المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
السبت 16 نوفمبر 2024

احتـرام الكـبـيـر بــيـن التحـقيـر و التوقـيـر

*الكاتب :إسماعيل بن محمد معروف الثقفي

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لانبي بعده ، وبعد : قيمة احترام الكبير من القيم الإسلامية العظيمة التي يتعبد المسلم بها إلى الله عز وجل ، وهي ليست مجرد تقاليد صارمة ، أو اجراءات حزم ، بل سلوكيات راقية نؤديها عن طيب خاطر، ورضا نفس ، والتماس أجر، وابتغاء ثواب .

في شريعتِنا الحنيفيّة السَّمحة أخلاقٌ عالية ، وأدَبٌ عظيم، وفضائلُ عِدّة ، لكنّ المصيبةَ غفلةُ كثيرٍ من المسلمين عن هذه الأخلاقِ والِقيَم ، وتناسيهم لها، وعدم عَمَلهم بها، فينشأ النشءُ من غير أن يقيمَ لتلك الأخلاق وزنًا، وكان المطلوبُ منا جميعًا أن نربِّيَ نشْأنَا التربيةَ الإسلاميّة الصحيحة على الأخلاقِ الإسلامية والقِيَم الإسلامية، التي يسعدُ بها الفَرد في حياته وآخرته.

وشريعةُ الإسلام جاءت بِما يُقوِّي الرَّوابطَ بين أفراد المجتمَعِ صغيرِه وكبيره ، غنيِّه وفقيره ، عالِمِه وجاهِله . جاءت بما يقوِّي تلك الأواصرَ ؛ حتَّى يكون المجتمع المسلِم مجتمعًا مثاليًّا في فضائلِه وقِيَمه ، وفي شريعة الله كلُّ خير وهدًى ،" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ". [ يونس: ٥٧] .

ومن تِلكُم الآدابِ العظيمة ما جاءت به الشريعةُ مِن حثِّ الصغار على احترامِ الكِبار ، وأمْرِ الصّغار بإجلالِ الكِبارِ وتعظيمِهِم وترقيرهم ، والرِّفقِ بهم وعَدمِ التّطاوُل عليهم أقوالاً وأفعالاً . هذه شريعةُ الإسلام تدعو المسلمَ إلى أن يُكرِمَ أخاه المسلمَ الذي تقدَّمَه سِنًّا ، وسبقه في هذه الحياةِ ، تدعوه إلى أن يحترمَه ويكرِمَه ، ويراعيَ له كِبَرَه وسابِقَتَه في الإسلام ، فيجِلّ الكبيرَ ويحترمه، ويعرِف له قدرَه ومكانته ، والكبيرُ مأمورٌ برحمةِ الصِّغار، والعطفِ عليهم ، والرِّفق بهم ، والإحسانِ إليهم . هذه المنافعُ المتبادَلَة بين أفرادِ المجتمَعِ المسلِم تثبِّتُ أواصِرَ الحبِّ والوِئام بين الجماعةِ المسلمة.

وتطبيق هذه القيمة يمنع الفوضى والغوغائية في المجتمع ؛ فالقيادة ليست بالغلبة أوالتسلط أو التكبر على الآخرين ، بل بمعايير محترمة يتكافأ الجميع بخصوصها من ناحية الحقوق والواجبات، وكل إنسان قد يكون كبيرًا في مَواطن ومَكبورًا في مواطن أخرى ، فتكون هذه القيمة الرائعة مرة حقًّا له ومرة واجبًا عليه ؛ لذا يجب أن نعمل على إحياء هذه القيمة التي كادت أن تندثر في مجتمعاتنا ، ونبدأ بغرسها في نفوس أبنائنا منذ نعومة أظفارهم ، وندَّربهم عليها بشكل عملي ؛ حتى يتعودوا عليها في كل المواقف وفي كل المحافل .

إجلال الكبير من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومن سمات المجتمع المسلم : انظر موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع والد سيدنا أبي بكر الصديق عند فتح مكة عندما أسلم ، وأراد أن يأتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلن إسلامه ، فقال صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر الصديق : " ألا تركته في بيته ونذهب نحن إليه .." فيه إشارة إلى احترام الكبير. وللكبير مكانته المتميزة في المجتمع المسلم الذي يوليه عناية خاصة ، ويتعامل معه بكل توقير واحترام ، انطلاقًا من تعليمات عديدة لرسولنا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وكلها تحمل معاني معرفة حقوق الكبير والتوقير والإجلال والتكريم والتشريف ، يقول فيها صلى الله عليه وسلم : ١- معرفة حق الكبير: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال : قال رسول - الله صلى الله عليه وسلم-: "من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا ؛ فليس مِنـَّا ". (حديث صحيح، رواه البخاري في الأدب، وأبو داود).

٢- توقير الكبير: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ، ويأمر بالمعروف ، وينه عن المنكر". (حديث حسن رواه أحمد في مسنده والترمذي).

٣- إجلال الكبير: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منا من لم يُجِّـل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالِمنا حقه ". (حديث حسن، رواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك).

٤- معرفة شرف الكبير: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا " (حديث صحيح رواه أحمد في مسنده، والترمذي، والحاكم في المستدرك).

