عن النسيان والعزلة
( جميعنا محكومون بالتراب والنسيان ......... والكتب هي محاكاة للذكرى ، طرف صناعي وظيفته التذكر ) هكذا يبدأ الكاتب اكتور آباد فاسيولينسي آخر فصل في كتابه النسيان الذي تحدث فيه عن سيرة عائلته كان يقودها رجل شكّل شخصية الكاتب ، وعندما نقول "يقودها" فنحن لانعني القيادة بمعنى السيطرة لكن القيادة الحكيمة التي تنصح وتوجه دون استبداد أو دكتاتورية ، كان الكتاب محاولة اكتور آباد للانتقام لوالده ، للأخذ بثأر ذلك الذي أفنى حياته في سبيل حقوق الإنسان الكولومبي الذي عانى أشد المعاناة وندد بالقمع والحصار الفكري الذي عانى منه الجميع وراح ضحيته كثيرون ومنهم ذلك الأب الشجاع في جريمة " إطفاء عقل " نجحوا فيها
نرى الفرق الواضح بين " مذكرات" اكتور آباد التي كتبها عن والده التي أراد بها أن تكون صرخة احتجاج ضد أولئك الذين قاموا بإطفاء عقل والده وشجاعته في المدافعة عما يؤمن به تعويضاً عن نفص الشجاعة التي أحس بها الابن تجاه قضية يظنها خاسرة لكنه يدعم كل من يمشي على خطى والده وبين المذكرات التي كتبها بول أوستر عن والده في كتاب اختراع العزلة . الغايات اختلفت لدى الكاتبين ففي حين أراد اكتور الانتقام برواية ماحدث نجد بول أوستر يحاول أن يفكك عزلة اختارها والده ووجد نفسه فيها وبينما كانت عاطفة بول أوستر متوازنة وتكاد تكون حيادية نجد أن عاطفة اكتور كانت متدفقة وعظيمة للحد الذي قد يجد معه البعض هذه العاطفة تجاه أب تكاد تكون نزعة خارجة عن المألوف . أراد بول أوستر في كتابه أن يفهم والده المستعصي على الفهم وإيجاد صلة تربطه به عدا عن صلة الدم ، المحاولة لسبر أغوار شخصية تكونت بفعل عوامل تكشفت للكاتب وربما تضع لنا تبريرات لما كانت شخصيته عليه ، مع بول أوستر أحسستُ بضبابية عدم الفهم التي لاحت خلال الأسطر ومع ذلك تابع الكاتب سرد عناصر تكوين شخصية والده في محاولة لتفكيك أسرار كينونة شخص من المفترض أن يكون أكثر من يفهمه ، بالمقابل نجد الوضوح في شخصية الوالد التي كتبها اكتور آباد والذي لايدل إلا على مدى قوة العلاقة التي ربطت الأب بالابن ، كان يعلم ما يؤمن به والده وماهي أهدافه ، تشرّب مبادئه ومُثله بل تكاد تصرخ السطور بنبرة الفخر التي أحس بها تجاه والده والتي قد تجبرك على قول" كم يشبه هذا الرجل أبي " أو قد تقول " محظوظ هو لأن لديه هكذا أب "
تناول اكتور آباد تفاصيل عديدة ودقيقة عن رحلة والده في الدفاع عن حقوق الفرد في التمتع بحياة كريمة وباعتباره طبيباً أراد الإصلاح وإنقاذ المجتمع الغارق في مشاكل لا حصر لها ، هذا الكفاح لم يمنعه من أن يكون أباً حنوناً بعاطفة متدفقة تجاه أطفاله جميعهم
تجربة القراءة لكل من اكتور آباد وبول أوستر عن آبائهم توضح لنا اختلاف سيكولوجية الفرد وتأثير خلفيته الاجتماعية عليه بالسلب والايجاب ، كانت قراءة ثرية ومثمرة بالنسبة لي كإنسان وككاتبة ، فحينما يضعك اكتور آباد في خانة الوضوح ويغوص بك في تفاصيل عديدة بطريقة مبهرة دون أن ننسى لمحة الحنين فيها يضعك بول أوستر في امتحان وحيرة في إعجابك به ككاتب استطاع مسك خيوط الحقيقة كلها وعرضها بدون أثر لتجميل الحقائق أو صوت صغير من الندم وبين مشاعرك كابن وهذا منوط بعلاقتك الحقيقية مع والدك
كاتبان لا نستطيع أن نقول أن أحدهما تفوق على الآخر لكن استطاع كل منهما أن يكتب ما شعر به دون تزييف أو مبالغة في موضوع يمسهما شخصياً
نجران