المصدر -
أن يصف أكاديمي من طراز إيلان بابي، الكاتب الإسرائيلي المعارض لسياسات دولته، نفسه بأنه «يشعر وكأنه العدو رقم واحد للدولة»، فربما يشكل ذلك مدعاة لغطرسة متخمة أو حالة من جنون العظمة غير القابلة للشفاء، إلا أن أياً من الحالين، لا ينطبق على البروفسور إيلان بابي، مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة إكستير البريطانية، وصاحب الشخصية الودودة، الذي يقر بأنه «يحب أن يكون شخصاً محبوباً»، ويجزم أنه ليس متمرداً بالفطرة.
فالتهديدات لم تتوقف يوماً بحق هذا الكاتب والمؤرخ الذي غادر حيفا يوماً لأسباب أمنية، و«لشعوره أنه مخنوق كمفكر» في ظل قمع الإحتلال الإسرائيلي للفكر والبشر، إذ يرى أنها تجرم بحق البشرية جمعاء، ويوضح أنه كانت تصله عبر البريد العادي والإلكتروني وبالهاتف، حيث يقول: «اتصلوا بأحد زملائي في الجامعة يوماً، وسألوه (لقد رأيناك تتناول القهوة مع إيلان بابي، فهل من الحكمة القيام بذلك؟)».
دعم خارجي
ومع ذلك فقد حظي بابي بدعم بعض زملائه والكثير من الطلبة لا سيما الفلسطينيون منهم، كما حظي بدعم خارجي متمثل بما كان يعرف بـ «رابطة الأساتذة الجامعيين في بريطانيا». ويعرب بابي ساخراً عن اعتقاده بأن «الجريمة الأكبر التي ارتكبها كانت دعم المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل من أجل إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية».
أما على الصعيد الدبلوماسي، فيعتقد أنه «من المهم فعلياً وجود هذا العدد المتزايد من الأفراد الأكاديميين الذين ينتابهم الشعور بعدم تحمل التعاون أكثر مع نظرائهم الإسرائيليين، باستثناء أولئك الذين يعادون السياسات الحكومية».
ويقول في سياق تأكيد المقاطعة: «أؤمن بأن الأشياء ستتغير فقط، إذا تلقت إسرائيل رسالة قوية، مفادها إنه طالما ظلت مستمرة في احتلالها، فلن تكون عضواً شرعياً في المجتمع الدولي، ولن يكون مرحّباً إلى ذلك الحين بالأكاديميين والأطباء والمؤلفين. مثل تلك المقاطعة فرضت في جنوب إفريقيا، ودامت 21 عاماً، وأفضت إلى إنهاء الأبرتهايد».
وفي الوسط العائلي، يفيد بابي بأن والديه المتوفيين هربا من ألمانيا في الثلاثينيات، واعتبرا الكيان الإسرائيلي ملاذاً آمناً منعهما من رؤية حقيقة انتزاع الأرض من أصحابها الفلسطينيين، مضيفاً: «لا يشاركني أخي وأختي النظرة السياسية عينها، ويجد بعض الأقرباء وأفراد العائلة الكبيرة صعوبةً بالحديث معي.
وفي تفكيري الخاص، أرى أني أنتمي لمجتمع يمارس فظاعات بحق الفلسطينيين. وأشعر أن من واجبي الاعتراض، حتى لو جعلني ذلك منبوذاً». ويقدم بابي الذي تعمّد نشر «السجن الأكبر على الأرض» بالتزامن مع الذكرى الخمسين لنكسة 1967، التي أوصلت الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة إلى أقصى مبتغاه، ليبدو مؤلفه بحثاً شاملاً معمقاً لواحد من أعنف الصراعات المأساوية المتمادية في العالم.
معلومات أرشيفية
ويتبدى إصدار بابي حول الأراضي المحتلة منطلقاً من حيث تسلسلت أحداث كتابه السابق «التطهير العرقي لفلسطين». ويرتكز فيه على معلومات أرشيفية منشورة، ليرسم بذلك تحليلاً حول دوافع السياسيين والجنرالات العسكريين واستراتيجياتهم، مروراً بعملية صنع القرار نفسها التي أرست أسس الاحتلال.
