دراسةٌ نقدية في السّمات اللغوية والجمالية في ديوان " أعبرُ سَمّ التّوجس " للشاعر / حسن محمد حسن الزهراني
المصدر - كتبه : د . كاميليا عبد الفتاح
أعبرُ سمّ التوجسِ
· نحنُ أمام عنوان مراوغٍ ، يمنحُ أكثر من احتمالٍ دلاليٍ ، منها : العبورُ إلى التوجّس بمعنى الولوج إليه – والوقوع في أسرِه - والدلالة الثانية : العبور من هذا التوجّس–بمعنى اجتيازه وتجاوزه –وهذه الاحتمالية الدلالية تؤكدُ أنّ عنوان هذا الديوانُ ممّا لا يُفصح عن مدلوله إلا بممارسة قراءة النّص الشعري المُتّصل به ، بما يُبرزُ مراوغته الدلالية . وفيما يخصّ حدود النّص الشعري المقصود بهذه الدراسة النقدية ، فهي القصائدُ المتعلقة التي يُمثّلُ التّوجسُ مرتكزَها الدلالي والنّفسي . أمَّا طبيعة الدراسة فهي دراسة أُحادية للنّصّ الشعري ، تهدفُ إلى تحليله لُغويّا وجماليا .
· نبدأُ دراستنا النقدية حول التجربة الشعرية - في هذا الديوان - بتلقّي القصيدة المركزية التي سُمي الديوان باسمها – أعبرُ سَمّ التّوجس –وتبدأُ بقول الشاعر :
" أنا الآن
بيني وبينك
أنضمّ حينًا إليَّ وأنضم حينًا إليك ..
***
أنا الآن خيطٌ من النار
خيطٌ من النور
يقسمُني ( التوت ) في شفتيك ..
***
أنا الآن برقٌ
أُرتّقُ شِعري بـ ( شَعرك )
ترسمُ عيناي عينيك في سقف قلبي
تُضيئان للنبض درب الخلود
الذي شق رمل الصبابات صبحًا
على مشرقيك ..
***
أنا الآن أعبرُ ( سمَّ التوجسِ )
بين جنوني وصبرك
غنّيتُ حتى تشربتُ صوتك
واللحن
أضحى نخيلًا من الشوق في راحتيك ..
***
أنا الآن بابٌ يُواربهُ المُشتهى
وسط التّيه منتصبًا
تشتريه العناكبُ من مارد الريب
تنسج من حوله سورَ وهمٍ سميكٍ "
***
نلاحظُ ارتكاز الشاعر على - مدار خمس فقرات من القصيدة –علىأسلوب التكرارللجملة الإسمية " أنا الآن " باعتبارية ثابتة ، مع إلحاق مُتغيّر دلالي بها - في كل مرة تتكرر فيها - ممّا يستتبعٌ تغيّرا في هُوية الذات الشاعرة / السَّاردة ، وتطورا في درجة التوتر الدرامي للتجربة ، يتضح ذلك فيما يلي :
أنا الآن بيني وبينك / أنا الآن خيطٌ من النار / خيطٌ من النور / أنا الآن برقٌ / أنا الآن أعبرُ / أنا الآن بابٌ يُواربهُ المُشتهى .
نحنُ – في هذا الموضع من القصيدة – أمام ثابت – من الظواهر التركيبية– وأعني ضمير الأنا المتكلم – التي تتخذ وضعية نحوية – هي وضعية الابتداء – بينما يبدو الخبر هو المتغير ، وكلاهما – الثابت والمتغير – يسهمُ في إنتاج الدلالة المقصودة ، ويُسهم في الإيحاء بالاطّراد الدرامي ، والرؤيوي " ينبغي ألَّا يقتصر نظرنا في النص الشعري على المُتكرر وحده ، وأن يتعدّاه إلى نظام البدائل أو المتغيرات ، ويعني ذلك أننا حين نلتقي بضربٍ من التنظيم أو التّوالي عند مستوى بنائي معيّن ، فإننا نصادفُ ما يصدعُ ذلك النظام عند مستوياتٍ أخرى ، وتَواكُبُ هاتين القاعدتين – النّظام وصدع النظام – يُشكّلُ سمةً عضوية في بنية كلّ نصٍ شعريٍ . " 1 )
تُجسدُ لنا الصورةُ الشعرية– في هذا الموضع من القصيدة – طبيعة التحولات التي تمرُّ بها الذاتُ الشاعرة ، وصولًا إلى جوهرها - ووصولا إلى القدرة على اجتياز سمّ التوجس –هذه الذات ُ تستمدّ ماهيتها من العوالم الآتية : النار ، النور ، البرق . وتبدو الطبيعة النورانية سمةٌ مشتركةٌ بين هذه العوالم - التي تمثل أطوار التحوّل - كما تتجلّى هذه الطبيعة - في أكثر درجاتها نفاذًا - في طور " البرق " ممّا يمكنُ الذات من عبور سمّ التوجس .
على صعيدٍ آخر تبرزُ الطبيعة المعنوية لعنصر المكان– في الصورة الشعرية السابقة – فالشاعر ينتقلُ من ( كيانه ) إلى ( كيان ) الذات الأنثوية ، وفق التموجات الآتية :
بيني وبينك / حينًا إلىّ وحينًا إليكِ / عند شفتيها ( حيثُ يقسمه التوتُ / عند شعرها ( حيثُ يرتّقه بشِعره / ثم عند عينيها / ثم مشرقيها / ثم في برزخٍ خاص ( بين جنونه وصبرها ) / ثم وسط التّيه . وتدفعنا هذه السمة المعنوية – الرمزية – لعنصر المكان إلى وصف حركة الذات الشاعرة – في هذا الانتقال – بأنها حركة شعورية معنوية ترصدُ فيها الذات مراحلاجتذابها – إلى - وغوايتها - من قِبَل - الذات الأنثوية .
أمّا نظامُ الجملةالذي تمّ من خلاله فعلُ العبور ، فهو متباينٌ ما بين الجملة الإسمية والفعلية على التوالي :
أنا الآن بيني وبينك / أنضمّ
أنا الآن خيطٌ / يقسمُني التوتُ
أنا الآن برقٌ / أُرتّقُ / ترسمُ عيناي / تضيئان
أنا الآن أعبرُ / غنّيتُ / تشرّبتُ صوتَك .
وقد بدا الفعلُ النحوي– في المواضع السابقة - مقسومًا – مشتركا – بين الذات الشاعرة والذات الأنثوية في توالٍ وتدفّقٍ – ممّا أضفى الحيوية على الصورة الشعرية - كما يلي :
أنضمُ ، يقسمُني التوتُ / أُرتّق شِعري / ترسمُ عيناي / أعبرُ سمّ التوجّس / غنّيتُ / تشرّبتُ صوتَك . ومن ثمّ تبرزُ كلٌّ من الذات الشاعرة والذات الأنثوية فاعلًا في هذه المواضع – وهذه النتيجة تؤكدُها طبيعة الضمائر الموزّعة بين الأنا المتكلم وضمير الغائب العائد إلى الذات الأنثوية - وصولًا إلى قول الشاعر : " أنا الآن بابٌ يواربُه المُشتهى " ، حيثُ ينتقلُ زمامُ الفعل إلى قوى أخرى تساهم في إشاعة مناخ التوجس ، وهي : المُشتهى ، العناكبُ ،وهي قوى ذات دلالة رمزية .
