المصدر - الكاتب: خطاب محمد
من المشاهد التي تسترعى النظر في الحج تهافت بعض الحجاج على استلام الحجر الأسود وتقبيله، تهافتًا مصحوبًا بتزاحم وتدافع بالمناكب، مما تضيع معه رهبة الموقف، وتنعدم معه السكينة والخشوع أثناء الطواف حول بيت الله الحرام الذي يفيض بالجلال والهيبة والعظمة. ففي تلك البقعة التي يبتدئ منها الطواف يشاهد المرء حركة بين الناس كأنها معركة تنشب عند الحجر الأسود، يحاول كل إنسان فيها أن يفوز باستلام الحجر فوزا يضحى من أجله بما يجب التزامه من أدب وخشوع ووقار، ومتى فاز أحدهم في تلك المعركة ووصل إلى الحجر فإنه يحاول أن يستأثر به أطول وقت ممكن، حتى يأتي آخر فيدفعه عن الحجر دفعا عنيفا، ويستولى على الحجر مكانه، ويكرر ما فعل سلفه.
والدافع الذي يدفع الناس على خوض هذه المعركة يرجع إلى أمرين أساسيين:
الأول منهما ما ثبت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد قبل الحجر الأسود. فقد ورد في الصحيحين وفي معظم كتب السنة أن سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال حين استلم الحجر: “إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبلك ما قبلتك”
ولكن لا يظن الإنسان أن الاستلام والتقبيل مستحب دائمًا، وإنما هو قاصر على من وجد أن الأمر ميسور له بدون تزاحم. فقد أخرج النسائي عن حنظلة قال: رأيت طاوسًا يمر بالركن (أي الحجر الأسود)*فإن وجد عليه زحامًا مر ولم يزاحم، وإن رآه خاليًا قبله ثلاثا؛ ثم قال: رأيت ابن عباس فعل مثل ذلك وقال عمر – رضي الله عنه -: ذلك.
وأخرج مالك عن عروة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لابن عوف “يا أبا محمد كيف فعلت في استلام الركن الأسود؟” قال “استلمت وتركت”، قال “أصبت”.
وعلى ذلك فإن المتبع أن يستلم الإنسان الحجر ويقبله إن استطاع ذلك بدون مزاحمة، فإن لم يقدر على ذلك فإنه يمد يده ويستلم الحجر ثم يقبل موضع يده الذي لمس به الحجر، فإن لم يستطع استلام الحجر بيده وكان معه عصا أو شمسية مدها إلى الحجر ولمسه بها ثم يقبلها. فقد روى مسلم عن ابن الطفيل أنه قال “طافا النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن”. أما إذا لم يستطع الإنسان لا هذا ولا ذاك وكان الزحام قد دفعه بعيدا عن الحجر فإنه يكفيه أن يشير إلى الحجر بيده ويقول “بسم الله والله أكبر ولله الحمد” ويقبل يده.
ولم أر أحدًا من أهل العلم يحرص على استلام الحجر الأسود في كل شوط أو يزاحم عليه، إلا شيخنا الكبير الشيخ عبد الله دراز، فقد زاملته في الحجاز سنة أن حج، ووجدته رحمه الله يأخذ بالعزائم في كل الأمور؛ فقد كان يختم القرآن في الحجاز كل ثلاثة أيام مع اشتراطه على نفسه أن يتدبر المعاني ويتابع التفسير، وقد كان حريصًا على أداء المناسك حرفيًا؛ ولذا كان يحتم على نفسه استلام الحجر في كل شوط، ولكنه لا يزاحم عليه؛ فقد كان ينتظر الوقت الطويل على مقربة من المتزاحمين حتى إذا حانت الفرصة بادر إلى استلام الحجر، وأحيانا تدركه المعمعة قبل أن ينفتل، فيقاسي العناء والشدة حتى يخلص من الزحام، وقد ضحى في هذا الزحام بحافظة نقوده.