ويفصح بابي في كتابه، عن جملة أحاسيس وآراء تعكس بشكل أو بآخر أسباب توصله إلى قناعات أفضت إلى عدد من الإصدارات المتعلقة بحيثيات القضية الفلسطينية، حيث يؤمن بابي بأن «طريقة الاعتراض الأمثل من المنفى تتجسّد بالكتابة»، ويقول: «أنا مؤرخ، وتلك هي الحقيقة كما أراها: قصة ضحية وجلاد. والضحية هنا تحمل اسم الفلسطينيين».
كما يستعرض أيضاً بعض الذكريات التي تصب في الخانة عينها، فيقول: «أتذكر ذات مرة، كيف كان أحد العسكريين برتبة رقيب أول، يأمر الجنود بقتل الشباب العرب وإلا سيكبرون ويقتلوننا»، ويضيف: «ينتشر هذا الموقف بشكل واسع النطاق، ولهذا تجد قائدي الدبابات، وطياري إف16 أو قادة المدفعية يقتلون المدنيين بلا تردد، فقد تعلم هؤلاء طوال حياتهم، كيف يفقدون المشاعر الإنسانية».
سيناريو سلمي
ويطالعنا المؤرخ الجريء، عقب «التطهير العرقي لفلسطين» و«تاريخ فلسطين الحديث» بكتابه «السجن الأكبر على الأرض»، حيث قال رداً على سؤال، حول عدم طرح أية آمال مغلوطة أو بخسة بوجود حلٍّ جيد قريب، وهل يرى أصلاً إمكانية وجود حل؟ «ليس في المدى القريب بصدق، ولكن أعتقد أنه في الأمد البعيد، لأن المميزات الرئيسية للمشروع ستتقلص على أمل أن تختفي. وإني واثق بوجود سيناريو سلمي، ليس دفعةً واحدة، بل على طريقة الارتقاء من الأسفل للأعلى.
سيحلّ التغيير أولاً وبدايةً بسبب الصمود الفلسطيني والمقاومة الشعبية، وجراء مضاعفة الضغوطات الدولية على إسرائيل. وسيتم تعزيزه من خلال مسعى فلسطيني يهودي مشترك من أجل إعادة صياغة العلاقة بينهما على أساس المساواة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، والحقوق المدنية».
وفي حديثه مع مجلة «كريستيان ساينس مونيتور»، أجاب بابي عن سؤال يتعلق بملاحظته تبدلاً في فحوى الحديث بعد كتابي «التطهير العرقي لفلسطين» و«10 خرافات حول إسرائيل»، وحول إذا ما زادت نسبة تقبّل أعماله، بالقول: «يعتمد الأمر على المكان. ونجد حول العالم تبدلاً في الفحوى، أجل.
وهناك أيضاً استعداد أكبر لتغيير لغة وصف الأعمال التي ترتكبها إسرائيل سواء في الحاضر أو الماضي، وأصبح هناك جحود أقل لناحية التعسف الممنهج أو انتزاع الملكية بوصفهما هيكلية أو استراتيجية أكثر منهما مجرد سياسة. أما بالنسبة لإسرائيل، فلا يزال الإصرار على الإنكار وعدم الاستعداد عينه لمواجهة فصول الماضي البشع من الانتهاكات والممارسات».
نقطة جدال
يؤكد بابي أن نقطة الجدال الأساسية ترتكز على حقيقة أن الحركة الصهيونية في فلسطين حتى عام 1948، وأن الكيان الإسرائيلي مشروع استعماري استيطاني خالص. ويعتبر أن طبيعة مثل هذا المشروع تقوم على اعتبار المستوطنين أنفسهم، في مثل هذه الحالة تحديدا، أنهم مواطنون عائدون إلى وطنهم وأن أهل البلاد الأصليين ليسوا إلا غرباء، يمكن في أفضل الأحوال التعامل بتسامح معهم، شريطة عدم تحديهم لسلطة المستوطنين وملكيتهم. ويؤكد أن تلك المسألة تتعدى التخطيط فقط، أو الوضوح الاستراتيجي.