· يبدو الطابعُ الدّرامينسيجًا أساسيّا في هذه المعالجة الفنية - وليس مجردَ مرتكزٍ من مرتكزاتها -ويضطّلعُ الفعلُ بإبراز هذا الطابع من خلال تجسيد مراحل التوتر والتأزّم بدءًا من مقاربة حدث التوجّس ، وصولًا إلى منطقة الارتياب ، ثم الانعتاق والانفراجة ، مثلما هو الحال في أي حدثٍ – أو واقعةٍ - قصصية .
· يكمنُ سمُّ التَّوجسُ – وفق دلالة هذه الصور الشعرية- في المسافة الواقعةِ بين جنون الذات الشاعرة ، وصبر الذات الأنثوية ، كما تُبرزُ – هذه الصورُ– حدثَ العبور– عبورسم التوجس – مصحوبًا بفعلين ، هما : الغناء ، و تشرّب صوت الحبيبة ، ممّا يُدفعُ الذات الشاعرة إلى منطقة ظلالية –شعوريا – بين العتمة والضوء – و يدفعُ التجربة إلى ذروتها الخلاصيّة ، حيثُ الفقرة الأخيرة التي تضطلع بدور الكشف الرؤيوي وانفراج أزمة التوتّر الدرامي . يقول الشاعر :
" أيا امرأةً صنعتْ عرشَها
من مرايا جنوني
وخطّت على ماء روحي قصائد
لم تسبرِ الجنّ أغوارَ إلهامها
ثم غنّتْ فماست غصون الجوى في حبور
على ضفتيّ نهرها العسجدي المفاتن
والغيمُ صف على فُرش الزيزفون المُمرّد
من تمتمات الضحى
في خشوعٍ يُصلّي عليكِ .. "
يتسيّدُ أسلوبُ " التناص " –ويبرزُ في –الموضع السابق من القصيدة – ليحيط كلًّا من الذات الأنثوية ، والقصيدة ، بسماتٍ فائقةٍ ، مستمدّة من قصة بلقيس – ملكة سبأٍ – في الطرح القرآني . نلمحُ هذه السمات – أوّلا - من خلال مجموعة المفردات التي تتعالقُ مع مفردات هذه القصة القرآنية ، وهي : العرش ، الجنّ ، المُمرّد . هذه المفرداتُ تحيلُ الناقدَ إلى قصة عرش الملكة بلقيس واختفاء هذا العرش على يد جنّ سليمان ، ثم عرض هذا العرش عليها ، ووقوفها ذاهلة أمام الصرح المُمرد في قصر النبي سليمان – عليه السلام – وتشميرها عن ساقيها خوفًا من لجّة ماء . هذه التفاصيل الأساسية التي مثّلت علامة فارقة - في قصة ملكة سبأٍ – اتخذها الشاعرُ مرتكزَ تناصّه، بما أبرز هوية فارقة للأنثى الحبيبة - والأنثى القصيدة – حيث فاقت هذه الأنثى قدرات الجنّ وطاقاتهم ، وامتلكت عرشًا من مرايا جنون الشاعر – بما يستعصي على الجن استلابه ونقله - كما أنّها أعجزت الجنّ عن سبر أغوار إلهامها ، وفاقته بكيانها المفعم بالغناء الساحر الذي منح الأغصان صفة الصرح المُمرّد . وبذلك يتضحُ لنا التباين الجوهري بين سمات الذات الأنثوية - في هذا الطرح الشعري - والسمات الأساسية لملكة سبأ - في الطرح القرآني - ممّا يبرز ارتكاز الشاعر على التناص المخالف للدلالة الأصلية للنص المُستدعى ، ويبرزُ – في الوقت ذاته – اتصاف الحبيبة بسماتٍ غرائبية فائقة للمعقول المادي ، حيثُ تتعدى طاقة الجن ، وتملكُ عرشا من جنون الشاعر .
· نشيرُ في هذا السياق إلى اضطلاعِ مفردتي " الجن " ، و" الجنون " بإبراز درجة من درجات التّماس بين الحبيبة ، والقصيدة؛ فعلي المستوى الدلالي تشتركُ المفردتان في التعبير عن الدرجة الفائقة – سواء من الجنون أو من طبيعة الجن – وعلى المستوى الصوتي تشتركان في صوتِ الجيم – الذي يمثل علامة فارقة في كلتيهما –وهو صوتٌ غاريّ – المَخرج – مجهورٌ . كما أنّ صوت الجيم صوتٌ أساسيّ في مفردة التّوجس – التي تمثل المرتكز الدلالي والدرامي لهذه التجربة الشعرية – نتوصل من خلال هذا المشترك الصوتي إلى أنّ الفعل الدرامي في هذه التجربة الشعرية موزّعٌ بين الحبيبة والقصيدة والشاعر ، فالذات الشاعرة تكابد للوصول إلى الحبيبة ، وتكابدُ للقبض على القصيدة ، وهي في رحلتها إلى الحب ، والإبداع تجتازُ سمّ التّوجس الذي هو مزيجٌ من الخوف والظنون والقلق ، والرجاء والانتظار . ومن هنا ندرك القيمة الفنية في شيوع صوت الجيم في مفردات مثل : الجوى ، النهر العسجدي ، وغيرها ، ممّا يتصلُ بتفاصيل الموقف الدرامي .
· وإنّ نظرة تأمّل – واستكناهٍ – إلىطبيعة الثنائيات- في هذه القصيدة – لتحرّض الناقدَ والمتلقّي على المضي في الدلالة التي طرحناها فيما سبق ، حيثُ تبرزُ هذه الثنائيات مراوحةَ الشاعر بين كيانين: ذاته الشاعرة ، وحبيبته ، كما تبرزُ هذه الثنائياتُ طبيعة الرحلة التي يقتطعها الشاعر للخلاص من التوجس ، وهي الرحلة من كيانه - المتوجس من الحب ومن المخاض الإبداعي – إلى كيان الحبيبة وميلاد القصيدة . هذه الثنائيات هي – وقد أشرنا إليها فيما سبق :
إليّ إليك ، بيني وبينك ، النار والنور ، عيناي عينيك ، جنوني صبرك .
· إنّ مناخ التوجّس لا ينشرُ مناخه على القصيدة المعنونة بالمفردة الدالّة عليه فقط ، بل ينشرُ مناخه – وظلاله - الدلالية على كثير من قصائد هذا الديوان ، وإن بعض هذه القصائد يحملُ عنوانا ذا دلالة تعالقية واضحة بالتوجس - و مناخاته النفسية – من ذلك قصيدة " الهاجسُ المطري " ، و" رشد الجنون " ، و" تخوم الضجر " ، وهناك من القصائد ما لا يحمل عنوانا ذا علاقة مباشرة بمناخات التوجس ، لكنه يشتملُ على زاوية مهمة من زوايا الرؤية الشعرية لإشكالية التوجس . مثل قصيدة " ردّ " ، و" يابلاااااش " وغيرها .
