اسمح لي، أختلف معك.
لا تكاد تخلوا مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام من المتفقهين، لقد زاد عددهم بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حتى ليظن المرء أن الدنيا كلها مجموعة أشخاص يختلفون مع بعضهم البعض، وأن أي فرد خارج هذا الإطار هو لا محالة الشاذ عن القاعدة. المؤسف أن هذا انتقل للواقع، فأصبحت المجالس كالبرلمانات العربية، الصراخ فيها يصل عنان السماء، والتأثير لا يتجاوز عتبة مبنى البرلمان.
يتسيد المشهد في هذا المجال برنامج إكس، أو كما كان يُقال له سابقًا تويتر. لا تكاد تمر عليك تغريدة إلا وتجد أن كاتبها اقتبس لأحد آخر واختلف معه، أو كُتبت تغريدة ومن في التعليقات يختلفون معه، ولو كان مضمون تلك التغريدة "الجو اليوم حلو". وبما أنني قد عاصرت سنوات هنا في هذا البرنامج، فأنا أقول وبكل أسف إنه لم يكن بهذا السوء والبشاعة التي نراها هذه الأيام. فحتى إن وجدت نقاشات، لم تكن تتعدى الاختلاف في الرأي. أما الآن، فحتى جدك السابع معرض للشتم إن قلت إنك تفضل ميسي على كريستيانو، أو أن أنمي هنتر أفضل من ون بيس، أو العكس. وهذا فيض من غيض بالنسبة لجماعة القوميات وجماعة حرب الذكور والإناث التي ابتلى الله بها الأمة، فلا علم يملكون ولا حسن رأي ولا أدب، وأنهم والله في قاع اليمين واليسار وليس أقصاهما فحسب، وأكاد أجزم أنهم لم يسمعوا يومًا بكلمة الاعتدال.
والعجيب أننا لم نكن كهذا لا في مواقع التواصل ولا في مجالسنا. أعني، نختلف مع أي موضوع وفي أي اتجاه، بل كانوا من يتصفون بهذا الشكل من الحديث مثارًا للسخرية، ويطلق عليهم أمثال عدة في استحالة رضا تلك الفئة أو الشخص عن أي شيء. كانت صدورنا رحبة، ونتفهم كل حديث ولو كانت تنقصنا بعض المعرفة التي يحظى بها هذا الجيل. يبدو أنهم اكتسبوا العلم الوفير وخسروا كيف يحملونه للغير الذي يجهل ما يعرفون.
وهو مقلق بلا أدنى شك أن تختلف لأنك ترى أنه يجب أن تختلف، أو أنك صح والبقية حمقى! هذه مصيبة لأنك في هذه الحالة لم تعد تبحث عن الحق، وهذه هي الغاية من النقاش. اثنان، أحدهما على حق والآخر على خطأ لكنه لا يعلم ذلك. وبالمنطق والعقل والأدب، يجذب صاحب الحق من يناقشه، والآخر يتنازل عن قناعته الخاطئة القديمة بكل تواضع، لا أن (يركب رأسه) ويبدأ بسب الآخر لأنه لا حيلة له ولا حاجة في إقناعه! ولا أن صاحب الحق الأول يخضع ذاك بالقوة بصوته العالي وبالاستنقاص منه ومن جهله بهذا الموضوع.
أما بنسبة لي فأنا معتزل النقاشات والجدالات قرابة الخمسة أعوام، وإن حصل وانخرطت في أحدهما من دون أن أنتبه لنفسي، تراجعت واعتذرت للمُقابل، ووافقتُه الرأي ولو قال لي إن الأرض مُسطحة. وأنا أُجزم أن ما اتخذتُه من قرار بخصوص النقاشات كان أفضل ما حدث لي منذ زمن، فإن من تولى الجدال حرم العمل والحكمة.