طاغور القريتين
قبل أعوام خلت، تساءل بذهول سياسي يمني على صفحته في منصة الفيسبوك عن مخرجات كليات الإعلام، قال هذا السياسي الوازن راسما علامات التعجب في نهاية تساؤله، هل تُخرّج لنا كليات الاعلام صحفيين أم دواشين!!
ظل هذا هذا التساؤل عالقا في ذهني إلى اليوم، إذ كلما قابلت صحفيا أو قرأت له أضع ذلك التساؤل كبالون اختبار، وللأسف أن ما ذهب إليه المتسائل فيه جزء كبير من الصحة وهناك استثناء بكل تأكيد، هذا العالم مليء بالدواشين ألسناً وأقلاما. والدوشان باللهجة العامية هو ذاك الذي تنتفخ أوداجه قدحا ومدحا في كل محفل، ثم ما تلبث أجيابه أن تنتفخ مع آخر صوت وجرّة قلم، فهو لا يأبه للممدوح ولا للمقدوح أيضا بقدر اهتمامه بسعة الجيب وامتلائه بالدنانير والهبات والعطايا.
أتذكر في العام 2008م كنت في زيارة للهيئة العامة لكهرباء ومياه الريف بمحافظة تعز، وكنت على موعد مع مهندس آبار مياه، وأثناء فترة انتظاري له، دخل على مكتب المدير شخص سمين ذا طول فارع ورأس صغير، جلس على إحدى الكراسي وهو يمسّد وريقات القات ويمضغها بين فكيه بهدوء وشدة كجمل معصرة سوداني، ولا يكاد يتوقف عن الكلام، كان يحاول التحدث بالفصحى ربما كي يبدو مثقفا أمام الآخرين، لكن لهجته العامية كانت الغالبة ولم يسعفه الحظ للظهور بمظهر المثقف الحصيف. ساعة من الزمن وهو يتحدث عن بطولاته أثناء حرب المناطق الوسطى وشرعب (حرب الجبهة)، تلك البطولة التي حصرها بين قريتين في منطقة نائية بريف تعز تُدعى "الحُصين"، وهي مسقط رأسه، تحدث وأزبد وأرغى وأرعد، وهو يعتصر الكلمات الممجوجة والذاكرة البعيدة معاً، وأثناء حديثه بدت عليه خلفيته اليسارية وهو يستعير بعضا من مفرداتها المتهالكة، قاطعه أحد الحاضرين، ما اسم الأخ؟ رد عليه "سعيد غلاب" واسمي الحركي كان "طاغور"، همس في أذني أحدهم، لا تصدق ما يقوله هذا الحُصيني (نسبة إلى منطقة الحُصين)، إنه يخال نفسه بطلا لكن دون ميدان معركة، لقد خاض صراعا مع نفسه وأهله، مع قريتيه الشرقية والغربية، إنه "طاغور القريتين" حيث اللاوعي واللاهدف واللامشروع. وفي الأثناء، خرج "طاغور القريتين" وسمعت آخر يقول، لا تكترثوا لهذا "الطاغور" إنه فارع القامة كبير "الجُفْرة" لكنه صغير الرأس والعقل ضيق الأفق!!
تذكرت هذه القصة الظريفة والحكيمة في آن، وأنا أقرأ لبعض الكتبة المعترضين على الاشادة بمن يذود عن الوطن، سواء أولئك الأبطال الذين يجوهرون الحصى في الجبال والسهول والقفار انتصاراً للأمة اليمنية ؛ أو أولئك الذي يرفعون أصواتهم الوطنية صدّاحةً ذوداً عن اليمن وقضيته العادلة، الدفاع عن القضية اليمنية لا يحتاج إلى جلسة على البحر ومزاج رايق وشرب نبيذ الغيوم، بل يحتاج إلى موقف سريع وصوت صادق لتفنيد لكل الأباطيل في حينه دون إرجاء و"تِحِلاّف"، إذ ما جدوى إنارة عقلك على حساب الوطن، وأنت لم تنبس ببنت شفة دفاعاً عنه، في كل محفل وجدت نفسك فيه ووجدت اليمن الأرض والانسان مستهدفا؟
التبعية يا هذا هو أن تكون كل يوم في "هيْجة"، تُشرّق وتغرّب من "س" إلى "ص" تحثك الحاجة أو تبتغي المكانة المرجوة، ولا أزيد "الآن"..!!! ما جدوى نضالك إذا قادتك ظنونك وصراعاتك الداخلية في النهاية للتفكير بقريتك النائية المسجاة بالوجع المعمم على الدوام !! مافائدة أن تنظر لقضية وطن من خرم جيب لكوت جديد أنهى الحائك حياكته للتو!!
اخرج من هذه الحالة التي وضعت نفسك فيها إلى رحاب الوطن الكبير، الوطن الذي لا يقبل إلا الصادقين معه وقبل ذلك مع أنفسهم بدلا من أن تتخيل "الكوندو" الذي تعتليه "عِكْدةً" والقلم الذي تمتشقه "جرْملاً" تطلق رصاصك "الفشنج" على "الرايح والجاي" ..
إكبر وكن أنت .. رعاك الله