فالمسلمون في تقبيلهم الحجر إنما يتبعون فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
وأما سبب تقبيله – صلى الله عليه وسلم – للحجر فلم يثبت فيه حديث أو أثر على ما نعلم، فقد يكون السبب هو أن جده الأكبر سيدنا إبراهيم قد وضعه بيده الشريفة؛ أو يكون لذكرى اختيار القبائل إياه – صلى الله عليه وسلم – وهو شاب كحكم فيمن يتولى منهم شرف وضع الحجر عند تجديدهم لبناء الكعبة المشرفة فبسط رداءه ووضع الحجر، حتى إذا حاذى موضعه وضعه بيده الشريفة. فكان هذا ثاني شرف شرفه الله به قبل الإسلام. وأما الشرف الأول فكان ما أنعم الله عليه من عظيم الخلق حتى لقبه القوم بالأمين وهو لا يزال يافعا لم يبعثه الله بالرسالة بعد. ويؤيد ذلك ما رواه مسلم والنسائي أن عمر بن الخطاب قال عند تقبيله الحجر “إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكن رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بك حفيا”، والحفي: المبالغ في الإكرام والعناية.
وأما السبب الثاني في تهافت الناس على تقبيل الحجر فهو أنه من السماء وهذا الأمر ثبت علميًا.
أما سبب وضع الحجر الأسود فقد ورد في الآثار أن سيدنا إبراهيم بعد بناء الكعبة – وكانت أحجارها من الجبال الجرانيتية التي تحيط بمكة – أرسل ابنه سيدنا إسماعيل ليبحث عن حجر يكون لونه مخالفا للون أحجار الكعبة ليضعه في الركن الذي يبدأ منه الطواف ليكون علامة واضحة للطائفين؛ فذهب إسماعيل يضرب في الجبال باحثا وراء مثل هذا الحجر ولكنه لم يجد مطلوبه فعاد إلى أبيه صفر اليدين، فقال له “لقد جاءني به من هو خير منك؛ جاءني به جبريل”.
لقد شاهدت هذا الحجر أول مرة في سنة 1928، وأراد المطوف ألا يحرمني من استلام الحجر عند أول قدومي، فدفع الناس عنه بشدة استغربت إتيانها في هذا المكان الذي يحوطه الجلال والهيبة، فاستلمت الحجر على عجل، ولكن ذلك لم يمنعني من التطلع إلى معدن الحجر، فوجدته مادة غير حجرية، وإنما هي نوع من المعجون الغامق اللون، فتأثرت نفسي من ذلك، وعولت على استقصاء الحقيقة في فرصة متسعة، وقد سنحت تلك الفرصة في الضحى حين خف زحام الناس هرابًا من وهج الشمس.
وقد تمعنت في الحجر ووضحت لي الحقيقة فالمادة التي يقبلها الناس هي نوع من المعجون فعلًا، ولكني وجدت في صفحة هذا المعجون بضع بقع صغيرة هي ولا شك من الحجر الأسود الحقيقي، وقد فحصتها جيدًا فتبينت أن هذا الحجر الأسود حجر نيزكي، أي من مادة النيازك التي تسقط على الأرض، ويوجد عينات منها في المتحف الجيولوجي بالقاهرة.
وقد علمت فيما بعد أن السبب في وجود المعجون على معظم صفحة الحجر هو أن القرامطة حين نقلوه إلى العراق، حيث قد بنوا كعبة لهم وحاولوا نقل الحجاج إليها، ولم يلب دعوتهم أحد بطبيعة الحال، ظنوا أنهم إذا نقلوا الحجر الأسود من الكعبة المشرفة فإن الناس يتحولون إلى كعبتهم؛ فاجترءوا على خلع الحجر من موضعه، ونقله إلى كعبتهم بالعراق؛ ولما لم يجدوا فائدة من ذلك أرجعوه إلى موضعه في بيت الله الحرام؛ وقد ترتب على هذا العمل تهشم صفحة الحجر، فاضطر الأمر إلى ملء التجاويف السطحية بمادة من المعجون كانت مكونة من المصطكي الملونة في أول الأمر، وأخيرا صاروا يستعملون مادة الشمع الأسود الذي تختم به الخطابات.
