضاع تاريخ البشرية ولم يكن بوسع العلماء تفكيك طلاسم اللغات القديمة المندثرة. والأسوأ من ذلك ان التراث الرقمي – ان صح التعبير – يمكن تغييره او تحريفه بسهولة، خلافا للآثار المادية للتأريخ.و ثمة امكانية للوقوف على أي تغيير أو تحوير أو تشويه في الآثار المكتوبة ومنها المطبوعة، أما في النصوص الالكترونية فلا يمكن اكتشاف ذلك أبدا.
الصحافة الورقية عصية على الموت، ولا يزال هناك عدد غفير من الناس وبضمنهم أصحاب ألمع العقول البشرية وخيرة المثقفين، الذين تربطهم علاقة عاطفية بالورقة والقلم ولا يمكنهم الاستغناء عن الصحافة المطبوعة والنشر الورقي طيلة حياتهم، أضافة إلى مئات الملايين من القراء الذين لم يكتشفوا بعد العالم الرقمي ولا يتعاملون الا مع الورق
شهدت الصحافة الورقية خلال السنوات الأخيرة ازمة حقيقية، أخذ تتفاقم من سنة إلى أخرى في العديد من الدول الغربية المتقدمة نتيجة لثورة الاتصالات والمعلومات وظهور شبكة الإنترنت. وتتمثل هذه الأزمة في عزوف الكثير من القراء عن اقتناء أو مطالعة الصحف الورقية ونشوء جيل جديد لم يعد يتعامل مع الورق، وفي تغيّر أنماط الاهتمام والقراءة لدى مجتمع المعرفة، وشيوع ثقافة الحصول المجاني على المعلومة. كل هذا أدى إلى التراجع المتواصل لمبيعات الصحف الورقية وانخفاض عائداتها من الإعلانات، التي تتحرك بسرعة صوب شبكة الإنترنت.
وقد لجأت مجموعة كبيرة من الصحف ذائعة الصيت إلى تقليص أرقام توزيعها والغاء آلاف الوظائف وتسريح عدد كبير من العاملين فيها، بينها صحف، واسعة الانتشار مثل شيكاغو تربيون، بوسطن غلوب وانجلوس تايمز، وحتى المجلة الأوسع انتشارا في العالم وهي مجلة تايم الأميركية الشهيرة.
وثمة صحف اخرى، تحولت إلى صحف رقمية، مثل كريستيان ساينس مونيتور التي الغت طبعتها الورقية منذ العام 2008 واكتفت بنسخة رقمية على موقعها على شبكة الانترنت.
واعلنت مجلة نيوزيوك الأسبوعية الأميركية الشهيرة توقف نسختها الورقية عن الصدور منذ نهاية العام الماضي واقتصارها على نسختها الالكترونية التي حملت عنوان نيوزويك غلوبال من بداية العام الحالي. كما توقفت مجلة يو أس نيوز أند ريبورت وهي الثالثة الأوسع انتشارا في أميركا في تشرين الثاني من العام 2010، اضافة إلى المئات من الصحف المحلية الأميركية، التي اختفت عن الوجود نهائياً. وتشير الإحصاءات إلى ان عدد الوظائف في الصحافة الورقية الأميركية قد تقلص بحوالي 30% منذ عام 2008 ومن المتوقع ان تستمر هذه العملية بوتائر أسرع في المستقبل المنظور.
ولم تقتصر الأزمة على الولايات المتحدة، ففي بريطانيا تم إغلاق صحيفة ذي لندن بيبير بعد الإعلان عن إغلاق أكثر من مائة صحيفة محلية لفشلها في التكيّف مع ظروف المنافسة الحادة مع الإعلام الإلكتروني. ويبدو ان صحيفة الغارديان اليومية، واسعة الانتشار على وشك ايقاف القطاع المطبوع من الصحيفة وملحقها الأسبوعي الأوبزيرفر نظرا لتكبد هذا القطاع خسارة تقدر بحوالي 44 مليون دولار سنويا.