في الواقع، لا نعلم مدى صحة اعتقاد بابي في ظل التطورات المأساوية الأخيرة بحق الفلسطينيين والقدس، إلا أن أهمية كتابه تتأتى من تحليل الأصول التاريخية لضمّ الضفة الغربية وغزة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث يذهب لمعاينة الجهاز البيروقراطي الذي تم تطويره لإدارة الاحتلال من إجراءات سياسية قانونية مالية وحتى غذائية، وصولاً إلى الخطط العسكرية والأمنية المعتمدة على امتداد ما يقارب نصف قرن مضى.
الاحتلال وحكايات «السجن الأكبر على الأرض»
في كتابه «السجن الأكبر على الأرض: تاريخ الأراضي المحتلة»، يعود إيلان بابي، بالأحداث إلى عام 1948، ليصطحب القارئ في رحلة شاملة تتغلغل في استراتيجية الكيان الغاصب السياسية منذ تشكله على الأراضي الفلسطينية. ويسلط، على امتداد الخط، الضوء على لحظات التاريخ المصيرية واللاعبين الأساسيين، مع الإشارة، على الدوام، إلى الحقيقة القائلة بأن الاحتلال الكلي لفلسطين واستئصال شعبها، طالما شكلا الهدف الأكبر للرؤوس المدبرة في الكيان الصهيوني.
ويوضح بابي في مطلع كتابه، موقفه من الوضع الراهن الذي يسود الأراضي المحتلة، حيث يطعن في مطلع الكتاب بتعريف الاحتلال، مقدماً تحفظه الأول حول مسألة خلق التعبير، تعبير الاحتلال «انشقاقاً زائفاً بين ما يسمى إسرائيل والأراضي المحتلة».
يدين بابي ما يصفه بـ «بيروقراطية الشر»، ويقول إن ما تم تدبيره وتنفيذه، وما تحافظ أجيال البيروقراطية الإسرائيلية المتعاقبة عليه، يتمثل في السجن الأكبر على الإطلاق الذي يضم مليوناً ونصف المليون، وقد يصل إلى أربعة ملايين ممن لا يزالون حتى اليوم، بطريقة أو بأخرى قابعين داخل الجدران الحقيقية أو الوهمية لهذا السجن«.
ويؤرخ بابي في كتابه، الذي وصل إلى اللائحة القصيرة لجوائز كتب فلسطين 2017، مراحل السجن المفتوح منذ عام 1967، ويحدد له شكلان، الأول هو الذي يتيح ببعض الاستقلالية تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة، في حين أن»سجن الحماية الأمنية القصوى«، يلغي كل أشكال الاستقلالية من ويسحبها من الفلسطينيين ويعرضهم لسياسة العقاب الجائرة، والقيود وحتى الإعدام في بعض أسوأ الأحوال. ويشير بابي إلى أنه طالما يواصل»السجن الكبير الوحشي«في الأراضي المحتلة على امتداد 50 عاماً قمع المساجين، فسيكون مستحيلاً التعامل بشكل بنّاء مع حالات القمع في أمكنة أخرى من منطقة الشرق الأوسط، لا سيما سوريا.
ويكتب قائلاً:»إن الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل منذ 50 عاماً تشجع الآخرين من أنظمة ومعارضة، على الاعتقاد بأن حقوق الإنسان والحقوق المدنية غير ذي أهمية في الشرق الأوسط. وإن تفكيك هذا السجن الكبير في فلسطين سيبعث برسالة مغايرة وأكثر أملاً لكل من يعيش في هذا الجزء المتأزم من العالم«.
