ذكريات شاب
*عطية جابر الثقفي
يقول هذا الشاب وهو يحكي قصة حياته التعليمية بعد أن أصبح ناضجاً يستطيع أن يُقَيِّمَ الأشياءَ ....بعد أن أصبحت أفهم المحيط الاجتماعي من حولي كنت أسمع إخواني الأكبر مني سناً يتحدثون عن المدرسة وكنت أطَّلِعُ على كتبهم فتعجبني بعض الصوروالأشكال حتى أصبحت أتشوَّق إلى اليوم الذي أدخل فيه المدرسة لكن إخواني أثناء حديثهم عن المدرسة كانوا يتحدثون عن صعوبة بعض المواد الدراسية وعن سوء معاملة بعض المعلمين القاسية حتى علقت في ذهني مفردة (الرياضيات ) ورسخت في ذاكرتي أسماء بعض المعلمين الأشداء .
المهم دخلت المدرسة فرحاً متهللاً مع شيئ من الخوف من هذا الجو الاجتماعي الجديد.
وفي الأسبوع الأول من عامنا الدراسي وجدت نفسي محصوراً مع مجموعة من الأطفال بين جدران أربعة في وضع مأسوي لا نسمع إلا البكاء والعويل حتى أنني شاركتهم البكاء دون أدري لماذا أبكي ؟....... وليس من أحد يشفق علينا أو يَفْهَمُنا أويُفَهِّمُنا.وأحيانا يخرجوننا إلى فناء صغير وتُقْذَفُ كرة بيننا ونُترك هكذا ...لكنني فهمت لاحقاً أن هذا الأسبوع يسمونه الأسبوع التمهيدي كما أنني عرفت أيضاً أن هذا الأسبوع يُنفَّذ في كل مدرسة حسب مستوى الوعي التربوي لدى العاملين فيها .
ومرت الأيام وفي ذهني صعوبة الرياضيات وما أن عرفت أن هذه المادة (هي الرياضيات ) حتى تملكني الخوف والارتباك .
فضلاً على أنني لم أجد من المدرسين من يُراعي مرحلتي العمرية ليكون عوناً لي بعد الله في الاندماج مع الجو المدرسي الذي لا أرى فيه ما يجذبني أو يحقق حاجاتي الطفولية حتى المبنى لم يكن يختلف كثيراً عن بيتنا ؛ وقد علمت فيما بعد أنه مُستأجر ولا توجد فيه أية مرافق تخدم العملية التعليمية والتربويةمن خلال ممارسة بعض الأنشطة سوى ذلك الفناء الصغير الذي نتكدَّس فية أثناء طابور الصباح وصلاة الظهر التي يؤديها طلاب الصفوف العليا فقط لضيق المساحة أولأننا لم نزل صغاراً كما يعتقد مسؤولو المدرسة !!
والحقيقة إن المعلمين لم يعيرونا أي اهتمام على اعتبار أننا مازلنا صغاراً لا نعرف شيئاً عما حولنا مع أن نظرتهم هذه غير صحيحة فنحن ندرك أغلب ما يجري في المدرسة لكننا لا نحسن التعبير عن أنفسنا وبالتالي فنحن نتقبل كل الأوامر والنواهي بصمت .!!
وأما المرشد الطلابي فكل الذي نعرفه عنه أنه ذلك الرجل الذي يَصطفُّ الطلاب في طوابير أمام مكتبه كلما طردهم أحد المعلمين من الفصول عقاباً على أي تقصير في الوجبات الطويلة أو تصرف سلوكي طفولي كان بإمكان المعلم تداركه في حينه بأسلوب أبوي حنون وما ذلك إلا لأننا مازلنا صغاراً.
ومرت السنوات ...وفي كل سنة أكره هذه المدرسة أكثر وأكثر ويقل تحصيلي الدراسي إلا أنني والحمد لله في كل سنة أنجح ولا أدري كيف نجحت !!!! ولكن بعد أن أصبحت شاباً عرفت أن ذلك النجاح إنما هو بفضل الله ثم بفضل (نظام التقويم المستمر) !!
وتجاوزت المرحلة الابتدائية وكانت مداركي العقلية قد ازدادت تفتُّحاً وإدراكاً ؛ كيف لا يكون ذلك وأنا أقف على أبواب سن المراهقة .وكنت أعتقد أنني سأكون أسعد حالاً من ذي قبل ولكن الذي حصل أن الأمور أصبحت أكثر تعقيداً لأسباب كثيرة منها :
ما يتعلق بصعوبة بعض المناهج الدراسية وعدم ملاءمتها لعمري الزمني لاشتمالها على الكثير من الحشو وكثافة المعلومات التي أجد نفسي أمامها غير قادر على استيعابها إلا أنني في نهاية العام الدراسي أنجح كغيري من طلاب المدرسة ولا أدري لماذا أنجح ؟؟؟!!!