وقد رضخت ثلاث صحف تقليدية كبرى في لندن إلى أن تعتمد مقاسات أصغر لصحفها، تنافسا مع باقي الصحف الأخرى التي اعتمدت مقياس أقرب إلى مقاييس صحف التابلويد النصفية، كما أضطرت هذه الصحف إلى أن تعيد النظر في تبويباتها الصحافية لتواكب احتياجات سوق الجمهور من القراء.
وفي فرنسا توقفت جريدة فرانس سوار عن الصدور منذ شهر نوفمبر 2011، واكتفت بنسخة على الانترنت، وكانت إلى عهد قريب مؤسسة إعلامية مرموقة، عمل فيها مجموعة كبيرة من الإعلاميين على مستوى العالم.
وفي اسرائيل توقفت صحيفة معاريف عن توزيع طبعتها الورقية في الثالث من ايلول العام الماضي مع استمرار نسختها الالكترونية على شبكة الإنترنت.
وأزمة الطباعة والنشر شاملة ولا تقتصر على نوع محدد من المطبوعات الدورية. فقد اضطرت أشهر موسوعة عالمية وهي “الموسوعة البريطانية” إلى التوقف عن نشر نسختها المطبوعة والاقتصار على نسختها الالكترونية. كما تراجعت أرقام مبيعات الكتب الورقية، في حين أن الكتب الالكترونية تلقي رواجاً كبيراً وهذا يدل على التحول السريع والواسع من النشر الورقي إلى النشر الالكتروني.
وقد أتخذ هذا التحول اشكالا عديدة فهنالك صحف الكترونية تعد نسخة كاملة موازية لطبعاتها الورقية وأخري يقتصر النشر الالكتروني فيها على أجزاء مختارة من المحتوى. ولكن معظم الصحف الالكترونية ليس لها نسخ ورقية رديفة ويقتصر على النشر الالكتروني وحسب.
ويرى الملياردير روبرت موردوك، الذي يملك أكبر امبراطورية اعلامية في العالم – ان صح التعبير – أن كثيرا من الصحف الحالية في المملكة المتحدة ستتلاشى في القريب العاجل، ولن يتحمل سوق الصحف أكثر من صحيفة واحدة في كل سوق صحافية. وقد بينت الإحصائيات والاستبيانات الأخيرة صحة ما ذهب اليه موردوك.
وعلى النقيض من الدول الغربية، فأن الصحافة الورقية في البلدان النامية تشهد طفرة حقيقية ففي أفريقيا، ارتفع توزيعها بنسبة 14.2٪، وفي أميركا الجنوبية وآسيا لأكثر من 16٪.خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
ويرجع السبب في ذلك إلى محدودية انتشار الإنترنت فيها، ويتوقع ان يتوقف هذا الازدهار ويتراجع عندما يتم استخدام الإنترنت على نطاق واسع في العالم النامي.
ويبلغ عدد قراء الصحف الورقية في العالم حالياً نحو 1.7 مليار شخص. ولكن في مقابل هؤلاء فإن هناك حوالي 2.5 مليار من البشر يتعاملون مع الإنترنت وصحافته الالكترونية، التي تكتسب مزيدا من الجمهور القاري بمضي الزمن.
ان هذه الأزمة تطرح قضية في غاية الأهمية وهي مدى قدرة الصحافة الورقية على التكيّف والتعايش مع التطورات المتسارعة في ثورة ألاتصالات والمعلومات وانعكاسات الأخيرة على ممارسات العمل الصحفي.
2 – عادات القراءة الجديدة
يعتقد البعض ان ما يحدث للصحافة الورقية من تراجع وانحسار، ليس بمعزل عن الأزمة المالية العالمية الحالية، التي قد تكون مؤقتة وعابرة، ولكن التحدي الحقيقي المتواصل، الذي تواجهه الصحافة المطبوعة في العصر الرقمي، هو التغييرات الجذرية في عادات القراءة وأذواق الأجيال الجديدة، التي تتوجه بقوة صوب الصحافة الالكترونية، حيث ان الكثير من القراء، الذين كانوا يواظبون على قراءة صحفهم المفضلة مع قهوة الصباح، تحولوا إلى استخدام شبكة الإنترنت لمتابعة الأخبار اليومية ومعرفة أحدث المعلومات من مصادر متعددة، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات.