يصور الكتاب، بعرضه للنقاش مختلف القادة والحملات العسكرية للقارئ، فلسطين على أنها لوح لعبةٍ محاط بساسة إسرائيل، أما التحدي فيكمن في التخلص من الشعب الفلسطيني، إما عبر الدمج التام أو الترحيل والإقصاء القهريين.
وإن النهج المستخدم حالياً في الضفة الغربية، بحسب قول بابي، يعتمد على جعل الحياة بمنتهى الصعوبة للمدنيين، بحيث ينسحبون، فيما يصور غزة على أنها»نموذج السجن ذو التحصينات الأمنية القصوى«، وآخر مراحل الاحتلال الإسرائيلي.
إن الاحتجاز التام للشعب في ظل امتلاك الكيان الغاصب، ما يشبه حصانة المجتمع الدولي على قاعدة تصنيف حماس بالمجموعة الإرهابية، يتيح له مواصلة عدوانه الوحشي ضد القطاع، وخنق المدنيين الفلسطينيين ببطء، ويختتم بابي كتابه، بعد تصوير الحكم الأحادي الجانب الذي يطلق على أبناء الأراضي المحتلة، حكماً يجعلهم سجناء لمدى الحياة، بأسلوب قوي، حيث يستعرض خرائط تقلصت مساحتها على امتداد السنين، وصولاً إلى خارطة عام 2006 التي تسلط بشكل كئيب، الضوء على الجزء الصغير المتبقي من الدولة الأصلية، ما يقارب 12% فقط منها، التي تشكل أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية.
يمنح(السجن الأكبر في التاريخ) القارئ رؤيةً معمقة حول المشهد السياسي الإسرائيلي، ويلقي نظرةً باردة وقاسية على الحقيقة الفعلية الكامنة وراء الاحتلال، تلك الرغبة العنصرية الجشعة للاستئثار بالسلطة والاستيلاء على الأرض، على حساب ملايين الأرواح.
طريق
ينتمي بابي إلى صفوف المؤرخين الجدد، ومنذ 2005 عرف عنه تأييده مقاطعة إسرائيل، خاصة من الناحية الأكاديمية، بوصفها الطريقة الأنجع والوسيلة الأمثل للضغط عليها من أجل إنهاء احتلالها لفلسطين، وكان بابي قد أطلق في وقت سابق مؤتمر «حق العودة» الداعم لحقوق عودة الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم في 1948.
فالتهديدات لم تتوقف يوماً بحق هذا الكاتب والمؤرخ الذي غادر حيفا يوماً لأسباب أمنية، و«لشعوره أنه مخنوق كمفكر» في ظل قمع الإحتلال الإسرائيلي للفكر والبشر، إذ يرى أنها تجرم بحق البشرية جمعاء، ويوضح أنه كانت تصله عبر البريد العادي والإلكتروني وبالهاتف، حيث يقول: «اتصلوا بأحد زملائي في الجامعة يوماً، وسألوه (لقد رأيناك تتناول القهوة مع إيلان بابي، فهل من الحكمة القيام بذلك؟)».
دعم خارجي
ومع ذلك فقد حظي بابي بدعم بعض زملائه والكثير من الطلبة لا سيما الفلسطينيون منهم، كما حظي بدعم خارجي متمثل بما كان يعرف بـ «رابطة الأساتذة الجامعيين في بريطانيا». ويعرب بابي ساخراً عن اعتقاده بأن «الجريمة الأكبر التي ارتكبها كانت دعم المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل من أجل إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية».
أما على الصعيد الدبلوماسي، فيعتقد أنه «من المهم فعلياً وجود هذا العدد المتزايد من الأفراد الأكاديميين الذين ينتابهم الشعور بعدم تحمل التعاون أكثر مع نظرائهم الإسرائيليين، باستثناء أولئك الذين يعادون السياسات الحكومية».