· يبدأ الشاعر حسن الزهراني قصيدته " ردٌّ " بنعي الحياة التي انفلتت من يديه وصارت وهما لا يتحقق ، يقول :
" أسفي عليّ
أصبّ ماء الروح
في رمل الظنون
وأرتدي وهمَ الحياة
ولاحياة !! "
ثم ينعى ُ القيم النبيلة التي تُمثل العمود الفقري في العلاقات الإنسانية ، ممّا أشاع في روحه القلق والمرارة والحزن ، والتوجس . وهكذا يطالعنا التوجسُ ماثلا بمفردته الصريحة ، ومناخاته النفسية التي يُشيعها في الروح المغتربة عن عالمها ، أو واقعها . يقول الشاعر .
" إنّ الذين تقاسموا
برقَ البدايات
استعانوا بي عليّ
وزمّلوا قلبي بعلقم ظلمهم
فشربتُهم غِيًّا بأفواه الرواة !!
**
مابالُ آخرُ ( قُبلةٍ ) سقطت
مُضرجةً بكافور الخطيئة
عندما شربَ التّوجسُ منتهاه
**
يا ااااأيها الغصن الذي
غيرتْ صوتك في هزيعِ الرّيب
قل لي :
كيف أهدمُ سقفَ حنجرتي
وأغسلُ حبر ناصيتي
وأثقبُ ( غرب ) ذاكرتي
وأعتق حلم نبضي من أساه ؟؟؟ "
من الواضح للتلقّي النقدي شيوع مفردات بعينها - في المعجم الداخليلهذه القصيدة – ممَّا يوجّه مسارها إلى مناخ دلالي – ونفسيٍ – شديد الصلة بمناخ التوجس – ومرادفاته – من هذه المفردات : الأسف ، الظنون ، الوهم ، الريب ، الأسى ، هذا فضلا عن التصريح بمفردة التوجس ذاتها . كذلك ترتكزُ القصيدةُ على الأساليب الاستفهامية الموحية بدلالة الظنّية والاسترابة والقلق ، وذلك كما في قول الشاعر :
مابالُ آخر قبلة سقطت ...؟ ، وكيفَ أهدمُ سقفَ حنجرتي / وأغسلُ... / وأثقبُ ... / وأعتقُ ...؟
· التَّوجسُ هو المناخُ الشعوري الذي يتبطّنُ قصيدة " بابان " التي ترتكزُ – أيضا – على أسلوب الاستفهام الذي يُبرز مدى مكابدة الذات المتسائلة ووقوعها في منطقة الارتياب من حقيقة هُويتها . ويبدو توظيف الشاعر لبنية المونولوج أجراءً فنيًّا مُوفّقًا في تصوير هذه المناخات النفسية الاستلابية . يقول الشاعر :
" هل أنتَ تبحثُ عنكَ في فَلك الحقيقة
منذُ آلافِ الدموع المُستباحة ...؟ "
تنطلقُ الذاتُ في مواجهة إشكالية البحث عن حقيقة وجودها من دوائر ظنّية شكّية ، تتمثّلُ في هذه التساؤلات التي تحاول مقاربة الهوية ، يقول حسن الزهراني :
" هل أنتَ ريشةُ عازف غنَّى فماسَ الماء
واهتزّ الغمام على مفازات الفصاحة ...؟
***
هل أنت مصباح الخرافة لم تجد كفًا معطرةَ
ولم يشهد سجين العشق
في أعماق سكرته صباحه ...؟
هل أنتَ تبحثُ عنك
في أغوى خطوط الرمل
أو أنأى النجوم
وتكتب الإلهام في سعف الصراحة ... ؟
***
هل جئت تقرأ ما محت كفّ المنون على
غدير الوقت . تسأل زنبق الرُّجعى أقاحَه ؟؟؟ "
ثم يختم الشاعرُ قصيدته بما يُوهمُ المتلقّي بالوصول إلى ذروةٍ يقينية ، بينما يظلّ مناخ التوجس عالقًا بالدلالة ، مؤكدًا ولوج الشاعر إلى عالمين هما : حدسه ورُوعه ، وهذان العالمان هما البابان - في عنوان القصيدة - وهما هاجسان لا يُفضيان إلى يقين ، يقول الشاعر مخاطبا ذاته :
" حدسي وروُعك أيها المبعوث من قاني دمي :
بابان مفتوحان من أقصى المساء إلى المساء
وضحكةٌ يبست على غصن الصباحات
المباحة ... . "
· قصيدةٌ أخرى تثيرُ دلالة متعالقةً مع مناخ التوجّس ، هي قصيدة ُ " رشد الجنون " ، التي يتّخذُ فيها الشاعرُ شخصية " شهرزاد " قناعًا تاريخيًّا – أو أسطوريا - فيطرحُها بوصفها ذاتًا تثير شغف السؤال - عبر الحكايا - وتملكُ وثوقية ما ، ويقينا. يواجه الشاعر هذه الذات بعدةٍ جملٍ مرتكزةٍ على أساليب الاستفهام التي أبرزت مشاعر القلق والشك ، فضلا عن شيوع المفردات الدالة على هذا المناخ ، ومنها: الجنون ، الشك ، الوهم ، التّيه . يقول الشاعر
" يا شهرزاد
إلى متى والرّكض
يحتلّ الموانئ
والقِلاع
وكل شبرٍ من هوى قدميّ
من عينيّ
من تفكير قلبي
من جراحي ...؟؟؟
هذا جنونُ الرشد
أو رشد الجنون
يمرّ من بوابةٍ
تتوسط الصحراء
لا يدري
مُريدُ عبورها
أَهُوَ الدخولُ
أم الخروج
فقد تساوى عنده ُ
شكّ اليقين
مع يقين الشكّ
وامتزجت بوهم التّيهِ
في مرآتهِ
كل النواحي "
· إنّ تغيّر الواقع ، وتراجع القيم يمثّلان عاملا من عوامل توجّس الشاعر وقلقه الروحي ، بل واغترابه . يطرح حسن الزهراني هذه الدلالة في قصيدته " شجنٌ مستعارٌ " ، فيبدأُ القصيدة بما يُشبه التنديد بالأيام وتحولاتها الفاجعة ، يقول .
" حين شاب الوقار
صار لِليل وجهان من : بهجة وانتصار .
وبلا أي وجهٍ توارى – توارى – توارى النهار .. "
ثم يُصوّرُ مراحل اغترابه عن واقعه ، ولوذه بذاته في مواجهة المتغيرات التي أطاحت بثوابت اليقين ، ودعائم الوجود – الذاتي والجمعي – يقول حسن الزهراني :
" أيقنَ الصمت أني تعلمت
منه فنونَ الحوار ..
***
ثمّ زنَّرتُ في مسرح
الرَّيب قلبي
بطوقٍ من الشجن المستعار .. ***
حينها أصبحت مهجتي معصمًا ناحلًا
واغترابي سِوار .. "
اعتمد الشاعر – في الموضع السابق من القصيدة – على أسلوب المفارقة- الكامن في دلالة تعلّمه فنون الحوار من الصمت – كما ارتكز على أسلوب التسويةفي تصوير تراجع يقينه واهتزاز ثوابته في ظلّ مأساوية الواقع ، يقول :
" لم أر في زمان الأعاجيب
فرقًا جليّ الملامح
بين البصيرين والمبصرين
ثم أيقنت ياسادتي
أننا لم نعد مثل أجدادنا
في اتخاذ القرار .."
