"قهوة باردة" قصة قصيرة لــ عوض الثقفي
اعتاد أن يقف على شاطيء البحر*كل مساء خميس ليشهد الغروب*الذي كان ذات يوم أجمل مشهد*رآه عندما كانت يده تحتضن*يدها .. هنا بين الرمل الخاضع للموج حكاية ضحكات وأمنيات خبأها الماضي لتكون في ذاكرة*اليوم وغد .. فكرته المجنونة أن كل من يفارقون وهم أحياء*يختفون خلف البحر ويعيشون*في نعيم النسيان فالفرار أهون من البقاء وهو خيار اللاوفاء فمن يبقون هم كالشجر الثابتة جذوره*يقاسي الريح والعناء وفصول الهجير والشتاء ويسقط الخريف صبرهم ليتجدد في ربيع العمر ورقا من أمل أخضر . .
كان يعشقها ويذكر تلك الأحلام التي كانت تحدثه عنها كلون الستائر والجدران لغرفة النوم والصالة حتى لون عيني طفلتها التي كانت تتمنى أن تكون كلون عيني أبيها العسلي الفاتح ولا ينسى الليلة التي علت فيها زغاريد الفرح حين وضع دبلة الخطوبة في إصبعها ويده ترتعش وعيناها تسقط فرحا في ضحكته الخجولة .. كان الشط موعد اللقاء أثناء خروجها مع عائلتها بعد عصر كل خميس أو ليلة خميس لم يكن فيها العريس .. في الثلاثة الأشهر الأولى من الملكة جمع من الأحلام معها مايفي طمع الرغبات ومايخرس نهم الأمنيات .. كان العائق الأول هو إتمامها لدراستها وحصولها على شهادة البكالوريوس ..واقترب الوعد فتخرجت وبدت له الحياة تبتسم وفي ليلة طرز القمر فيها شط البحر بضوئه الذهبي الخافت كان يحدثها على ساحل الوعد عن قرب ليلة الزفاف وحلول عيد الصبر وكانت تخبيء عنه أمنية راودتها أثناء الدراسة فقررت أن تفصح عنها لتخبره برغبتها في إكمال دراستها بالخارج وأنها تريد منه مرافقتها ..هدأ الموج ونزل الخبر عليه كصاعقة تقتل أحلامه فصمت وودعها مؤجلا الحديث عن موضوع البعثة لوقت لاحق .. ذهب لمنزله حزينا وأشعل سيجارة عله يحرقها ويحرق بها حزنه انتهت السيجارة ولم ينته الألم وطالت ليلته والفجر يغفو في حضن الغفلة عنه .. مضى أسبوع وهو منقطع عنها ومكالماتها تنهال على جواله الصامت .. قرر أخيرا أن يخبرها بعدم رضاه عن ذهابها للبعثة ظنا منه أن ذلك سيثنيها عن رغبتها ولكنها قالت له لن أتردد عن الذهاب في حالة الموافقة على البعثة وكنت أظنك أول السعداء بنجاحاتي ولكن يا خسارة ! كانت هذه آخر كلماتها له وأغلقت بعدها سماعة الهاتف ليشعر بعدها أن أبواب الفرح بدأت تنغلق واحدا تلو الآخر .. جفوة بينهما دامت أياما ذهب بعدها لأمها لتتوسط في الأمر إلا أن أمها صعقته بخبر رغبة ابنتها الطلاق منه معللة لذلك بأن الخلاف بينهما على أمر لا توسط فيه .. خرج مغضبا و قاد سيارته بسرعة متمردا على أنظمة المرور والحياة وعلى نفسه الهادئة غالبا .. وبعد أيام كان اسمها في قائمة المبتعثات وأرسلت له رسالة : أرجو منك فك ارتباطنا بتطليقي عاجلا وأتمنى لك حياة سعيدة مع من تختارها وأعلم أنك رجل تتمناه ألف بنت ولكن أفكارنا مختلفة وطموحنا مختلف . . ذهب إلى المحكمة ليسدل الستار على قصة حب لم تكتمل ، انهارت أعمدتها أمام عاصفة الابتعاث ..وفي صمت تام تم الطلاق وفك الارتباط بين قلبين تجاذبهما شط حب و موج ابتعاث وانتصر الموج وتهدمت بيوت الحلم الرملية على ساحل الغرام .سافرت مها مع والدها المتقاعد في رحلة الطموح مخلفة وراءها قلبا معلقا بها خذلته ظروف الحياة أن يكمل مسيرة أحلامه وعاد عبدالله يمارس حياته بنصف ضائع منه ولم يقطع ذهابه للبحر في موعد الخميس كل أسبوع يحاور الشمس الغاربة و يلتقط حجارة من الشط يرمي بها ماء البحر ليتابع صوت السقوط ودوائر الماء التي لا تلبث أن تتلاشى .. كان شابا طموحا أوصله ذاك الطموح لمنصب نائب مدير الشركة التي يعمل بها مهندسا فاختاره مدير الشركة للسفر للخارج لإكمال الماجستير في الهندسة الكهربائية وكانت الفرصة للهروب من الماضي والذكريات وحزم حقائبه وقص تذاكره وسافر فلم يفقده سوى أهله وشاطيء حزين كان مهدا لأحلامه يختزل بين ذرات رماله ضحكات عاشقين وأمنيات زواج ابتلعه الموج وحزنت عليه الشمس .. مرت خمس سنوات وعاد عبدالله حاملا شهادته بتقدير ممتاز وعين مديرا للشركة وكان يتأمل في حاله كيف وأد حلم اثنين بسبب رفضه لفكرة ابتعاث حبيبته وقبوله لابتعاثه فيصف نفسه تارة بالأنانية وأخرى بسيء الحظ .. وذات ليلة يتلقى اتصالا من رقم مجهول فلم يرد لكن الاتصال يأتيه مرة أخرى فيرد وإذا بصوت أنثوي يعرفه تماما .. عبدالله ..كيف حالك ؟ نعم نعم إنها مها ولأول مره يضيق صدره من صوتها وحاله يقول ماذا تريد مني وقد هدمت كل شيء .. طالت المحادثة بينهما وكانت آهاته أعلى صوت في حوارهما .. سألته مها هل تزوجت ؟ ليخبرها بأن الزواج آخر مايفكر به وأخبرها عن نجاحاته ..ثم سألها وأنت تزوجت ؟ قالت : لا وأنت تعلم لماذا لم أتزوج ..فقال : أنا ؟ قالت : نعم فأنت خياري الوحيد الذي حاولت التمسك به لآخر لحظة وأنت من نزعه مني برفضك لابتعاثي .. قال : ربما كنت أنانيا ولكني أحبك وظروف عملي لاتسمح لي بمرافقتك .. قالت : ومازلت تحبني ؟ قال : وهل أحببت غيرك يوما .. ولو أعلم بأنك توافقين على الزواج مني لتقدمت مرة ثانية ولكن بدون ابتعاثات . فضحكت وقالت : وماذا ستحضر لي من هدية إذا تقدمت لي ؟ قال : أحضر لك أنا . ضحكت وقالت تقدم يا بطل .. وانهت المكالمة .. وضع هاتفه على الطاولة واستلقى على الأريكة وكأنه لا يصدق ماحدث .. وفي عصر اليوم التالي ذهب لأهلها محملا بالورد والهدايا ليعيد أحلام السنين الفائته التي عصفت بها الظروف وقوبل بالموافقة .. صوت أخير على البحر وهو يتأمل الغروب : عبدالله تعال القهوة بردت .