ويقول في سياق تأكيد المقاطعة: «أؤمن بأن الأشياء ستتغير فقط، إذا تلقت إسرائيل رسالة قوية، مفادها إنه طالما ظلت مستمرة في احتلالها، فلن تكون عضواً شرعياً في المجتمع الدولي، ولن يكون مرحّباً إلى ذلك الحين بالأكاديميين والأطباء والمؤلفين. مثل تلك المقاطعة فرضت في جنوب إفريقيا، ودامت 21 عاماً، وأفضت إلى إنهاء الأبرتهايد».
وفي الوسط العائلي، يفيد بابي بأن والديه المتوفيين هربا من ألمانيا في الثلاثينيات، واعتبرا الكيان الإسرائيلي ملاذاً آمناً منعهما من رؤية حقيقة انتزاع الأرض من أصحابها الفلسطينيين، مضيفاً: «لا يشاركني أخي وأختي النظرة السياسية عينها، ويجد بعض الأقرباء وأفراد العائلة الكبيرة صعوبةً بالحديث معي.
وفي تفكيري الخاص، أرى أني أنتمي لمجتمع يمارس فظاعات بحق الفلسطينيين. وأشعر أن من واجبي الاعتراض، حتى لو جعلني ذلك منبوذاً». ويقدم بابي الذي تعمّد نشر «السجن الأكبر على الأرض» بالتزامن مع الذكرى الخمسين لنكسة 1967، التي أوصلت الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة إلى أقصى مبتغاه، ليبدو مؤلفه بحثاً شاملاً معمقاً لواحد من أعنف الصراعات المأساوية المتمادية في العالم.
معلومات أرشيفية
ويتبدى إصدار بابي حول الأراضي المحتلة منطلقاً من حيث تسلسلت أحداث كتابه السابق «التطهير العرقي لفلسطين». ويرتكز فيه على معلومات أرشيفية منشورة، ليرسم بذلك تحليلاً حول دوافع السياسيين والجنرالات العسكريين واستراتيجياتهم، مروراً بعملية صنع القرار نفسها التي أرست أسس الاحتلال.
ويفصح بابي في كتابه، عن جملة أحاسيس وآراء تعكس بشكل أو بآخر أسباب توصله إلى قناعات أفضت إلى عدد من الإصدارات المتعلقة بحيثيات القضية الفلسطينية، حيث يؤمن بابي بأن «طريقة الاعتراض الأمثل من المنفى تتجسّد بالكتابة»، ويقول: «أنا مؤرخ، وتلك هي الحقيقة كما أراها: قصة ضحية وجلاد. والضحية هنا تحمل اسم الفلسطينيين».
كما يستعرض أيضاً بعض الذكريات التي تصب في الخانة عينها، فيقول: «أتذكر ذات مرة، كيف كان أحد العسكريين برتبة رقيب أول، يأمر الجنود بقتل الشباب العرب وإلا سيكبرون ويقتلوننا»، ويضيف: «ينتشر هذا الموقف بشكل واسع النطاق، ولهذا تجد قائدي الدبابات، وطياري إف16 أو قادة المدفعية يقتلون المدنيين بلا تردد، فقد تعلم هؤلاء طوال حياتهم، كيف يفقدون المشاعر الإنسانية».
سيناريو سلمي
ويطالعنا المؤرخ الجريء، عقب «التطهير العرقي لفلسطين» و«تاريخ فلسطين الحديث» بكتابه «السجن الأكبر على الأرض»، حيث قال رداً على سؤال، حول عدم طرح أية آمال مغلوطة أو بخسة بوجود حلٍّ جيد قريب، وهل يرى أصلاً إمكانية وجود حل؟ «ليس في المدى القريب بصدق، ولكن أعتقد أنه في الأمد البعيد، لأن المميزات الرئيسية للمشروع ستتقلص على أمل أن تختفي. وإني واثق بوجود سيناريو سلمي، ليس دفعةً واحدة، بل على طريقة الارتقاء من الأسفل للأعلى.
سيحلّ التغيير أولاً وبدايةً بسبب الصمود الفلسطيني والمقاومة الشعبية، وجراء مضاعفة الضغوطات الدولية على إسرائيل. وسيتم تعزيزه من خلال مسعى فلسطيني يهودي مشترك من أجل إعادة صياغة العلاقة بينهما على أساس المساواة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، والحقوق المدنية».
