فن الطبخ: خواء فكري أم توغل مادي؟؟.
كلما جلست وتناولت طعاماً مهما غلا ثمنه، واختلفت طريقة إعداده أرى أن متعته تنتهي بمجرد تجاوزه الحلق، وأتأمل في حكمة الله القدير الذي حول هذا الغذاء إلى دماء في الجسم تعطيه الحياة والحيوية والنشاط، ويتم توزيعه كذلك على أجزاء الجسم لتأخذ نصيبها منه، وصدق الله تعالى:[وفي أنفسكم أفلا تبصرون] سورة الذاريات: الآية: 21.
في النصوص القرآنية يوجهنا الله تعالى إلى الأكل من الطيبات والاستمتاع بما منحنا، وأن نقتصد ولا نسرف، وفي السنة كذلك الحث على الاكتفاء بلقيمات يقمن الصلب، والتحذير من تخمة المعدة لأنها بيت الداء، إلى آخر هذه المعاني المستفيضة المشهورة.
والسلف الصالح كانوا يرون أن وظيفة الطعام هي إقامة البدن للتمكن من أداء العبادة والقيام بالطاعات، ومن ثمّ فلا يرون داع للإسراف فيه أو التفنن في طريقة إعداده.
المعاني السابقة هي معان جوهرية سامية في الحضارة الإسلامية، التي كانت فيه مشغولة بعظائم الأمور، نظماً وتأليفاً، وتأصيلاً للعلوم، وابتكاراً للفنون، وفتحاً لمغالق العلم، ونشراً للإسلام وبياناً لمراميه ومقاصده، ومشاركة فاعلة في نفع البشرية وخدمة الإنسانية، والعطاء الحضاري؛ لأجل ذلك تركوا لنا تراثاً عظيماً من الفكر، يعد مفخرة بحق.
بيد أن ما يلفت الانتباه الآن في واقعنا أن الأمة المريضة بدل أن تبحث عن سبل تعافيها تتوسل بما يزيد مرضها، ويضاعف سقمها، والأمة الضعيفة هجرت وسائل عزها وقوتها، انشغلت بالتوافه والكماليات، على حساب الكليات والضروريات.
لقد أصبحت ظاهرة واضحة على القنوات التليفزيونية، ووسائل التواصل الاجتماعي وبرامجه المتعددة: التفنن في طريقة إعداد الأكلات وفن الطهي، وتبادر السيدات بتقديم أحلى الآكلات وأشهاها، بل ودخل الرجال حلبة السباق ليثبتوا مكانتهم في ميدان الطبخ والطهي، وكأن الأمة المسكينة في سباق لتسمين البطون، وترهل الجسوم.
إن نظرة واحدة للإحصاءات المختلفة في هذ الصدد تصيبنا بالفزع والهلع على حاضرنا، ودق ناقوس الخطر على مستقبلنا.
أبرز الإحصائيات تؤكد أن هناك أكثر من ٣٥٥ مليون مشاركة من الفئات المجتمعية المختلفة على موقع انستجرام حول مجال الأغذية. وإحدى التقارير المنشورة عبر "Sprouts Social"، تشير إلى أن ٤٩٪ من المستهلكين في الوقت الحاضر يتعرفون عن الأغذية والمطاعم من خلال هذه الشبكات التفاعلية، في حين يستخدم ٥٦٪ من الزبائن والمتذوقين التكنولوجيا الرقمية للتفاعل مع المطاعم ومنشآت الأغذية،
وربما تكون قد شاهدت على الأقل مقطع فيديو واحد لوصفة Tastyحيث أطلقت Buzzfeed سلسلة مقاطع فيديو تحت اسم Tasty سنة 2015، وبحلول سبتمبر 2016، أصبحت الصفحة ثالث حساب خاص بالفيديو يتم مشاهدته على Facebook. اليوم أكثر من 100 مليون شخص يتابعون Tasty على Facebook، وما يقارب 34 مليون متابع على Instagram، ومنذ يناير 2016، تراكمت 3،284،554،223 مشاهدة على قناة YouTube الخاصة بهم. نحن نتحدث عن أعداد هائلة تم تحقيقها في أقل من 3 سنوات.