ومن الأسباب أيضاً ما يتعلق بالمعلمين وما أدراك مالمعلمون فقد قابلت صنوفاً كثيرة :
فمنهم من كان مستواه متدنياً علمياً وثقافياً وغير مُلم بمادته وهذه نقطة ضعف كبيرة وكل الذي يقوم به قراءة موضوع الدرس من كتاب الطالب هذا إذا لم يطلب من أحد الطلاب القراءة ويكتفي بشرح بعض المفردات التي يظن أنها غير مفهومه فتمر الحصة رتيبة ثقيلة مملة ...
ومنهم من يمتلك المعلومة الصحيحة عن مادته لكنه لايستطيع أن يحقق أهداف الدرس سلوكياً وتربوياً وبالتالي فنحن لا نحصل على الجرعة الكافية من المعلومات المطلوبة.
ومنهم من يفتقر إلى الحد الأدنى من معرفة أساليب التربية والتعليم إما لأنه فض غليض القلب ...وإما لأنه متعالٍ ومتكبر ولا ينظر إلى الطلاب إلا شزراً فيشمئزون منه ويكرهون مادته ويتعاملون معه بحذر شديد والنتيجة عدم تقبل ما يقوله أو يفعله أثناء الحصة .ومنهم طويل اللسان الذي لايتردد أن يسمعنا أسوأ العبارات وأقبحهامما يجعلنا نفر منه ولا نتقبل كل ما يقول .
ومنهم مَنْ لا يتورع عن الضرب بأية وسيلة متوفرة لديه لاعتقاده أن الضرب هو الوسيلة الناجحة لضبط سلوكيات الطلاب ونسي أن التجارب التربوية أثبتت أن الضرب وسيلة تعليمية وتربوية فاشلة لا ينتج عنها سوى سخط الطلاب على المدرس وحقدهم عليه ورفضهم نفسياً وعقلياً لكل ما يقول من أقوال مفيدة أو أعمال حسنة ولو أن الضرب يفيد في العملية التعليمية لما منعته وزارة التعليم.ومنهم الكاره لطلابه بدون أسباب الحاسد لهم الذي يتعمد تصعيب أسئلة الاختبارات والايتجاوز عن درجة واحدة ويرى في ذلك راحة نفسية يتلذذ بها.
ومنهم ذو الشخصية الضعيفة الذي لايستطيع ضبط طلابه ولا يحسن إدارة حصته فتكون النتيجة ضياع الدرس تلو الآخر مما ينتج عنه الاستهانة بالمعلم ومادته .
ومن تلك المعوقات مايتعلق بقيادة المدرسة التي لم تكن أحسن حالاً من أولئك المعلمين الذين زرعوا في نفوسنا الخوف والحقد والكراهية لكل ما في المدرسة من أحياء وجمادات حتى أصبحنا حاقدين ناقمين على كل شيئ له علاقة بالمدرسة ولأننا أصبحنا قادرين على الانتقام كانت تصرفاتنا يتخللها بعض العنف من تكسير وتخريب لممتلكات المدرسة وحتى سيارات بعض المعلمين أصبحت هدفاً للانتقام منهم مما جعل بعض الناس من حولنا يعتقدون أننا جيل فاسد من خلال تصرفاتنا الخاطئة ونسبوا تلك الأعمال الشريرة إلتي تحدث من بعض المقهورين إلى سوءالأخلاق والتربية المنزليه ونسوا أوتناسوا أن المنظومه التعليمية هي من صنع فينا هذه السلوكيات غير المرغوبة لأنها تجاهلت إنسانيتنا وحاجاتنا ولم تهتم بتوجيهنا التوجيه التربوي الصحيح بالإضافة إلى إهمال الأسر واعتمادها في تعليمنا وتربيتنا كلياً على المدرسة ظناً منها أن المدرسة بها من القياديين والمعلمين الأكفاء الذين يستطيعون أن يسدوا مسد الأسر في كل شيئ!! على أن الشيئ الوحيد الذي امتازت به مدرستنا المتوسطة عن الابتدائية أن حكومتنا وفقها الله أنشأت مبنىً حكومياً متاكاملاً يحتوي على كثير من المرافق المساندة للعملية التعليمية والتربوية كالفناء الواسع والملعب الرياضي والمسجد والمنشآت الملحقة الأخرى .ولكنها وبكل أسف لم تُستغل الاستغلال الأمثل مما قلل من فائدتها .