وفي حديثه مع مجلة «كريستيان ساينس مونيتور»، أجاب بابي عن سؤال يتعلق بملاحظته تبدلاً في فحوى الحديث بعد كتابي «التطهير العرقي لفلسطين» و«10 خرافات حول إسرائيل»، وحول إذا ما زادت نسبة تقبّل أعماله، بالقول: «يعتمد الأمر على المكان. ونجد حول العالم تبدلاً في الفحوى، أجل.
وهناك أيضاً استعداد أكبر لتغيير لغة وصف الأعمال التي ترتكبها إسرائيل سواء في الحاضر أو الماضي، وأصبح هناك جحود أقل لناحية التعسف الممنهج أو انتزاع الملكية بوصفهما هيكلية أو استراتيجية أكثر منهما مجرد سياسة. أما بالنسبة لإسرائيل، فلا يزال الإصرار على الإنكار وعدم الاستعداد عينه لمواجهة فصول الماضي البشع من الانتهاكات والممارسات».
نقطة جدال
يؤكد بابي أن نقطة الجدال الأساسية ترتكز على حقيقة أن الحركة الصهيونية في فلسطين حتى عام 1948، وأن الكيان الإسرائيلي مشروع استعماري استيطاني خالص. ويعتبر أن طبيعة مثل هذا المشروع تقوم على اعتبار المستوطنين أنفسهم، في مثل هذه الحالة تحديدا، أنهم مواطنون عائدون إلى وطنهم وأن أهل البلاد الأصليين ليسوا إلا غرباء، يمكن في أفضل الأحوال التعامل بتسامح معهم، شريطة عدم تحديهم لسلطة المستوطنين وملكيتهم. ويؤكد أن تلك المسألة تتعدى التخطيط فقط، أو الوضوح الاستراتيجي.
في الواقع، لا نعلم مدى صحة اعتقاد بابي في ظل التطورات المأساوية الأخيرة بحق الفلسطينيين والقدس، إلا أن أهمية كتابه تتأتى من تحليل الأصول التاريخية لضمّ الضفة الغربية وغزة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث يذهب لمعاينة الجهاز البيروقراطي الذي تم تطويره لإدارة الاحتلال من إجراءات سياسية قانونية مالية وحتى غذائية، وصولاً إلى الخطط العسكرية والأمنية المعتمدة على امتداد ما يقارب نصف قرن مضى.
الاحتلال وحكايات «السجن الأكبر على الأرض»
في كتابه «السجن الأكبر على الأرض: تاريخ الأراضي المحتلة»، يعود إيلان بابي، بالأحداث إلى عام 1948، ليصطحب القارئ في رحلة شاملة تتغلغل في استراتيجية الكيان الغاصب السياسية منذ تشكله على الأراضي الفلسطينية. ويسلط، على امتداد الخط، الضوء على لحظات التاريخ المصيرية واللاعبين الأساسيين، مع الإشارة، على الدوام، إلى الحقيقة القائلة بأن الاحتلال الكلي لفلسطين واستئصال شعبها، طالما شكلا الهدف الأكبر للرؤوس المدبرة في الكيان الصهيوني.
ويوضح بابي في مطلع كتابه، موقفه من الوضع الراهن الذي يسود الأراضي المحتلة، حيث يطعن في مطلع الكتاب بتعريف الاحتلال، مقدماً تحفظه الأول حول مسألة خلق التعبير، تعبير الاحتلال «انشقاقاً زائفاً بين ما يسمى إسرائيل والأراضي المحتلة».
يدين بابي ما يصفه بـ «بيروقراطية الشر»، ويقول إن ما تم تدبيره وتنفيذه، وما تحافظ أجيال البيروقراطية الإسرائيلية المتعاقبة عليه، يتمثل في السجن الأكبر على الإطلاق الذي يضم مليوناً ونصف المليون، وقد يصل إلى أربعة ملايين ممن لا يزالون حتى اليوم، بطريقة أو بأخرى قابعين داخل الجدران الحقيقية أو الوهمية لهذا السجن«.