الجيل الجديد في عالم اليوم يريد الحصول على الأخبار بسرعة، كما يأكل في مطاعم “الفاست فوود”. وهذا التحول في عادات القراءة تشكل جوهر الأزمة التي تعاني منها الصحافة الورقية في العالم.
ان تصفح الصحف الالكترونية أقل تكلفة، والوصول إليها أسهل بكثير من الصحف الورقية. بإمكانك أن تتصفح ما تشاء من صحف العالم سواء كنت في بيتك تحتسي قهوة الصباح أو في مكان عملك أو أي مكان آخر تتوفر فيه خدمة الإنترنت.
معظم المتصفحين من الفئة الشبابية، لا يهتمون كثيراً بالمقالات الجادة والتقارير المطولة ولا بتفاصيل الأخبار، بل يلقون نظرة عابرة على العناوين في الصفحة الأولى. وهذه حقيقة ادركها فتى انجليزي في السابعة عشرة من العمر يدعي نك دي اليوزي، الذي وضع برنامجاً لتلخيص الأخبار وتحول إلى مليونير في فترة وجيزة.
التطبيق الجديد يقوم بتحليل الخبر ومن ثم تحويله إلى نص مكون من 400 حرف، بحيث يحصل المستخدم على الخلاصة المفيدة من الخبر. وحسب قناة بي بي سي يشير نك إلى أنه وجد أن قراءة التقارير الإخبارية المطولة على شاشة الهاتف الذكي الصغيرة أمر غير مريح، من هنا قام ببرمجة هذا التطبيق.
3 – صحافة تفاعلية جديدة
كتب احد أبرز المدافعين عن الصحافة الورقية في العالم العربي وهو الصحفي المعروف الأستاذ عبدالرحمن الراشد مقالا في جريدة الشرق الأوسط يقول فيها:
” هل سيصبح مصير الصحف الورقية مثل مصير الحمير والبغال والخيول في زمن ظهور السيارة؟ هل فعلا حان موعد تفكيك المؤسسات الصحافية والانتقال إلى الوسيلة الجديدة، المواقع الإلكترونية؟ رغم احتفاء الزميلات من المواقع الإلكترونية بأنباء وفيات الصحف المنتشرة في أنحاء العالم، كما لو أن وباء قد أصابها، فإنها قراءة خاطئة في نظري، وستثبت الأيام أن الصحف الورقية باقية لكن بلا ورق. وهنا يقع خلط، وربما تدليس متعمد، بإضافة كلمة الورقية إلى الصحف. فالصحيفة شكلا ورقية لكنها في واقع الأمر محتوي، أي الأخبار والآراء، أي المنتج المكتوب سواء كان على ورق أو جدران، كما كان يفعل الصينيون في الماضي، حيث تعلق ورقة على لوح في الحي ليصطف الناس في طابور لقراءتها بسبب نقص الورق وكثافة السكان، أو مثل الصحيفة اليوم من خلال الصفحات الإلكترونية. (لن تموت الصحافة.. عبدالرحمن الراشد، جريدة الشرق الأوسط، العدد 11509 الصادر في 2 يونيو 2010)
هذا الرأي – رغم احترامنا للكاتب – غير صحيح، لأن الصحافة الالكترونية تختلف عن الورقية ليس فقط من حيث الوسيلة المستخدمة لتقديم المادة الصحفية او للقراءة، بل من حيث المحتوى أيضاً، فالصحافة الالكترونية لا تقتصر على المنتج المكتوب، بل قدمت انواعا جديدة من طرق عرض الخبر مثل الفيديوهات، التي تنقل القارئ مباشرة إلى موقع الحدث بالصوت والصورة في الوقت الذي تكون فيه الصحيفة الورقية مضطرة لانتظار 24 ساعة لطبع الخبر وقد تكون أحداث أخرى قد جرت بعد ذلك، وبهذا تكون الصحف الورقية قد فقدت اهم عنصر من عناصر النجاح وهو ما يسمي بـ”السبق الصحفي”.