· يُطالعُنا التوجسُ – في عدّة قصائد من هذا الديوان – باعتباره موقفًا فكريًّا وشعوريًّا يواجهُ به الشاعرُ تراجع قيمةَ الشعر- وتراجع دوره المؤثّر - في مُجريات الواقع ، بل ويواجهُ به جحود الواقع لقيمة الشعر المعرفية والجمالية . من أبرز هذه القصائد : " تُسع " ، و" خردلة " ، و" يا ااابلاش " ، ورغم عدم اشتمالها على مفردات ذات دلالة صريحة على التوجس، إلَّا أنها تتميزُ –من بقية قصائد الديوان–بتوظيف أسلوبي السخرية والمفارقة في طرح رؤية الشاعر حول هذه الإشكالية.
في قصيدة " يا ااااابلاش " ، لم يكتف الشاعر بهذا العنوان المستمد من كلمات الحياة اليومية المنتشرة على ألسنة الباعة بالأسواق ، بل صدّر القصيدة بعبارة كاملة –من هذا السياق – بدتْ وكأنّها نصٌّ مُستدعىً في علاقة تناصٍ فني . يقول الشاعر في تصدير القصيدة :
" علينا جاي .علينا جاي . علينا جاي .ألحق الطيب لا يفوتك ..ما بعنا بالكوم إلا اليوم . يابلاش يا اااابلاش يابلاش .. يا أهل الزين يامن يشتري ؟؟ " .
تتمرأى دلالةُ هذه العتبة في جسد القصيدة –منذ بدايتها – حيثُ يستهلّها الشاعرُ بنداءٍ مُوازٍ -ينطلق من إلهام هذه الثيمة- ويتخذُ منها بنيةً فنيّة ثرية الدلالات ، كما يتخذ من نموذج البائع معادلا فنيا له ، فينادي على ما لا يُباعُ ، نداءً يدينُ الواقع ويكشفُ مثالبَه ، يقول حسن الزهراني :
" من يشتري :
شفة ً ...
ومصباحًا ...
وصمتًا شاحبًا ...
وعقيرةً من ربع قرن
لا تسرّ السامعين ؟؟؟ "
البضاعةَ المنادَى عليها – في الموضع السابق – من المعنوي الذي لا يُثمّنُ ، و هي : الشفة ، والمصباح ، والصمت الشاحب ، والعقيرة المهملة ، وقد اتخذها الشاعرُ رموزًا للشعر الذي لا يجد من حفاوة الواقع ما يليقُ بقيمته - ودوره – لذلك ينطلقُ ُ في بقية القصيدة في طرح هذه الإشكالية بضمير المتكلم المفرد ، موظفا أسلوب السخرية والمفارقة ، يقول :
" أرسلتُ ( موّالين )
في سوقٍ
بلا ( سوقٍ )
فأنبت من صدى صوتي
حروفًا طلعُها المنضود
صافي نخبَهُ
ينساب فجرًا
لذةً للراحلين ...
***
رحماك يا ( شاه بندر التجار )
إنّ بضاعتي المُزجاة
ما بلغت نصيف نصابكم
هلّا غضضت الطرف عنها
كي أجرب حظي المنكوب
في باب التجارة مثل باقي البائسين ..."
يطالعُنا هذا النسقُ من الطرح الشعري - المعتمد على أسلوب المفارقة والسخرية الفاجعة– وتوظيف مفردات الحياة اليومية - في قصيدة " تُسع " حيثُ تُطالعنا الذاتُ الشاعرةُ – مرة أخرى - وهي تطرحُ حروفها بضاعةً غيرَ مُجديةٍ ، وغير مغريةٍ في ( سوق ) الواقع ، يقول الشاعر حسن الزهراني :
" ثم لملمت باقي رفاتي
بريش الفراشات
وابتعت ( كشكا )
بسوق الخرافات
أفنيت باقي حياتي
أبيع على الواهمين الكلام
أبيع على الواهمين الكلام .. "
· وفي قصيدته " خردلة " نطالعُ – مرة أخرى – نسقَ الطرح الشعري المرتكز علىأساليب الاستفهام ، والسخرية، في التعبير عن افتقاد مشاعر اليقين ، وافتقاد الثوابت الدّاعمة للروح والفكر ؛ ومن ثم يستهلّ الشاعر قصيدته بهذه الجمل الشعرية التي تبرز مدى انغراز الشكية والتوجس في الواقع المحيط ، يقول :
" طالت المهزلة
طاااالت المهزلة
مَن يبيع ... لمن .. ؟؟
من ..؟؟
ومن .. يشتري ..؟؟
طالت المهزلة ...
***
في فمي ( قنبلة )
في دمي قنبلة
فتقدمت جيشًا
يسدّ الخيال
ولمّا بدا لي عدوّي
وجدتُ الذي في يدي :
خردلة ... "
•إنَّ هيمنة الشعور بتراجع دور الشعر ، وجدوى رسالة الإبداع – عامة – يُعدّ عاملًا مهما من عوامل التوجس - في هذه الرؤية الشعرية – يطرح الشاعر هذه الدلالة في قصيدة " تخوم الضجر " مرتكزًا على بنية " المونولوج "التي منحت المزيد من الإيحاءات الدلالية باغتراب الذات الشاعرة ، وافتقادها اليقين ، يقول حسن الزهراني :
" قال لي
قااااااال لي :
والتباريح تنطق ُ من سحنة الروح :
أين المفر ؟؟؟
***
نصف قرن تسافر بي لهفتي
في تخوم الضجر ..
***
نصف قرن فمي زورق تائه ٌ
في بحار الأناشيد
يبحث عن مُستقر ..
*** "
يبرزُ الشاعرُ – في الموضع السباق من القصيدة – اغترابه نابعًا من اغتراب الشعر – أو الحروف – وكذلك حيرته وشتاته . ويصور– على مدار القصيدة – تفاصيل التحول في الروح الإنساني ، تفاصيل الظمأ الروحي والعاطفي وافتقاد منابع السكينة والحب ، ثم يختم القصيدة بما يطرح دلالة إشارية إلى توحّد الشاعر بشعره ، واغترابهما عن واقعٍ مغاير لهما . يقول حسن الزهراني :
" قلت :
ماذا جرى ؟؟؟
ماالذي بدّل الحال بالحال ياصاحبي ؟؟؟
ما الخبر ؟؟؟
*** أشار بسبّابة البؤس
نحو القمر ..!!!
***
فتأبّطتُ جرحي
ودمعي
وشعري
وغادرت ذاتي قُبيل السَّحر ... "
التوجسُ – في الرؤية الشعرية في هذا الديوان – ليس حالة فرديةً ، بل هو مناخٌ عام يتسيّد الواقع ، وهو ليس عارضًا مؤقتًا ، بل هو من أبرز سمات الراهن لأنه منبثقٌ من متغيراتٍ جوهرية عبثت بأصول التكوين : الفكر ، والروح. يطرح الشاعر هذه الدلالة في ختام قصيدته " خردلة " ، يقول :
" العقول التي باتساع الفضاء
مُلئت بالهراء
طوقت بالهباء
وأمام الصباح المضمخ
بالوعي والفكر
أبوابها مقفلة ...