وقد كان بودي أن أجد حينذاك أحدًا من الحجاج يكون ملمًا بأنواع المواد الحجرية ليشترك معي في الفحص، ولكني وفقت فيما بعد إلى مطالعة رحلة “الكابتن برتون” إلى الحجاز؛ فهذا العالم الجغرافي قد انتدبته الجمعية الجغرافية في لندن للسفر متنكرًا إلى الحجاز في سنة 1853 ليرسم خريطة له، ويجمع المعلومات الجغرافية، فجاء إلى مصر أيام حكم سعيد باشا، وتعلم اللغة العربية والديانة الإسلامية حتى يمكنه أن يظهر بمظهر المسلمين فلا يشك فيه أحد؛ ولكنه لما عجز عن إتقان اللهجة العربية، وكان لونه الأشقر ينم على أوربيته، ادعي أنه طبيب كردي جاء من بلاده قاصدًا الحج، وقد أطلق لحيته وشاربيه. ولما كان الناس في ذلك الوقت يطلقون على أنفسهم الكنية ويجب أن يخاطب الرجل يأبى فلان أو أبى فلان، فقد تطوع الناس ومنحوه كنية “أبو شنب” وقد وصف هذا العالم الجغرافي وصفا ممتعًا شائقًا رحلته من الإسكندرية إلى مصر فالسويس، ثم رحلته على ظهر مركب شراعي مع الحجاج المغاربة، ثم سفره من ينبع إلى المدينة المنورة، ثم إلى مكة المكرمة، وأدى مناسك الحج، ثم سافر إلى جدة. وقد وصف الحرمين الشريفين وصفا دقيقا، كما شرح بإسهاب ما يفعله الحجاج عند الزيارة النبوية، وما يؤدونه من المناسك، وما يدعون به من الأدعية. ولما وصل إلى القنصلية البريطانية في جدة أعجب بمجهوده جميع القناصل وتكتموا أمره وأعادوه إلى انجلترا سالما مكرما. وقد صدر وصف رحلته هذه ببيت شعر للمتنبي، وهو:
هذا العالم الجغرافي برغم نصرانيته لما وصل إلى الكعبة أخذ بمنظرها، واستولت عليه الرهبة، ولم يستطع أن يكتم ما شاهده عليها من الجلال والهيبة، وقال إنها مع بساطتها أروع ما رآه في حياته في مشارق الأرض ومغاربها. وعند ما بدأ في الطواف واستلم الحجر الأسود قد اتضح له من فحصه أنه حجر نيزكي(ايروليت). ثم دحض ما قاله على بك(لم يحدد شخصيته)من أنه حجر بركاني(فولكانيك)، كما دحض ما قاله الرحالة بور خارت من أنه من المقذوفات البركانية(لافا).
والحق أنه لو توجه المرء إلى المتحف الجيولوجي ودرس الأحجار النيزكية التي فيه، ثم توجه إلى مكة المكرمة وفحص الحجر الأسود، فإنه سوف يقطع جليًا بتشابه النوع.
والآن وقد اتضح تماما أن عنصر الحجر الأسود من عناصر الأحجار النيزكية، وهي خارجة بطبيعتها من عناصر الأرض وعناصر المجموعة الشمسية أيضا، فهي إذا من عناصر كواكب السماء وعلى ذلك فقد صح القول بأن الحجر الأسود حجر سماوي كما قال أهل العلم في العصور الإسلامية الأولى. والله سبحانه وتعالى قد من على الأمة الإسلامية بهؤلاء العلماء الذين منحهم الله من نوره فأناروا للناس في علوم الشريعة ما حققه العلم الحديث.