المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الخميس 26 ديسمبر 2024

علم الأنساب.. من التأريخ إلى (أنت خضيري؟)!

ياسر صالح البهيجان * علم الأنساب (Genealogy) من أجل العلوم وأكثرها عراقة، إذ يُمكّن من إثبات صلة القرابة والنسب بين الأفراد ويحفظ حقوقهم بما تكفله لهم الشرائع والقوانين والدساتير، إلا أنه كغيره من العلوم تظل جزئيّاته عائمة إلى أن تأتي الثقافة بمدوناتها الشعريّة والنثريّة لتبدأ بإزالة الضبابيّة بما ينسجم مع أنساقها غير المعلنة، متخذة من العلم النبيل وسيلة للاستتار تارة والظهور السافر تارة أخرى. الاتجاه إلى تأريخ الأنساب في العالم العربي لم يسلم من تسلل الأنساق الطفيليّة المضمرة الكامنة في الجسد الثقافي التي اخترقت ثقافة الصورة بعد أن ظن الناس أنها مبشرة بنشوء ثقافة شعبيّة تقاوم الثقافة المصطنعة الموجهّة والطامحة إلى تحويل الشعوب إلى أداة استقبال سلبيّة تختار من يفكرّ بالنيابة عنهم بدلاً من منحهم إمكانات التعبير الحر، وهذا ما أوجد قنوات فضائيّة ومعرّفات في شبكات التواصل الاجتماعي تظهر فخرها بنسبها حال السلم وتمارس أقذع أساليب الإقصاء تأسياً بموقف الشاعر جرير في هجائه للراعي النمري بقوله: فغضّ الطرف إنك من نميرٍ، فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابًا. اجترار المخزون الثقافي الشعري المتمثل في تعاطي الشاعر الجاهلي مع القبائل الأخرى يتنافى مع حالة التحضّر والمدنيّة المتأسسة على مبدأ التعايش السلمي وحسن الجوار سواءً داخل المجتمع الواحد أو فيما بين المجتمعات الإنسانيّة كافّة. في الزمن الجاهلي كان للهجاء مبرراته وظرفيّته، وعادة ما يظهر في أوقات الحروب ومعارك الصراع من أجل البقاء والاقتتال للظفر بالمناطق ذات المياه الوافرة والأرض المنبتة، وتلك الظرفيّة ليست حاضرة في عصرنا الحالي ما يفسّر قوّة الثقافة وقدرتها على تجاوز المناخات فضلاً عن الأزمنة لتحافظ على هيمنتها في ذاكرة أبنائها الأمي منهم والمثقّف. الثقافة لديها قدرة فذّة على تحويل الأحداث العرضيّة ذات الظرفيّة المحددة إلى نماذج مفاهيميّة (Conceptual model) تقولب ذاكرة أفراد المجتمع وتؤطر آليّة حكمهم على أنفسهم وعلى الآخر على حد سواء، وتبدأ في وضع مبادئ متناقضة، إذ تصرّح علناً بمبدأ (كلنا أبناء آدم وآدم من تراب)، ثم تُسرّ في الآذان مبدأ آخر (نحن من قبيلة كذا وهي أعرق القبائل)، محدثة بهذا التناقض الصارخ تنافراً معرفياً كان له الأثر في إنتاج عقول مشوهة وسلوكيات هدّامة تخلخل استقرار المجتمعات وتسير عكس تيّار الوطنية والمواطنة. المخزون الثقافي بشقيه المعلن والمسكوت عنه يرفض أن يخضع للتقنين المدنيّ، إذ يعتقد بأنه كلٌ متكامل لا يتجزأ، ويشتاط غضباً من فرض الدول لنظام الجنسيّة Nationality)) الذي همّش أنساقه المضمرة ومنح الدولة حق حماية الأفراد الحاملين لجنسيّتها، في وقت ترى فيه الثقافة قدرتها على حماية من يؤمنون بها حتى وإن تسببت في نشر الفوضى، ويظهر سلوكها جليًا في حالات القتل بحجة الثأر أو الانتصار الذات، ومن تجلياتها أيضاً وصم الآخرين بمفردة (خضيري) حطاً من شأنهم، وكل ذلك جزء من العمى الثقافي الرافض للانصياع لقوّة القانون في ظل قوّة الثقافة.   * ماجستير في النقد والنظرية
بواسطة :
 0  0  11.2K