ولعل ابلغ دليل على قدرة الصحافة الالكترونية على نشر الأخبار بشكل فوري وعلي أوسع نطاق إلى جميع أنحاء العالم، هو ان الرئيس الأميركي باراك أوباما اختار موقع “تويتر” ليشكر مؤيديه بعد فوزه بولاية ثانية ليكون أول رئيس أميركي يعلن فوزه في تأريخ سباق رئاسة الولايات المتحدة عبر موقع للتواصل الاجتماعي. وقال اوباما عبر تغريده على موقعه في “تويتر”، “شكرا لكم.. لقد حدث هذا بسببكم”.
لا تستطيع الصحف الورقية مجاراة الصحف الالكترونية كوسيط نقل جديد للمعلومة والإعلان والتنافس مع مواقع التواصل الأجتماعي على الإنترنت – التي تجتذب مئات الملايين من المتصفحين مثل “التويتر”، “الفيسبوك” وغيرهما – في سرعة نشر الخبر للقارئ وقت حدوثه وتحديثه لحظة بلحظة، في زمن يتقادم فيه الخبر بسرعة بالغة، وإتاحة المجال للقراء للمشاركة في تحريرها والتعبير عن آرائهم ومناقشتها مع قراء آخرين بكل حرية على نحو لم يسبق له مثيلا.
كل ما تقدمه الصحافة الورقية من محتوى مرة في اليوم او الأسبوع، تقدمه الصحف الرقمية مجانا وفورا بكل سهولة. ولعل فوز الصحيفة الإلكترونية هفنجتون بوست بجائزة بوليتزر للصحافة لعام 2012 بعد أن تخطّت صحفاً عريقة لتنال الجائزة الأهم في الإعلام الأميركي، هو اعتراف صريح بالتفوق الرقمي على الورقي التقليدي.
ولا يقتصر الاختلاف بين الصحافتين على سرعة النشر والوسيلة المستخدمة لنقل المحتوى كما يظن البعض، فالصحافة الرقمية تقدم خدمات اعلامية كثيرة تعجزعنها الورقية منها الندوات وبرامج المحادثة (الشات) وشريط الأخبار المتحرك، اضافة إلى عدم وجود محددات لحجم المواد المنشورة وزمن العرض. وعلى خلاف الصحافة الورقية فأن الصحيفة الالكترونية بإمكانها تقديم المعلومة الجديدة بالحجم الكامل في أي وقت. كما تسمح شبكة الإنترنت بتراكم المعلومات وحفظها وأرشفتها. وبدلا من ايراد مقتطفات من المصادر، فأن النشر الالكتروني يسمح للكاتب بوضع روابط لمصادر ومراجع المادة المنشورة سواء اكانت مقالة او دراسة او حتى كتابا كاملا. بذلك يقتصد الباحث او الكاتب كثيرأ في حجم البحث أو الدراسة.
وثمة امكانيات فنية أخرى للصحف الالكترونية منها خدمة الانتقال إلى الإذاعات والقنوات الفضائية، وخدمات التعليقات، الردود الآنية، ألربط بالمواقع الأخري والأحصائيات الخاصة بالموقع الالكتروني (عدد القراءات لكل مادة صحفية وتوزيع القراء حسب البلدان والفئات العمرية والتحصيل العلمي وغيرها من البيانات)، التي تتيح للصحيفة الألكترونية معرفة مواطن القوة والضعف في عملها من اجل التطوير اللاحق.
4– مستقبل الصحافة الورقية
يتبنى خبراء الأعلام رؤية متشائمة لمستقبل الصحف والمجلات المطبوعة. ويرى عملاق الصحافة روبيرت مردوك أن الصحافة الورقية سوف تختفي بحلول عام 2020.
ويقول مؤلف كتاب “النهاية الحتمية للأعلام الورقي” فيليب ماييرز ان آخر مطبوع ورقي سيصدر في عام 2043.
كما تشير الدراسات الخاصة بمستقبل الصحافة الورقية إلى أن الصحافيين أنفسهم يعتقدون أن أنها ستكون أقل أهمية في الحياة العامة في السنوات القادمة.