ويؤرخ بابي في كتابه، الذي وصل إلى اللائحة القصيرة لجوائز كتب فلسطين 2017، مراحل السجن المفتوح منذ عام 1967، ويحدد له شكلان، الأول هو الذي يتيح ببعض الاستقلالية تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة، في حين أن»سجن الحماية الأمنية القصوى«، يلغي كل أشكال الاستقلالية من ويسحبها من الفلسطينيين ويعرضهم لسياسة العقاب الجائرة، والقيود وحتى الإعدام في بعض أسوأ الأحوال. ويشير بابي إلى أنه طالما يواصل»السجن الكبير الوحشي«في الأراضي المحتلة على امتداد 50 عاماً قمع المساجين، فسيكون مستحيلاً التعامل بشكل بنّاء مع حالات القمع في أمكنة أخرى من منطقة الشرق الأوسط، لا سيما سوريا.
ويكتب قائلاً:»إن الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل منذ 50 عاماً تشجع الآخرين من أنظمة ومعارضة، على الاعتقاد بأن حقوق الإنسان والحقوق المدنية غير ذي أهمية في الشرق الأوسط. وإن تفكيك هذا السجن الكبير في فلسطين سيبعث برسالة مغايرة وأكثر أملاً لكل من يعيش في هذا الجزء المتأزم من العالم«.
يصور الكتاب، بعرضه للنقاش مختلف القادة والحملات العسكرية للقارئ، فلسطين على أنها لوح لعبةٍ محاط بساسة إسرائيل، أما التحدي فيكمن في التخلص من الشعب الفلسطيني، إما عبر الدمج التام أو الترحيل والإقصاء القهريين.
وإن النهج المستخدم حالياً في الضفة الغربية، بحسب قول بابي، يعتمد على جعل الحياة بمنتهى الصعوبة للمدنيين، بحيث ينسحبون، فيما يصور غزة على أنها»نموذج السجن ذو التحصينات الأمنية القصوى«، وآخر مراحل الاحتلال الإسرائيلي.
إن الاحتجاز التام للشعب في ظل امتلاك الكيان الغاصب، ما يشبه حصانة المجتمع الدولي على قاعدة تصنيف حماس بالمجموعة الإرهابية، يتيح له مواصلة عدوانه الوحشي ضد القطاع، وخنق المدنيين الفلسطينيين ببطء، ويختتم بابي كتابه، بعد تصوير الحكم الأحادي الجانب الذي يطلق على أبناء الأراضي المحتلة، حكماً يجعلهم سجناء لمدى الحياة، بأسلوب قوي، حيث يستعرض خرائط تقلصت مساحتها على امتداد السنين، وصولاً إلى خارطة عام 2006 التي تسلط بشكل كئيب، الضوء على الجزء الصغير المتبقي من الدولة الأصلية، ما يقارب 12% فقط منها، التي تشكل أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية.
يمنح(السجن الأكبر في التاريخ) القارئ رؤيةً معمقة حول المشهد السياسي الإسرائيلي، ويلقي نظرةً باردة وقاسية على الحقيقة الفعلية الكامنة وراء الاحتلال، تلك الرغبة العنصرية الجشعة للاستئثار بالسلطة والاستيلاء على الأرض، على حساب ملايين الأرواح.
طريق
ينتمي بابي إلى صفوف المؤرخين الجدد، ومنذ 2005 عرف عنه تأييده مقاطعة إسرائيل، خاصة من الناحية الأكاديمية، بوصفها الطريقة الأنجع والوسيلة الأمثل للضغط عليها من أجل إنهاء احتلالها لفلسطين، وكان بابي قد أطلق في وقت سابق مؤتمر «حق العودة» الداعم لحقوق عودة الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم في 1948.