***
قارئ ( القوس والدلو والسنبلة )
قال لي : إذْ غوى :
إن نجمي هوى
فطواني النوى
في جفوني الجوى
ثم أمسيتُ في كهف
حزني ضعيف القوى
أقرأ : القوس والدلو والسنبلة ... "
· يستطيعُ الناقدُ أن ينفذَإلى الأعماق الدلالية للتجربة الشعرية – إذا نظر إلى الديوان باعتباره نصًّا واحدًا – لا مجموعة من النصوص – ففي هذه الحالة سوف يُمثّل ترتيبُ القصائدُ –كشكلٍ طباعيٍ - أسلوبًا من أساليب الأداء اللغوي . على ضوءِ هذه النظرة النقدية نُشيرُ إلى ابتداء الديوان – محلّ الدراسة – بقصيدة " الهاجسَ المطري " ، وهي قصيدة مُغايرةٌ في مناخها الفكري – والشعوري – للقصائد التي سبقت الإشارةُ إليها - حيثُ تشيعُ فيها الأجواء اليقينية المنبثقة من الثقة بالقيمة الجمالية والإنسانية للشعر ؛ فالشعرُ– وفق هذا الطرح - هو الهاجسُ المطري الذي يمنح الرؤى والجدوى ، والوعي والجمال ، يقول الشاعر :
" الشعر :
هذا الهاجس المطريّ
كيف أتى بنا من غابر اللاوعي :
وعيًا
يمتطي خلجاتنا عبقًا
ويشبع صمتنا شدوًا
ويثخن دمعنا غرقًا
وينسانا على أهداب لوعتنا
نُفتّش في بصيص البوح : عنّا .."
تُصوّرُ القصيدةُ إكبار الشاعر قيمة الشعر، واستعظام قدراته في إمداد الروح الإنسانية قدرتها بالطاقات اللّازمة للتحليق والخلاص من عوالم المادة وعوادمها ، يقول الشاعر :
" الشعر عطر الكون
من طين الخرافة صاغنا
ثم استوى لحنًا على أنفاس لوعتنا وغنّى ..
أعبرُ سمّ التوجسِ
· نحنُ أمام عنوان مراوغٍ ، يمنحُ أكثر من احتمالٍ دلاليٍ ، منها : العبورُ إلى التوجّس بمعنى الولوج إليه – والوقوع في أسرِه - والدلالة الثانية : العبور من هذا التوجّس–بمعنى اجتيازه وتجاوزه –وهذه الاحتمالية الدلالية تؤكدُ أنّ عنوان هذا الديوانُ ممّا لا يُفصح عن مدلوله إلا بممارسة قراءة النّص الشعري المُتّصل به ، بما يُبرزُ مراوغته الدلالية . وفيما يخصّ حدود النّص الشعري المقصود بهذه الدراسة النقدية ، فهي القصائدُ المتعلقة التي يُمثّلُ التّوجسُ مرتكزَها الدلالي والنّفسي . أمَّا طبيعة الدراسة فهي دراسة أُحادية للنّصّ الشعري ، تهدفُ إلى تحليله لُغويّا وجماليا .
· نبدأُ دراستنا النقدية حول التجربة الشعرية - في هذا الديوان - بتلقّي القصيدة المركزية التي سُمي الديوان باسمها – أعبرُ سَمّ التّوجس –وتبدأُ بقول الشاعر :
" أنا الآن
بيني وبينك
أنضمّ حينًا إليَّ وأنضم حينًا إليك ..
***
أنا الآن خيطٌ من النار
خيطٌ من النور
يقسمُني ( التوت ) في شفتيك ..
***
أنا الآن برقٌ
أُرتّقُ شِعري بـ ( شَعرك )
ترسمُ عيناي عينيك في سقف قلبي
تُضيئان للنبض درب الخلود
الذي شق رمل الصبابات صبحًا
على مشرقيك ..
***
أنا الآن أعبرُ ( سمَّ التوجسِ )
بين جنوني وصبرك
غنّيتُ حتى تشربتُ صوتك
واللحن
أضحى نخيلًا من الشوق في راحتيك ..
***
أنا الآن بابٌ يُواربهُ المُشتهى
وسط التّيه منتصبًا
تشتريه العناكبُ من مارد الريب
تنسج من حوله سورَ وهمٍ سميكٍ "
***
نلاحظُ ارتكاز الشاعر على - مدار خمس فقرات من القصيدة –علىأسلوب التكرارللجملة الإسمية " أنا الآن " باعتبارية ثابتة ، مع إلحاق مُتغيّر دلالي بها - في كل مرة تتكرر فيها - ممّا يستتبعٌ تغيّرا في هُوية الذات الشاعرة / السَّاردة ، وتطورا في درجة التوتر الدرامي للتجربة ، يتضح ذلك فيما يلي :
أنا الآن بيني وبينك / أنا الآن خيطٌ من النار / خيطٌ من النور / أنا الآن برقٌ / أنا الآن أعبرُ / أنا الآن بابٌ يُواربهُ المُشتهى .
نحنُ – في هذا الموضع من القصيدة – أمام ثابت – من الظواهر التركيبية– وأعني ضمير الأنا المتكلم – التي تتخذ وضعية نحوية – هي وضعية الابتداء – بينما يبدو الخبر هو المتغير ، وكلاهما – الثابت والمتغير – يسهمُ في إنتاج الدلالة المقصودة ، ويُسهم في الإيحاء بالاطّراد الدرامي ، والرؤيوي " ينبغي ألَّا يقتصر نظرنا في النص الشعري على المُتكرر وحده ، وأن يتعدّاه إلى نظام البدائل أو المتغيرات ، ويعني ذلك أننا حين نلتقي بضربٍ من التنظيم أو التّوالي عند مستوى بنائي معيّن ، فإننا نصادفُ ما يصدعُ ذلك النظام عند مستوياتٍ أخرى ، وتَواكُبُ هاتين القاعدتين – النّظام وصدع النظام – يُشكّلُ سمةً عضوية في بنية كلّ نصٍ شعريٍ . " 1 )
تُجسدُ لنا الصورةُ الشعرية– في هذا الموضع من القصيدة – طبيعة التحولات التي تمرُّ بها الذاتُ الشاعرة ، وصولًا إلى جوهرها - ووصولا إلى القدرة على اجتياز سمّ التوجس –هذه الذات ُ تستمدّ ماهيتها من العوالم الآتية : النار ، النور ، البرق . وتبدو الطبيعة النورانية سمةٌ مشتركةٌ بين هذه العوالم - التي تمثل أطوار التحوّل - كما تتجلّى هذه الطبيعة - في أكثر درجاتها نفاذًا - في طور " البرق " ممّا يمكنُ الذات من عبور سمّ التوجس .
على صعيدٍ آخر تبرزُ الطبيعة المعنوية لعنصر المكان– في الصورة الشعرية السابقة – فالشاعر ينتقلُ من ( كيانه ) إلى ( كيان ) الذات الأنثوية ، وفق التموجات الآتية :
بيني وبينك / حينًا إلىّ وحينًا إليكِ / عند شفتيها ( حيثُ يقسمه التوتُ / عند شعرها ( حيثُ يرتّقه بشِعره / ثم عند عينيها / ثم مشرقيها / ثم في برزخٍ خاص ( بين جنونه وصبرها ) / ثم وسط التّيه . وتدفعنا هذه السمة المعنوية – الرمزية – لعنصر المكان إلى وصف حركة الذات الشاعرة – في هذا الانتقال – بأنها حركة شعورية معنوية ترصدُ فيها الذات مراحلاجتذابها – إلى - وغوايتها - من قِبَل - الذات الأنثوية .