واحترام الكبير قيمة من القيم المهمة التي تجعل حياة المجتمعات ذات قيمة وروعة وجلال وجمال ونظام يُقـدَّر فيها الكبير ، ويوضع فى المكانة التي تليق به ، ويعرف كل شخص دوره ومكانه فلا يتعدي على الآخرين ، ولا يقفز فوق مكانتهم ، ولايطلب لنفسه البرنامج المفضل أكثر من قدره فيتحول إلى الكِبْر وبطر الحق وغمط الناس ؛ بل نظام وعدل ووضع للأمور في نصابها عبر قيم رائعة تنظم حياة المجتمعات بأسلوب راق ؛ فتجعل للمجتمع وأحوال الناس في كل محافلهم واجتماعاتهم ومعاملاتهم مرجعية يرجعون إليها ترتب الأمور ، وتحسم النزاع ، وتقود الدِّفـة ، وكذلك تجلب رحمة الله تعالى فقد ورد عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قوله "رحم الله من عرف قدر نفسه فاستراح ".

ومن أصعب الأشياء في المجتمع أن يفقد الكبير احترامه وتقديره وتوقيره ، وليس هناك من كلامٍ أبلغ من أن يقول النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام : " ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا ".

والعمل الصالح يطيل العمر ففي الحديث "ما أكرم شاب شيخاً لِسنِّه إِلا قيَّضَ اللهُ لهُ مَن يُكرمهُ عندَ سِنِّه" فالعمل الصالح يُطيل العمر، فيما العكس صحيحٌ ، وهناك استنباطٌ لطيف وهو إذا أكرمت إنساناً في الثمانين فلعلّ الله عزّ وجلّ يوصلك إلى سنّ الثمانين ، حتّى يُسخّر لك شاباً يُكرمك في هذه السنّ . فما تطاول شابٌ على شيخٍ استخفافاً به إلا قيّض الله له من يستخفّ به ويتطاول عليه عند كِبر سِنّه ."فإنّ الخير لا يَبلى ، والشَرَ لا يُنْسَى ، والدَّيان لا يموت".

وقد حثنا نبيَّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على هذا الخلقِ الكريم ، ورَغَّبنا فيه ، وبيّن لنا أنه مَن أحسن إلى الكبيرِ في الدنيا هيَّأ الله لذلك المحسِنِ عند كِبَر سنِّه، ورقَّةِ عَظمه مَن يجازيه بهذا العمَلِ الصّالح ، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِن مسلمٍ يكرِم ذا الشَّيبةِ ؛ إلاَّ قيَّض الله له من يكرِمه في سِنِّه ". فإذا أكرمتَ ذا الكِبَر لسنِّه قيَّض الله لك في حياتِكَ من يجازيك بمثلِ ما عمِلتَ ، فيكرمُك ويحسِن إليك .

ومن إِجلالِ اللهِ إِكرام ذي الشَّيْبَة المسلم يقول : عليه الصلاة والسلام : " إِنَّ من إِجلالِ اللهِ إِكرامَ ذي الشَّيْبَة من المسلمين ، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيه ، ولا الجافي عَنهُ ، وإِكرام ذي السلطانِ المُقْسِط ". ولئن كنتَ ممتَّعًا الآن بقوَّتك ، فتذكَّر بعد سنين وقد ضعُفت تلك القوّة ، وعُدتَ إلى ضعفِك القديم ، " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ " [ الروم : ٥٤] .

ونرى البعض تستطيلُ ألسنتهم على الكبار، ونرى من لا يعرِف للكبير أيَّ قدرٍ ولا أيَّ مكانة ، لا يرى له قدرًا ، قد يلمِزه بجهله ، وقد يلمزه بضَعف رأيه ، وقد يلمزه بقِلّة علمه ، وقد يلمِزه بعدَم نظافةِ ملبَسه ، وقد وقد... كلُّ هذه التُّرَّهات لا يجب أن تحمِلك على إهانةِ الكبير، بل قدِّر الكبير وعظِّمه . لئن كان هذا المارُّ بك شيبةً قد أمضى سنينَ عديدة ، فاعلم أنّك بمضيِّ السنين ستكون حالُك مثلَ حالِه ؛ إذًا فأكرِم ذا الشيبةِ ، واعرف له قيمتَه ومكانته ، إيّاك أن تستطيلَ عليه بلسانك احتقارًا له وسخريةً به ، إيّاك أن تترفَّع عليه لكونِك ذا علمٍ وفِقه وثقافة ، فترى ذا الشيبةِ أقلَّ شأنًا من ذلك ؛ بل تزدريه وتحتقِره لعلمك وحيويَّتك ، ولكِبَره وقد يكون لجهله ، إيَّاك أن يغُرَّك جاهُك ، أو يخدعَك منصِبك ، أو يغرّك كثرةُ مالك ، فارفق بمن هو أكبرُ منك سنًّا ؛ ليدلَّ على الأدبِ الرفيع في نفسك .

إنَّ هذا الاحترامَ الصادِر من المسلمين بعضهم لبعض دليلٌ على الخيرِ في نفوسهم ، ودليلٌ على التربيةِ والتنشئَة الصالحة التي ترَبَّى عليها الأجيال التربيةَ النافعة ، وما أحوَجَنا لهذه التربية النافِعَة ، التي تسود مجالسَنا وأماكنَ تجمُّعاتنا ، أن يكونَ الصغار يعرفون قدرَ الكبار، ويجلّونهم يقدِّمونهم مجلِسًا، ويقدِّمونهم جلوسًا، ويبدَؤون بِهم ، ويستشيرونهم ، ويُصغون إليهم ، ويرونهم التقديرَ والإجلال ، هكذا أدَبُ الإسلام الرَّفيع ، الذي إن تمسَّكنا به نِلنَا السعادةَ في الدنيا والآخرة . وفقنا الله وإياكم لبلوغ الدرجات العُلى .

بواسطة :
 0  0  13.4K