ولكننا نعتقد ان تزايد قوة وفاعلية الصحافة الالكترونية، لا يعني بأي حال من الأحوال انقراض الصحافة الورقية المطبوعة في المستقبل المنظور، فما يحدث غالباً أن الوسائط الأكثر الحداثة، لا تؤدي بالضرورة إلى انقراض الوسائل القديمة. فالصحافة الرقمية لا تلغي دور الصحافة الورقية وأنهما يمكن ان يتعايشا مع بعضهما البعض، خاصة وان لكل منهما قارئه الخاص به ومصدره في استقاء الاخبار.
ومن متابعتنا للصحافة الرقمية وجدنا أن الجزء الأكبر من محتواها، سطحي، مما يؤدي إلى قمع حب الاستطلاع الذهني لدى الشباب، لأنهم يسبحون على سطح بحر المعلومات من دون نزول إلى الأعماق، حيث المعرفة الحقيقية. أما قارئ الصحف الورقية فهو يبحث عن المعلومات المعمقة والتفاصيل الدقيقة وكل ما ينمي تفكيره ويثري ثقافته.
لم ينته بعد، زمن الصحف الورقية في العصر الحاضر ولن ينتهي قريباً كما يزعم المتشائمون، ولكن على الصحف تأهيل نفسها للعصر الرقمي والإطلالة على العالم بنسخ إلكترونية لها على الإنترنت، لأن المواقع الالكترونية هي نافذة الصحافة الورقية للقراء. وثمة مفارقة بالغة الدلالة على حيوية الصحف الورقية وهي ان كثيراً من الصحف التي بدأت بداية إلكترونية فقط، توجهت بعد ذلك إلى الطباعة الورقية، ويبدو ان العلاقة المتبادلة بين الوسيلتين الورقية والرقمية ماضية إلى مزيد من التجسير والتكامل رغم المنافسة الشديدة القائمة حاليا بينهما.
وتجربة موقع “ويكليكس” وهو احد اشهر المواقع الالكترونية العالمية دليل آخر على ان الصحافة الورقية ما زالت مؤثرة جدا، رغم كل ما يقال عن سطوة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، فالوثائق السرية التي نشرها الموقع المذكور اتسع تأثيره كثيراً، بعد لجوء صاحب الموقع جوليان أسانج إلى كبريات المؤسسات الصحفية في جميع دول العالم لنشر ما بحوزته من وثائق في صحفها المطبوعة بشكل ورقي لاسيما في بريطانيا، وقد احدث هذا النشر ضجة كبرى اهتزت لها الحكومات في شتى انحاء العالم وبخاصة الفاسدة منها. وهذا دليل آخر على أن الصحافة الرقمية لن تكون بديلا عن الصحافة الورقية في المستقبل المنظور على الأقل، وان الوقت ما يزال مبكرا للحديث عن اختفاء الصحف المطبوعة قريبا.
وتبقى مسألة جوهرية في غاية الأهمية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها بأي حال من الأحوال، وهي ان الصحافة الالكترونية تفتقر إلى الديمومة التي تتصف بها المطبوعات الورقية. وان معظم ما نعرفه عن ماضي البشرية مدون بطرق مختلفة على الأشياء المادية: ألواح الطين، أوراق البردي، الأحجار، الجلود، ثم الورق ولولا هذا التدوين لضاع تاريخ البشرية ولم يكن بوسع العلماء تفكيك طلاسم اللغات القديمة المندثرة. والأسوأ من ذلك ان التراث الرقمي – ان صح التعبير – يمكن تغييره او تحريفه بسهولة، خلافا للآثار المادية للتأريخ.و ثمة امكانية للوقوف على أي تغيير أو تحوير أو تشويه في الآثار المكتوبة ومنها المطبوعة، أما في النصوص الالكترونية فلا يمكن اكتشاف ذلك أبدا.
الصحافة الورقية عصية على الموت، ولا يزال هناك عدد غفير من الناس وبضمنهم أصحاب ألمع العقول البشرية وخيرة المثقفين، الذين تربطهم علاقة عاطفية بالورقة والقلم ولا يمكنهم الاستغناء عن الصحافة المطبوعة والنشر الورقي طيلة حياتهم، أضافة إلى مئات الملايين من القراء الذين لم يكتشفوا بعد العالم الرقمي ولا يتعاملون الا مع الورق