أمّا نظامُ الجملةالذي تمّ من خلاله فعلُ العبور ، فهو متباينٌ ما بين الجملة الإسمية والفعلية على التوالي :
أنا الآن بيني وبينك / أنضمّ
أنا الآن خيطٌ / يقسمُني التوتُ
أنا الآن برقٌ / أُرتّقُ / ترسمُ عيناي / تضيئان
أنا الآن أعبرُ / غنّيتُ / تشرّبتُ صوتَك .
وقد بدا الفعلُ النحوي– في المواضع السابقة - مقسومًا – مشتركا – بين الذات الشاعرة والذات الأنثوية في توالٍ وتدفّقٍ – ممّا أضفى الحيوية على الصورة الشعرية - كما يلي :
أنضمُ ، يقسمُني التوتُ / أُرتّق شِعري / ترسمُ عيناي / أعبرُ سمّ التوجّس / غنّيتُ / تشرّبتُ صوتَك . ومن ثمّ تبرزُ كلٌّ من الذات الشاعرة والذات الأنثوية فاعلًا في هذه المواضع – وهذه النتيجة تؤكدُها طبيعة الضمائر الموزّعة بين الأنا المتكلم وضمير الغائب العائد إلى الذات الأنثوية - وصولًا إلى قول الشاعر : " أنا الآن بابٌ يواربُه المُشتهى " ، حيثُ ينتقلُ زمامُ الفعل إلى قوى أخرى تساهم في إشاعة مناخ التوجس ، وهي : المُشتهى ، العناكبُ ،وهي قوى ذات دلالة رمزية .
· يبدو الطابعُ الدّرامينسيجًا أساسيّا في هذه المعالجة الفنية - وليس مجردَ مرتكزٍ من مرتكزاتها -ويضطّلعُ الفعلُ بإبراز هذا الطابع من خلال تجسيد مراحل التوتر والتأزّم بدءًا من مقاربة حدث التوجّس ، وصولًا إلى منطقة الارتياب ، ثم الانعتاق والانفراجة ، مثلما هو الحال في أي حدثٍ – أو واقعةٍ - قصصية .
· يكمنُ سمُّ التَّوجسُ – وفق دلالة هذه الصور الشعرية- في المسافة الواقعةِ بين جنون الذات الشاعرة ، وصبر الذات الأنثوية ، كما تُبرزُ – هذه الصورُ– حدثَ العبور– عبورسم التوجس – مصحوبًا بفعلين ، هما : الغناء ، و تشرّب صوت الحبيبة ، ممّا يُدفعُ الذات الشاعرة إلى منطقة ظلالية –شعوريا – بين العتمة والضوء – و يدفعُ التجربة إلى ذروتها الخلاصيّة ، حيثُ الفقرة الأخيرة التي تضطلع بدور الكشف الرؤيوي وانفراج أزمة التوتّر الدرامي . يقول الشاعر :
" أيا امرأةً صنعتْ عرشَها
من مرايا جنوني
وخطّت على ماء روحي قصائد
لم تسبرِ الجنّ أغوارَ إلهامها
ثم غنّتْ فماست غصون الجوى في حبور
على ضفتيّ نهرها العسجدي المفاتن
والغيمُ صف على فُرش الزيزفون المُمرّد
من تمتمات الضحى
في خشوعٍ يُصلّي عليكِ .. "
يتسيّدُ أسلوبُ " التناص " –ويبرزُ في –الموضع السابق من القصيدة – ليحيط كلًّا من الذات الأنثوية ، والقصيدة ، بسماتٍ فائقةٍ ، مستمدّة من قصة بلقيس – ملكة سبأٍ – في الطرح القرآني . نلمحُ هذه السمات – أوّلا - من خلال مجموعة المفردات التي تتعالقُ مع مفردات هذه القصة القرآنية ، وهي : العرش ، الجنّ ، المُمرّد . هذه المفرداتُ تحيلُ الناقدَ إلى قصة عرش الملكة بلقيس واختفاء هذا العرش على يد جنّ سليمان ، ثم عرض هذا العرش عليها ، ووقوفها ذاهلة أمام الصرح المُمرد في قصر النبي سليمان – عليه السلام – وتشميرها عن ساقيها خوفًا من لجّة ماء . هذه التفاصيل الأساسية التي مثّلت علامة فارقة - في قصة ملكة سبأٍ – اتخذها الشاعرُ مرتكزَ تناصّه، بما أبرز هوية فارقة للأنثى الحبيبة - والأنثى القصيدة – حيث فاقت هذه الأنثى قدرات الجنّ وطاقاتهم ، وامتلكت عرشًا من مرايا جنون الشاعر – بما يستعصي على الجن استلابه ونقله - كما أنّها أعجزت الجنّ عن سبر أغوار إلهامها ، وفاقته بكيانها المفعم بالغناء الساحر الذي منح الأغصان صفة الصرح المُمرّد . وبذلك يتضحُ لنا التباين الجوهري بين سمات الذات الأنثوية - في هذا الطرح الشعري - والسمات الأساسية لملكة سبأ - في الطرح القرآني - ممّا يبرز ارتكاز الشاعر على التناص المخالف للدلالة الأصلية للنص المُستدعى ، ويبرزُ – في الوقت ذاته – اتصاف الحبيبة بسماتٍ غرائبية فائقة للمعقول المادي ، حيثُ تتعدى طاقة الجن ، وتملكُ عرشا من جنون الشاعر .
· نشيرُ في هذا السياق إلى اضطلاعِ مفردتي " الجن " ، و" الجنون " بإبراز درجة من درجات التّماس بين الحبيبة ، والقصيدة؛ فعلي المستوى الدلالي تشتركُ المفردتان في التعبير عن الدرجة الفائقة – سواء من الجنون أو من طبيعة الجن – وعلى المستوى الصوتي تشتركان في صوتِ الجيم – الذي يمثل علامة فارقة في كلتيهما –وهو صوتٌ غاريّ – المَخرج – مجهورٌ . كما أنّ صوت الجيم صوتٌ أساسيّ في مفردة التّوجس – التي تمثل المرتكز الدلالي والدرامي لهذه التجربة الشعرية – نتوصل من خلال هذا المشترك الصوتي إلى أنّ الفعل الدرامي في هذه التجربة الشعرية موزّعٌ بين الحبيبة والقصيدة والشاعر ، فالذات الشاعرة تكابد للوصول إلى الحبيبة ، وتكابدُ للقبض على القصيدة ، وهي في رحلتها إلى الحب ، والإبداع تجتازُ سمّ التّوجس الذي هو مزيجٌ من الخوف والظنون والقلق ، والرجاء والانتظار . ومن هنا ندرك القيمة الفنية في شيوع صوت الجيم في مفردات مثل : الجوى ، النهر العسجدي ، وغيرها ، ممّا يتصلُ بتفاصيل الموقف الدرامي .
