لستِ شيئاً بالنسبةِ لي
لم تكن المرة الأولى التي تقسين بها علي ولا العاشرة التي أقسو بها عليكِ، لكن قسوتكِ هذه المرة لا تدانيها قسوة، مما دفعني إلى ما دفعني إليه... هذه المرة قررتُ حذفكِ بأقسى طريقةٍ.. مسكينٌ لم أكن أعرفُ أنها ستكونُ الأقسى عليّ، فبالرغم من تخصصي في الذاكرة قررتُ أن أنساكِ فلستِ شيئاً بالنسبة لي...
كانت الساعةُ قرابة الخامسة عصراً، ركبتُ سيارتي ذاتِ الأربع دواليب وبعض الزوائد التي تدلُّ على أنها سيارة، أدرتُ جهاز الراديو وبقيت عشرَ دقائق أبحثُ عن (كرم العلالي) أغنيتنا المفضلة، لم أجدها.. حملتها من هاتفي شغلتها وأوقفتها عمداً لكي أنساكِ فلستِ شيئاً بالنسبةِ لي... توجهتُ إلى المقهى الذي نقصدهُ سوياً قرب المستديرةِ التي طالما دُرنا حولها فرحاً كالأطفالِ أو بتعبيرٍ أدَقّ كالمجانين فدُرتُ وحدي عمداً كي أنساكِ فلستِ شيئاً بالنسبة لي...
دخلتُ المقهى ولم أجلس على طاولتنا المُقَدَّسة.. تناولتُ القائمة لا أدري لمَ لَمْ أستطع قراءتَها، ربما لأني لم أعتد قراءتها دونَكِ وبعد دقيقتين أنقذني النادلُ الذي أحضرَ الكوبين نفسهما الذين نطلبهما في كل مرّةٍ بعد نصفِ ساعةٍ من قراءة نفس القائمة، لكنهُ لم يعرف أنك لم تكوني أمامي، وأنكِ الآن بي أكنتِ أمامي أم لم تكوني، شربتُ الكوبين وحدي لأثبتَ لكِ عمداً أن باستطاعتي أن أنساكِ فلستِ شيئاً بالنسبةِ لي...
طلبتُ الحساب لكنك لم تكوني أمامي لنتجادل على قيمة الفاتورةِ ومن سيدفعُ أكثر، خصوصاً أنك تضعين ضعفَ كميةُ السُّكر التي أضعُها فتقولين أن السُّكرَ لا يدخلُ في الحساب ثم نناقش النادل في قيمة الفاتورة لأنَّا اعتدنا ذلك فلن يتغير سعرها بين أسبوعٍ وآخر فليست وقوداً أو غازاً أو خُبزاً يتلاعبُ به الساسةُ ليحكموا المشنقة حولَ رقبةِ الشعبِ الناكرِ للجميل فساسَتُنا وأقولها كلمةً حقٍّ تُذكر لهم منذ استلامهم الكرسيّ ووضع اللاصق السريع على مؤخراتهم لم يأخذوا فِلساً واحداً ثمن الهواء الذي نتنفسه، دعينا منهم ومن طُهرهِم (واستبدلي الطاء عين).
رجعت لسيارتي واستلمتُ الطريق العام باتجاهِ طرابلس، أعرفُ أنكِ تُحبين السُّرعةَ *فدُستُ للسرعةِ القُصوى.. خففتُ عمداً لسببين الأولُ كي لا أموتَ وأنا أحاولُ نسيانكِ والثاني لأخالفَ هواكِ عمداً كي أنساكِ فلستِ شيئاً بالنسبةِ لي...
وصلتُ وركنتُ سيارتي وتوجهتُ للمصعد الذي كان ينتظرني على غيرِ عادة.. وفي طريقي للطابق التاسع والعشرين راودتني تسعة وعشرون ألف فكرة حولَ هَبَلِ المصاعدِ ومرآتِها وصعودها ونزولها وهوسُ الأطفالِ بها، وصلتُ بيتي.. قرعتُ الجرس ففتحت لي عن وجهٍ يُحاكي فلقةَ القمرِ ليلةَ بَدْرِه.. حُبي الأوَّل وملاذي.. صديقتي رفيقتي حبيبتي التي لا ولم تُدانيها حبيبة أوّلُ امرأةٍ كَشَفَت علي.. تعرفُ عيوبي وتحبني بها كما أنا، قالت : ما بكَ يا عُمري، قلت : لا شيء، قالت : هل حصلَ مكروهٌ لسُعاد ؟ فقلت : لااااااا والحمد لله (سُعاد هو اسم سيارتي)
فقالت: تُراكَ عشقتَ كمجنون ليلى أَوَهجرتكَ.. لا تحزن فهُناكَ ألفُ ليلى وليلى فقلتُ لا، ولكنني في صراعٍ مع ذاتي، طبعاً لن أخبر أمي بالأمر ستقول فوراً : من هي لأطلبها لك، رائعةٌ أنتِ يا أمي لم تعرف طيبَتُكِ بعد أن الزواجَ في بلادنا يكادُ حِكراً لأبناء الساسة عليهم الزَّواج (واستبدلي الجيمَ لام)
عند الثالثةِ ظُهراً جاءتني منكِ رسالةٌ نصيَّة مفادُها (سلام وكيف الحال) وبرغم ضلوعي في اللغة وثقافتي بالترجمة واحترافي للقراءة العربية إلا أني قرأتُ بهذه الرسالةِ أسمى آياتِ الإعتذار وكلّ عبارات السّماح وكل تراكيبِ العفوِ.. قرأتُ فيها ما لم يُكتَب وما لا يُقرأ وربما أقول ربما ما لم يُقصَد، فوجدتني كِدتُ أفُكُّ الحصار لولا ترسبات كبرياءٍ لا محلّ له من الإعراب فقلت لا وألف لا.. لن أتنازل بهذه السهولة.. كرامتي فوق كل اعتبار.. سأصمد وأصمد وأصمد ولن أرُدَّ حرفاً واحداً قبل مرور 24 ساعة على قراري، وقد بقي قرابة الساعتين...
يا إلهي توقفت الساعةُ عن الدوران وثبت الوقت في مكانه، وكأن هاتين الساعتين مرَّتا يومين بل شهرين.. لكن لا بأس كله يهون لكي أنفذ قراري بأن أنساكِ فلستِ شيئاً بالنسبة لي...
وأخيراً دقت الساعة الخامسة.. أمسكتُ بهاتفي.. فككتُ الحصارَ.. رددتُ على رسالتكِ وقلتُ لنفسي ربما أنساكِ والتفتتُ إليَّ وقلتُ لذاتي: لستِ شيئاً بالنسبة لي.. حقاً لستِ شيئاً بل أنتِ كلّ شيءٍ كلّ شيءٍ كلّ شيء...