حفلة وداع
من يودع الآخر؟ أنا أم أنت؟
الرحيل ليس مجرد مسافة إنما هو عمرٌ مؤجل لأنك حين تسرح في خطاك لا تستوعب مايجري لك بل تتشكل ذاكرتك عشوائياً و لا تلتقط أنفاسك إلا عندما تعود للحظة الصفر إنها ولادةٌ جديدة تتمخض بأثر رجعي كي تتدارك مافاتها من جمال و كمال و سجال و مُحال وووووو
أروع ماقيل في الوداع بالشعر الجاهلي (معلقة الأعشى الذي يقول بمطلعها :
" ودِّع هريرةَ إنّ الركبَ مرتحلُ
و هل تُطيق وداعاً أيها الرجلُ "
الوداع شيءٌ من الحرمان و لم يبلغ الحرمان عاشقٌ كما بلغه مجنون ليلى الذي يقول في شغفه :
" أمرُّ على الدِّيارِ ديار ليلى
أُقبِّل ذا الجدار و ذا الجدارا
وما حُب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا"
إن سيرة الوداع تمشي في خطِّ متوازٍ مع سيرة الحرمان الذي يُخلِّف وراءه جثةً هامدة و مشاعر بائدة و قصة حاقدة !
فإذا كان الإحساس بالحزن به نزعة خذلان ، فالإحساس بالوداع شكلٌ آخر لخيانةِ غير مبررة لذلك لا تخلو حفلة الوداع من صراحة جارحة ، و تهيؤات تُسيء للطرفين -المُودِّع و المُودَّع- حيث يأتي الوداع بلا برتوكولات هكذا فجأةً دون سابق إنذار و الأصعب ألا تكون هنالك مواجهة و هذا لا يعني أن العتاب و التوبيخ المدوِّي لن يتم بل هو الزمن كفيلٌ بتقريب المسافة حيث معركة الشوق عادةً ماتكون مدمرة إذا تسبب طرفٌ في حِنث الوعود و نكران الجميل و تشويه سمعة هذا لا يعني أن الوداع الغامض نكهته أقل مرارة فكلاهما وجهان لضحيةٍ واحدة !
الوداع ليس طبعاً رجولياً بل الأكثر وداعاً في موّال العلاقات العاطفية هن النساء اللواتي أجدن هدم الكيان الروحي للرجل كما احترفن منذ زمن امرؤ القيس إسقاطه من برجه العاجي ؛ لذلك قال المَلِكُ الضليل في معلقته المشهورة :
" ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي
بصبحٍ و ما الإصباحُ منك بأمثلِ
مِكرِّ مِفَرِّ مقبلٍ مدبرٍ معاً
كجلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من عَلِ"
فمن يُحطِّمُ قلباً بوداعه الناعم؟
وهل هنالك وداعٌ مُبرَّر؟
لماذا لا يكون الوفاءٌ عامراً كالبنيان المرصوص؟
ولماذا لا يكون الوداع نزيهاً بلا خيانات؟
وهل الوداع في الثقافة العربية يختلف عنه في الثقافات الأجنبية؟
لماذا اقترب الوداع بالحب؟ و هل الوداع مرحلة لابد منها في مراحل العلاقات؟ و هل هو سُمٌّ زُعاف علينا أن نتجرعه جميعاً؟ و هل المرأة سبب النكبات العاطفية؟
سأترك الأسئلة تدور في رحى المخيلة حتى يطحن إجاباتها كل ذو فطنة و من له في العلاقات صولاتٌ وجولات أما البريئون الذي فُطروا على النقاء الخالص مثلي سوف آخذهم معي باتجاهٍ آخر ؛ وهو الوداع باعتباره منعطفاً للخلاص !
أحياناً نودع أشخاصاً لأنهم عبئاً علينا أو نشكل عبئاً عليهم في علاقاتنا الشخصية أياً كانت و الوداع ليس بالضرورة أن يكون علنياً كذلك الحب مباغتٌ في كل شيء و علامات الوداع شاخصة للعيان دون هروبٍ تكتيكي و دون مواربة أو حيل بل يكفي قلة اهتمامك بالشخص و هذا عنوانٌ عريض في صفحة ا ل و د ا ع .
الوداع المكتنز بالذكريات يقدح زناد الغيض أما الوداع الذي لا أثر به مثل انتقال المرء من طور لآخر فهو أمرٌ عادي ، فهنالك أشخاصٌ حكم القدر عليهم ألا يتغيرون و هم كالأمس لم يتجاوزوا سوى ملامحهم الطفولية بينما عاداتهم و أفكارهم بقيت في مهدها ، فهؤلاء وداعهم واجبٌ .
وهنالك أشخاص أخذتهم ظروف العمل و تغيرت ملامحهم قبل مشاعرهم كما ساقتهم التحولات لأن يسافروا و يقتسمون خبز الحياة مع أقوام و شعوب أخرى مما أصبحوا بشراً آخرين كأننا لم نعهدهم و هذا وداعٌ عفوي لا ذنب لهم فيه و لا عتاب لك عليهم و لاًهم يحزنون .
يبقى الوداع الذي ضرب القلب بأوتاده ، و خيَّمت نار الذكريات برماده ، و طمّع فينا بُحسّاده ، و سامرنا الليلُ بسُهاده حتى لم ننله لا بصحوه و لا برقاده ... هذا الوداع يليقُ به دبكة شامية لا تهدأ ، و زاراً أفريقياً حتى مطلع الشمس ، و تعويذات فرعونية كأعياد شم النسيم ، و إيقاعات صوفية من جبال القوقاز ، حيثُ وداع الروح إلى بارئها في تابوتٍ حزين ذلك هو الوداع الذي يستحق منا الكيب بمكيالٍ واحد و هو التحسر على فوات العناق و الدمعة الرطبة التي تُشعل أنامل الكتابة ساعة الفراق الأخير .
أما وداع العيال و الدلع الهمجي فابتسامةٌ سوقية و نظرة ملائكية و حيلةٌ راغبة تكفي لعودة الغائب و رأب الصّدعِ عن خطأ وارد ، و لا داعي لإقامة النذور بل كن واعياً بمقدار محبة الآخرين لك و بحجم وفائك اللامحدود في غيابهم قبل حضورهم حيث تَباهى بمن تُحب و لا تطعن أفعى في غيابها ناهيك عمن يبذل دمه و ماله و عرضه تكريما و تعظيما لروعة علاقتكما ؛ فانتبه من ا ل و د ا ع ا ل ح ق ي ر .