· وإنّ نظرة تأمّل – واستكناهٍ – إلىطبيعة الثنائيات- في هذه القصيدة – لتحرّض الناقدَ والمتلقّي على المضي في الدلالة التي طرحناها فيما سبق ، حيثُ تبرزُ هذه الثنائيات مراوحةَ الشاعر بين كيانين: ذاته الشاعرة ، وحبيبته ، كما تبرزُ هذه الثنائياتُ طبيعة الرحلة التي يقتطعها الشاعر للخلاص من التوجس ، وهي الرحلة من كيانه - المتوجس من الحب ومن المخاض الإبداعي – إلى كيان الحبيبة وميلاد القصيدة . هذه الثنائيات هي – وقد أشرنا إليها فيما سبق :
إليّ إليك ، بيني وبينك ، النار والنور ، عيناي عينيك ، جنوني صبرك .
· إنّ مناخ التوجّس لا ينشرُ مناخه على القصيدة المعنونة بالمفردة الدالّة عليه فقط ، بل ينشرُ مناخه – وظلاله - الدلالية على كثير من قصائد هذا الديوان ، وإن بعض هذه القصائد يحملُ عنوانا ذا دلالة تعالقية واضحة بالتوجس - و مناخاته النفسية – من ذلك قصيدة " الهاجسُ المطري " ، و" رشد الجنون " ، و" تخوم الضجر " ، وهناك من القصائد ما لا يحمل عنوانا ذا علاقة مباشرة بمناخات التوجس ، لكنه يشتملُ على زاوية مهمة من زوايا الرؤية الشعرية لإشكالية التوجس . مثل قصيدة " ردّ " ، و" يابلاااااش " وغيرها .
· يبدأ الشاعر حسن الزهراني قصيدته " ردٌّ " بنعي الحياة التي انفلتت من يديه وصارت وهما لا يتحقق ، يقول :
" أسفي عليّ
أصبّ ماء الروح
في رمل الظنون
وأرتدي وهمَ الحياة
ولاحياة !! "
ثم ينعى ُ القيم النبيلة التي تُمثل العمود الفقري في العلاقات الإنسانية ، ممّا أشاع في روحه القلق والمرارة والحزن ، والتوجس . وهكذا يطالعنا التوجسُ ماثلا بمفردته الصريحة ، ومناخاته النفسية التي يُشيعها في الروح المغتربة عن عالمها ، أو واقعها . يقول الشاعر .
" إنّ الذين تقاسموا
برقَ البدايات
استعانوا بي عليّ
وزمّلوا قلبي بعلقم ظلمهم
فشربتُهم غِيًّا بأفواه الرواة !!
**
مابالُ آخرُ ( قُبلةٍ ) سقطت
مُضرجةً بكافور الخطيئة
عندما شربَ التّوجسُ منتهاه
**
يا ااااأيها الغصن الذي
غيرتْ صوتك في هزيعِ الرّيب
قل لي :
كيف أهدمُ سقفَ حنجرتي
وأغسلُ حبر ناصيتي
وأثقبُ ( غرب ) ذاكرتي
وأعتق حلم نبضي من أساه ؟؟؟ "
من الواضح للتلقّي النقدي شيوع مفردات بعينها - في المعجم الداخليلهذه القصيدة – ممَّا يوجّه مسارها إلى مناخ دلالي – ونفسيٍ – شديد الصلة بمناخ التوجس – ومرادفاته – من هذه المفردات : الأسف ، الظنون ، الوهم ، الريب ، الأسى ، هذا فضلا عن التصريح بمفردة التوجس ذاتها . كذلك ترتكزُ القصيدةُ على الأساليب الاستفهامية الموحية بدلالة الظنّية والاسترابة والقلق ، وذلك كما في قول الشاعر :
مابالُ آخر قبلة سقطت ...؟ ، وكيفَ أهدمُ سقفَ حنجرتي / وأغسلُ... / وأثقبُ ... / وأعتقُ ...؟
· التَّوجسُ هو المناخُ الشعوري الذي يتبطّنُ قصيدة " بابان " التي ترتكزُ – أيضا – على أسلوب الاستفهام الذي يُبرز مدى مكابدة الذات المتسائلة ووقوعها في منطقة الارتياب من حقيقة هُويتها . ويبدو توظيف الشاعر لبنية المونولوج أجراءً فنيًّا مُوفّقًا في تصوير هذه المناخات النفسية الاستلابية . يقول الشاعر :
" هل أنتَ تبحثُ عنكَ في فَلك الحقيقة
منذُ آلافِ الدموع المُستباحة ...؟ "
تنطلقُ الذاتُ في مواجهة إشكالية البحث عن حقيقة وجودها من دوائر ظنّية شكّية ، تتمثّلُ في هذه التساؤلات التي تحاول مقاربة الهوية ، يقول حسن الزهراني :
" هل أنتَ ريشةُ عازف غنَّى فماسَ الماء
واهتزّ الغمام على مفازات الفصاحة ...؟
***
هل أنت مصباح الخرافة لم تجد كفًا معطرةَ
ولم يشهد سجين العشق
في أعماق سكرته صباحه ...؟
هل أنتَ تبحثُ عنك
في أغوى خطوط الرمل
أو أنأى النجوم
وتكتب الإلهام في سعف الصراحة ... ؟
***
هل جئت تقرأ ما محت كفّ المنون على
غدير الوقت . تسأل زنبق الرُّجعى أقاحَه ؟؟؟ "
ثم يختم الشاعرُ قصيدته بما يُوهمُ المتلقّي بالوصول إلى ذروةٍ يقينية ، بينما يظلّ مناخ التوجس عالقًا بالدلالة ، مؤكدًا ولوج الشاعر إلى عالمين هما : حدسه ورُوعه ، وهذان العالمان هما البابان - في عنوان القصيدة - وهما هاجسان لا يُفضيان إلى يقين ، يقول الشاعر مخاطبا ذاته :
" حدسي وروُعك أيها المبعوث من قاني دمي :
بابان مفتوحان من أقصى المساء إلى المساء
وضحكةٌ يبست على غصن الصباحات
المباحة ... . "
· قصيدةٌ أخرى تثيرُ دلالة متعالقةً مع مناخ التوجّس ، هي قصيدة ُ " رشد الجنون " ، التي يتّخذُ فيها الشاعرُ شخصية " شهرزاد " قناعًا تاريخيًّا – أو أسطوريا - فيطرحُها بوصفها ذاتًا تثير شغف السؤال - عبر الحكايا - وتملكُ وثوقية ما ، ويقينا. يواجه الشاعر هذه الذات بعدةٍ جملٍ مرتكزةٍ على أساليب الاستفهام التي أبرزت مشاعر القلق والشك ، فضلا عن شيوع المفردات الدالة على هذا المناخ ، ومنها: الجنون ، الشك ، الوهم ، التّيه . يقول الشاعر
" يا شهرزاد
إلى متى والرّكض
يحتلّ الموانئ
والقِلاع
وكل شبرٍ من هوى قدميّ
من عينيّ
من تفكير قلبي
من جراحي ...؟؟؟
هذا جنونُ الرشد
أو رشد الجنون
يمرّ من بوابةٍ
تتوسط الصحراء
لا يدري
مُريدُ عبورها
أَهُوَ الدخولُ
أم الخروج
فقد تساوى عنده ُ
شكّ اليقين
مع يقين الشكّ
وامتزجت بوهم التّيهِ
في مرآتهِ
كل النواحي "
· إنّ تغيّر الواقع ، وتراجع القيم يمثّلان عاملا من عوامل توجّس الشاعر وقلقه الروحي ، بل واغترابه . يطرح حسن الزهراني هذه الدلالة في قصيدته " شجنٌ مستعارٌ " ، فيبدأُ القصيدة بما يُشبه التنديد بالأيام وتحولاتها الفاجعة ، يقول .