والمرعب حقاً أن من بين متوسط عمليات البحث الشهري على الكتب على شبكة الإنترنت تستأثر كتب الطبخ وحدها بنسبة 23% من اهتمام العرب!! وهذا وفق التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية الصادر عام 2010م فكيف العام 2020م؟؟؟!!!
هذا فضلا عن المبادرات الشخصية من مستخدمي برامج التواصل الاجتماعي الذين يقدمون تجاربهم الخاصة في طريقة الطبخ والطهي، حتى غدا هذا الأمر ظاهرة تستحق التأمل والوقوف عندها.
لقد أبلينا بلاء حسناً في فنون الطهي والطبخ ونجحنا بامتياز في صناعة أشهى الأكلات بطرق متنوعة يسيل لها اللعاب فأين نحن من صناعة السيارات والطائرات؟ وأين نحن من البرامج النووية وسباق الفضاء؟ أين مساهمتنا الفاعلة بين الحضارات هل ما زلنا نتكىء على عطاء علمائنا الأوائل قبل ثلاثة عشر قرناً فماذا قدمنا نحن للبشرية؟؟؟!!!
ليس هذا الطرح من باب جلد الذات؛ ولكنه ناقوس لا بد أن يدق، وتنبيه يجب أن يحمل على الجد لا الهزل في ظل صراع حضاري وسباق عنصري لا يعترف إلا بعنصر القوة والفعل الحضاري فكل أمة تعمل لمجدها ليحترمها العالم، ولريادتها لتكون لها الغلبة.
إن توجيهات الشريعة ونصوصها ما حرمت علينا التمتع بالطيبات، ولا تناول أشهى المأكولات، ولكنها علمت المسلم أن هذا وسيلة وليس غاية ولا هدفاً، وليس فخراً أن نتناول الطعام بطريقة معينة لأنه وسيلة يتحقق المراد منه بأي طريقة كانت.
وهنا أتساءل: هل ما وصلنا إليه هو خواء فكري، وفراغ ثقافي فأصبحت عقولنا هزيلة، بلغنا من العطالة الفكرية مبلغاً جعلنا نهتم بالصغائر، ووجدنا ملاذاً في تنفيس طاقاتنا، وملء فراغنا بالتفنن الزائد في صناعة الطعام، وطرق إعداده.
إن الأمة الجادة لا تجد وقتاً لهذا العبث، وأتصور أننا مسؤولون أمام الله عن إسرافنا وضياع وقتنا، وعجزنا عن تفعيل العقل المسلم، وملء فراغه بالعمل الجاد، والإبداع المثمر، ليحقق الاستخلاف المنوط به، ويعمر الكون كما أراد الله منه، وتحقيق الخيرية التي وصفنا الله بها.
أم هذه الظاهرة تمثل توغلاً للمادية المفرطة في حياتنا، فانشغلنا بملء البطون قبل ملء العقول، والارتواء المادي قبل إشباع الروح، وأنّى للروح أن تحلق في سماء الفكر، وتبدع في تسخير الكون، وقد قيل "البطنة تذهب الفطنة".
أتصور أخيراً أننا مسؤولون عن الضرر النفسي الذي نلحقه بالفقراء في مجتمعنا الذين يرقبون ويشاهدون، ولا يجدون ما ينفقون، ويشعرون بالتقصير أمام أولادهم، ونحن في غفلة من أمرهم لا نحس بمشاعرهم، ولا نشعر بخواء بطونهم .
قال الله تعالى: [الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور] سورة الحج: الآية: 41.
وقال تعالى: [كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله] سورة آل عمران: الآية: 110.
وقال سبحانه: [ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم] سورة التكاثر، الآية: 8.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها انت وليها ومولاها