كل هذه العوامل ونحن في سن المراهقة هذه المرحلة التي هي بالتأكيد من أخطر مراحل العمر ولكن بكل أسف لايدركها ويعرف خصائصها ويتعامل معها بطريقة تربوية إنسانية أحد لا المنزل ولا المدرسة ولا حتى المجتمع .
ونتيجة لذلك تكونت في نفسي فكرة على أن المدرسة بيئة غير جاذبة بدليل أني وزملائي كنا نتمنى اليوم الذي تُغلق فيه المدرسة أبوابها لنعود إلى بيوتنا فرحين مستبشرين ثم ما يلبث هذا الفرح إلى أن يتبدد كلما اقتربنا من بداية فصل دراسي جديد ومع ذلك فأنا أول الناجحين ولا أدري لماذا أنجح؟؟؟!!!
وهكذا حتى انتهت المرحلة المتوسطة حينها كنت في قمة الفرح لأنني سأنتقل إلى مرحلة جديدة ( الثانوية ) مبنى ومعلمين ومناهج وقيادة ومرحلة عمرية جديدة عَلَّها تشفع لي أمام هذه العوامل كلها وتمحو ما وقر في نفسي من تراكمات سلبية من خلال السنوات السابقة ولكن وبكل أسف لم تكن المناهج تُعِدُّنِي لسوق العمل الذي أتطلع إليه ولم أحصل على أية مهارات تنفعني مستقبلاً ولم أستفد من المختبرات والمعامل المتوفرة في مدرستي ... ولم يكن المعلمون أحسن حالاً من زملائهم في المراحل الدراسية السابقة إن لم يكونوا أكثر غلظة وفضاضة من سابقيهم بحجة أننا أصبحنا كباراً.!!
ولم تكن قيادة المدرسة تعي وسائل الجذب التربوية التي تساعدها على تحقيق أهدافها -- إن كانت لها أهداف-- ؟! إلا أنها تعي جيداً أساليب التهديد والوعيد بالطرد والحرمان من الدراسة لأي خطأ يحصل من أي طالب بحجة أننا أصبحنا كباراً أيضاً فهم لا يتجاوزون عن أية هفوة حتى لو كان تشميت عاطس ونسوا بل تناسوا أننا أصبحنا رجالاً بالغين مكلفين شرعاً لكنهم غافلون أو يتغافلون ومع ذلك فبتوفيق الله ثم باجتهادي الشخصي اجتزت المرحلة الثانوية بتقدير (ممتاز ) ولكن هذا التقدير لم يلبث كثيراً حتى هوى إلى أسفل السافلين بفعل اختبار القدرات والمعدل التراكمي....مما جعلني في حيرة كبرى فأي جامعة تقبلني أو أي قطاع عسكري ينقذني من الضياع ؟ ولا سوق العمل يستقبلني ؟؟!! فمن يرشدني ماذا أفعل ؟؟؟؟
بقي أن أقول إن كل ما ذكرته ما هو إلا غيض من فيض مما كان ومازال عالقاً بذاكرتي وهذا لا يعني أنه لم يبقَ في ذاكرتي إلا الذكريات السيئة أبداً .
فهناك جوانب مضئية عالقة في ذهني من بعض أولئك المعلمين الفضلاء في كل المراحل الدراسية الذين يتميزون بوافر من العلم والثقافة والأدب والخلق الرفيع والكفاءة العالية في أداء عملهم بطرق تربوية جميلة والتعامل معنا تعاملاً أبوياً وإنسانياً راقياً سهل لنا الكثير من الصعوبات التي واجهتنا وفتحوا أمامنا آفاقاً واسعة لكسب ألوان العلم والمعرفة وشحذ هممنا وإعطاءنا أملاً في مستقبل مشرق ....صحيح أن دورهم له حدود نظامية تحكمه وبالتالي فليس لهم ذنب في ضياع الدرجات التي حصلت عليها وابتلعتها اللوائح والأنظمة حتى ضاع مستقبلي .
فهؤلاء لن أنساهم مدى الحياة أدعو لهم دائماً بصالح الدعاء وأذكرهم في المجالس بجميل الكلام وأحسنه وأذكرهم بالخير داعياً لِحيِّهم بطول العمر وحُسن الخاتمة؛ والمغفرة والرحمة لميِّتهم. وأتمنى أن تُتاح لي الفرصة لمساعدة وخدمة أي واحد منهم حتى أردَّ ولو بعض الجميل . كما أنني لازلت أذكر بعضاً من المواقف الرائعة من بعض قياديي المدارس الذين وجدنا منهم حسن التصرف الإداري لما ينفع الطلاب ويسهل أمورهم ويراعي احتياجاتهم الإنسانية.
ومع هذا وذاك ما زلت مصراً على أن أردد قول الشاعر :
قُْم للمُعلمِ وفِّهِ التَّبْجيلا كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولاً.