قلق المنح ، من الإشباع إلى الإبداع .
في ظل التحولات التنموية الكبرى التي تشهدها المملكة العربية السعودية، برزت المؤسسات المانحة بوصفها أحد الأعمدة الداعمة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وشريكًا فاعلًا للقطاعين الحكومي والخاص في تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030. ولم يعد دور هذه المؤسسات منتظراً حول تقديم الدعم الإغاثي التقليدي فقط ، بل تطور ليشمل الإسهام في بناء القدرات، وتعزيز الاستدامة، وتحقيق الأثر التنموي طويل المدى.
على المستوى الاجتماعي ، تسهم المؤسسات المانحة في المملكة في معالجة العديد من القضايا الاجتماعية، مثل مكافحة الفقر، وتمكين الأسر المنتجة، ودعم التعليم، والرعاية الصحية، وتنمية الشباب، وتأهيل ذوي الإعاقة، وتعزيز العمل التطوعي. كما تلعب دورًا مهمًا في دعم القطاع غير الربحي وتمكينه من التحول إلى قطاع مؤسسي فاعل يعتمد على الحوكمة والكفاءة والأثر.
واقتصاديًا، تسهم هذه المؤسسات في تحفيز النمو عبر دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتمويل المبادرات الريادية الاجتماعية، ودعم برامج التوظيف والتدريب، بما ينعكس إيجابًا على خلق فرص العمل وزيادة الدخل وتحسين جودة الحياة. كما تدعم بعض المؤسسات المانحة مجالات الابتكار والبحث والتطوير، بما ينسجم مع توجه المملكة نحو اقتصاد المعرفة والتنويع الاقتصادي.
كيف يختار المانحون الكبار مشاريعهم ؟
تعتمد المؤسسات المانحة الكبرى في العالم على منهجيات دقيقة ومنظمة لقياس أثرها التنموي، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن قيمة المنح لا تُقاس بحجم التمويل فقط، بل بما تُحدثه من تغيير حقيقي ومستدام في حياة الأفراد والمجتمعات. ويُعد هذا التحول من العمل الخيري التقليدي إلى العمل التنموي القائم على الأثر من أبرز سمات المؤسسات المانحة العالمية الرائدة.
فيما يتعلق بقياس الأثر التنموي، تبدأ هذه المؤسسات عادة ببناء ما يُعرف بـ «نظرية التغيير»، وهي إطار يوضح العلاقة بين المشكلة التنموية التي تسعى المؤسسة لمعالجتها، والأنشطة التي تمولها، والنتائج المتوقعة على المدى القصير والمتوسط، وصولًا إلى الأثر بعيد المدى. ومن خلال هذا الإطار، يتم تحديد افتراضات التدخل والمخاطر المحتملة، بما يساعد على تصميم برامج واقعية وقابلة للقياس. ثم تقوم المؤسسات بتحديد مؤشرات واضحة تميّز بين الإنجاز والنتائج والأثر، بحيث لا يقتصر التقييم على عدد المستفيدين أو الأنشطة المنفذة، بل يمتد إلى قياس التغير في السلوك أو الدخل أو جودة الحياة.
ولا يُنظر إلى قياس الأثر بوصفه أداة رقابية فقط، بل كوسيلة للتعلم والتحسين المستمر، حيث تُستخدم نتائج التقييم في تطوير البرامج، وتعديل الاستراتيجيات، والتوسع في المبادرات الناجحة، أو إيقاف تلك التي لا تحقق الأثر المأمول.
أما فيما يتعلق باختيار المشاريع التي تحصل على المنح، فإن المؤسسات المانحة الكبرى تتبع معايير صارمة تبدأ بمدى توافق المشروع مع رؤيتها ورسالتها وأولوياتها الاستراتيجية. ويُعطى اهتمام كبير لوضوح المشكلة التنموية التي يعالجها المشروع، ولمدى منطقية الحل المقترح وقدرته على إحداث تغيير ملموس. كما تُقيّم هذه المؤسسات حجم الأثر المتوقع وقابليته للقياس، وعدد المستفيدين، ومدى عمق التغيير الذي يمكن تحقيقه.
وتولي المؤسسات المانحة أهمية كبيرة للقدرة المؤسسية للجهة المنفذة، بما في ذلك الحوكمة، والإدارة المالية، وكفاءة الفريق، وسجل الإنجازات السابقة، وقدرتها على الالتزام بالشفافية والتقارير. كما يُعد عنصر الاستدامة من العوامل الحاسمة في قرار المنح، إذ تُفضل المشاريع التي تمتلك نماذج تشغيلية أو مالية تقلل من الاعتماد المستمر على التمويل الخارجي، وتملك قابلية للتوسع والتكرار في سياقات أخرى.
أبرز الانتقادات الموجهة للمؤسسات المانحة
تواجه المؤسسات المانحة، محليًا وعالميًا، عددًا من الانتقادات التي تتفاوت حدّتها باختلاف السياق المؤسسي والتنموي، وتزداد هذه الانتقادات مع تصاعد التوقعات بشأن الشفافية والأثر والاستدامة. ويمكن تلخيص أبرز الانتقادات الموجهة لها فيما يلي:
1- ضعف قياس الأثر التنموي
من أكثر الانتقادات شيوعًا تركيز بعض المؤسسات المانحة على حجم الإنفاق وعدد المشاريع بدلًا من قياس الأثر الحقيقي طويل المدى. وغالبًا ما تفتقر بعض المبادرات إلى مؤشرات أداء واضحة، أو دراسات أثر تقيس التغير الاجتماعي والاقتصادي الفعلي الناتج عن المنح.
2- الطابع الخيري التقليدي على حساب التنمية المستدامة
يُنتقد بعض المانحين لاعتمادهم على نماذج الإغاثة أو الدعم قصير الأجل دون الاستثمار في حلول جذرية تعالج أسباب المشكلة، مما قد يخلق اعتمادًا دائمًا لدى المستفيدين بدل تمكينهم اقتصاديًا واجتماعيًا.
3- تشتت الجهود وازدواجية المشاريع
في غياب التنسيق مع الجهات الحكومية أو المانحين الآخرين، تتكرر بعض المبادرات في نفس المجالات أو المناطق، بينما تُهمل قضايا أكثر إلحاحًا. هذا التشتت يؤدي إلى هدر الموارد وتقليل الأثر العام للمنح.
4- ضعف الحوكمة والشفافية
تواجه بعض المؤسسات انتقادات تتعلق بعدم وضوح معايير اختيار المشاريع والمستفيدين، أو محدودية الإفصاح عن آليات اتخاذ القرار ونتائج الصرف، مما قد يؤثر على الثقة المجتمعية ويضعف المصداقية.
5- مركزية القرار وبعده عن احتياجات الميدان
يُؤخذ على بعض المؤسسات أن قراراتها تُتخذ من منظور إداري أو نخبوي، دون إشراك كافٍ للمستفيدين أو المنظمات المنفذة، مما يؤدي إلى تصميم برامج لا تعكس الاحتياجات الفعلية للمجتمع.
6- البيروقراطية وتعقيد إجراءات المنح
تشكو العديد من الجهات غير الربحية من طول وتعقيد إجراءات التقديم والتقارير، ما يستهلك وقتًا وجهدًا كبيرين، ويؤثر على كفاءة التنفيذ، خاصة لدى المنظمات الصغيرة والناشئة.
7- التأثر بأجندات أو أولويات غير تنموية
في بعض الحالات، يُنظر إلى بعض المنح على أنها تخدم أهدافًا مؤسسية أو إعلامية أكثر من كونها تستجيب لأولويات تنموية حقيقية، مثل التركيز على مشاريع ذات أثر دعائي سريع بدل أثر مجتمعي عميق.
التحديات القادمة التي قد تعيق دورها
من أبرز التحديات المستقبلية تسارع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وارتفاع توقعات المستفيدين والشركاء بشأن جودة الأثر والاستدامة. كما يشكل التحول الرقمي تحديًا وفرصة في آن واحد، إذ يتطلب استثمارات في الأنظمة والبيانات والمهارات. إضافة إلى ذلك، فإن التحديات التنظيمية والتشريعية، وتغير أولويات التمويل، قد تؤثر على قدرة بعض المؤسسات على التوسع أو الابتكار.
ما الذي يجب التركيز عليه مستقبلًا لتحقيق تحولات تنموية عميقة؟
لتحقيق أثر تنموي أعمق وأكثر استدامة، تحتاج المؤسسات المانحة إلى الانتقال من منطق الدعم إلى منطق الاستثمار الاجتماعي، والتركيز على البرامج المبنية على البيانات وقياس الأثر. كما يُعد تعزيز الشراكات مع القطاعين الحكومي والخاص، وتمكين المنظمات غير الربحية، وبناء قدراتها المؤسسية، من أهم مرتكزات المستقبل.
كذلك، يجب التركيز على الابتكار الاجتماعي، وتمويل الحلول القابلة للتوسع، وتبني الحوكمة والشفافية، وربط المنح بمستهدفات واضحة تتماشى مع رؤية 2030. وبهذا النهج، يمكن للمؤسسات المانحة أن تتحول من جهات داعمة إلى محركات تنموية تسهم بفاعلية في بناء مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح.
خلاصة:
لا تعني هذه الانتقادات التقليل من أهمية المؤسسات المانحة، بل تمثل فرصًا للتحسين والتطوير. ومع تبني الحوكمة الرشيدة، وقياس الأثر، والابتكار، والشراكات الاستراتيجية، يمكن للمؤسسات المانحة أن تعزز دورها كرافعة تنموية حقيقية، لا مجرد جهات تمويلية.