دعك من القال و القيل واذكر معي بيت المقيل
في زماننا كثُرَ المتحدّثون .. خيرا أو شرا لا يهم عندهم المهم أن يتحدثوا يتكلموا و إن لم يجدوا ما يقولون بحثوا عن بضع كلمات سمعوها من أحدهم في لحظة غضب أو فضفضة فيزيدون و يبهرون الكلام لا يرعون ولا يراعون خلقا و لا أدبا ..جُلَّ همهم تناقل الكلام ..قد تجد أحدهم يبيعك كلاما عن الأخلاق ما قرأته في معلقة زهير بن أبي سلمى و قد يرسم له بالكلمات مدينة أفلاطون الفاضلة حتى تخاله ملاكا يمشي على الأرض ولكن تكن صدمتك بحجم الربع الخالي حين تجد أفعاله تناقض أقواله !! فسبحانك ربي خلقت التقي و الفاجر خلقت الشاكر و الناكر .
هؤلاء قيل عنهم أنهم بائعو الأوهام و مهدّمو الأحلام ..فلا أقوالهم صادقة و لا يتركونك و شأنك بل يحبطونك و يبذلون جُلّ أوقاتهم في زرع اليأس و بث بذور الإحباط في أنفس مَنْ حولهم حتى لتظنهم أنهم جُند إبليس !
تُرى : لو حسبنا عدد الكلمات التي ينطق بها أحد هؤلاء فكم نسبة الكلام الرصين المفيد فيها ؟ إن الكلام المفيد الرصين الذي يمثل بيت القصيد أو لُب المعنى يشبه المقيل ففيه تقيل النفس و تهدأ الجوارح و تستقر الأعين ..المقيل راحة للجسم و للعقل وبه تسمو الأرواح و يولد الإبداع ..لُب المعنى أو بيت المقيل هو تلخيص وجيز سريع غير مخل لكل الكلام ..لكن هؤلاء حرموا أنفسهم من هذه النعمة و بذلوا أعمارهم في كلام كزبد البحر لا يٌسمن و لا يفيد .
يعلم هؤلاء أن الكلام سيحاسب عليه الإنسان و إني لأعجب كيف يهذرون بما لا يعرفون ؟ ألا يخلو أحدهم بنفسه فيحاسبها قبل أن تُحاسب ؟ ألا يصاب هؤلاء بالاكتئاب ؟ أليسوا مصابين بداء النرجسية ؟ إن من يتتبع لواحد منهم سيهوله الوقت الذي يمضيه في الكلام مع غياب الأفعال ..كيف سيركبون بحر الحياة بلا سفينة أفعال تقيهم الغرق ؟ هؤلاء زارعو الإحباط و اليأس و الحزن كيف غاب عن بالهم أن السعادة طريقها الأسهل هو أن تشارك بها غيرك ؟ فكيف يسعد هؤلاء بإحزان غيرهم ؟
قال الشافعي
يا واعظَ الناس عمَّا أنتَ فاعلهُ ** يَا مَنْ يُعَدُّ عَلَيْهِ العُمْرُ بِالنَّفَسِ
احفظ لشبيكَ من عيبٍ يدنسهُ ** إنَّ البياض قليلُ الحملِ للدّنسِ
كحاملٍ لثياب النَّاسِ يغسلها ** وثوبهُ غارقٌ في الرَّجسِ والنَّجسِ
تَبْغي النَّجَاة َ وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيقَتَهَا ** إنَّ السَّفِينَة َ لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ
حين ترتدي يا صديقي ثوب الكلام و تتصدر المجالس فحاول أن تقتنع أولا بكلامك و ابتعد عن التناقض بين أقوالك و أفعالك حتى يقتنع بأقوالك الآخرون .