" حين شاب الوقار
صار لِليل وجهان من : بهجة وانتصار .
وبلا أي وجهٍ توارى – توارى – توارى النهار .. "
ثم يُصوّرُ مراحل اغترابه عن واقعه ، ولوذه بذاته في مواجهة المتغيرات التي أطاحت بثوابت اليقين ، ودعائم الوجود – الذاتي والجمعي – يقول حسن الزهراني :
" أيقنَ الصمت أني تعلمت
منه فنونَ الحوار ..
***
ثمّ زنَّرتُ في مسرح
الرَّيب قلبي
بطوقٍ من الشجن المستعار .. ***
حينها أصبحت مهجتي معصمًا ناحلًا
واغترابي سِوار .. "
اعتمد الشاعر – في الموضع السابق من القصيدة – على أسلوب المفارقة- الكامن في دلالة تعلّمه فنون الحوار من الصمت – كما ارتكز على أسلوب التسويةفي تصوير تراجع يقينه واهتزاز ثوابته في ظلّ مأساوية الواقع ، يقول :
" لم أر في زمان الأعاجيب
فرقًا جليّ الملامح
بين البصيرين والمبصرين
ثم أيقنت ياسادتي
أننا لم نعد مثل أجدادنا
في اتخاذ القرار .."
· يُطالعُنا التوجسُ – في عدّة قصائد من هذا الديوان – باعتباره موقفًا فكريًّا وشعوريًّا يواجهُ به الشاعرُ تراجع قيمةَ الشعر- وتراجع دوره المؤثّر - في مُجريات الواقع ، بل ويواجهُ به جحود الواقع لقيمة الشعر المعرفية والجمالية . من أبرز هذه القصائد : " تُسع " ، و" خردلة " ، و" يا ااابلاش " ، ورغم عدم اشتمالها على مفردات ذات دلالة صريحة على التوجس، إلَّا أنها تتميزُ –من بقية قصائد الديوان–بتوظيف أسلوبي السخرية والمفارقة في طرح رؤية الشاعر حول هذه الإشكالية.
في قصيدة " يا ااااابلاش " ، لم يكتف الشاعر بهذا العنوان المستمد من كلمات الحياة اليومية المنتشرة على ألسنة الباعة بالأسواق ، بل صدّر القصيدة بعبارة كاملة –من هذا السياق – بدتْ وكأنّها نصٌّ مُستدعىً في علاقة تناصٍ فني . يقول الشاعر في تصدير القصيدة :
" علينا جاي .علينا جاي . علينا جاي .ألحق الطيب لا يفوتك ..ما بعنا بالكوم إلا اليوم . يابلاش يا اااابلاش يابلاش .. يا أهل الزين يامن يشتري ؟؟ " .
تتمرأى دلالةُ هذه العتبة في جسد القصيدة –منذ بدايتها – حيثُ يستهلّها الشاعرُ بنداءٍ مُوازٍ -ينطلق من إلهام هذه الثيمة- ويتخذُ منها بنيةً فنيّة ثرية الدلالات ، كما يتخذ من نموذج البائع معادلا فنيا له ، فينادي على ما لا يُباعُ ، نداءً يدينُ الواقع ويكشفُ مثالبَه ، يقول حسن الزهراني :
" من يشتري :
شفة ً ...
ومصباحًا ...
وصمتًا شاحبًا ...
وعقيرةً من ربع قرن
لا تسرّ السامعين ؟؟؟ "
البضاعةَ المنادَى عليها – في الموضع السابق – من المعنوي الذي لا يُثمّنُ ، و هي : الشفة ، والمصباح ، والصمت الشاحب ، والعقيرة المهملة ، وقد اتخذها الشاعرُ رموزًا للشعر الذي لا يجد من حفاوة الواقع ما يليقُ بقيمته - ودوره – لذلك ينطلقُ ُ في بقية القصيدة في طرح هذه الإشكالية بضمير المتكلم المفرد ، موظفا أسلوب السخرية والمفارقة ، يقول :
" أرسلتُ ( موّالين )
في سوقٍ
بلا ( سوقٍ )
فأنبت من صدى صوتي
حروفًا طلعُها المنضود
صافي نخبَهُ
ينساب فجرًا
لذةً للراحلين ...
***
رحماك يا ( شاه بندر التجار )
إنّ بضاعتي المُزجاة
ما بلغت نصيف نصابكم
هلّا غضضت الطرف عنها
كي أجرب حظي المنكوب
في باب التجارة مثل باقي البائسين ..."
يطالعُنا هذا النسقُ من الطرح الشعري - المعتمد على أسلوب المفارقة والسخرية الفاجعة– وتوظيف مفردات الحياة اليومية - في قصيدة " تُسع " حيثُ تُطالعنا الذاتُ الشاعرةُ – مرة أخرى - وهي تطرحُ حروفها بضاعةً غيرَ مُجديةٍ ، وغير مغريةٍ في ( سوق ) الواقع ، يقول الشاعر حسن الزهراني :
" ثم لملمت باقي رفاتي
بريش الفراشات
وابتعت ( كشكا )
بسوق الخرافات
أفنيت باقي حياتي
أبيع على الواهمين الكلام
أبيع على الواهمين الكلام .. "
· وفي قصيدته " خردلة " نطالعُ – مرة أخرى – نسقَ الطرح الشعري المرتكز علىأساليب الاستفهام ، والسخرية، في التعبير عن افتقاد مشاعر اليقين ، وافتقاد الثوابت الدّاعمة للروح والفكر ؛ ومن ثم يستهلّ الشاعر قصيدته بهذه الجمل الشعرية التي تبرز مدى انغراز الشكية والتوجس في الواقع المحيط ، يقول :
" طالت المهزلة
طاااالت المهزلة
مَن يبيع ... لمن .. ؟؟
من ..؟؟
ومن .. يشتري ..؟؟
طالت المهزلة ...
***
في فمي ( قنبلة )
في دمي قنبلة
فتقدمت جيشًا
يسدّ الخيال
ولمّا بدا لي عدوّي
وجدتُ الذي في يدي :
خردلة ... "
•إنَّ هيمنة الشعور بتراجع دور الشعر ، وجدوى رسالة الإبداع – عامة – يُعدّ عاملًا مهما من عوامل التوجس - في هذه الرؤية الشعرية – يطرح الشاعر هذه الدلالة في قصيدة " تخوم الضجر " مرتكزًا على بنية " المونولوج "التي منحت المزيد من الإيحاءات الدلالية باغتراب الذات الشاعرة ، وافتقادها اليقين ، يقول حسن الزهراني :
" قال لي
قااااااال لي :
والتباريح تنطق ُ من سحنة الروح :
أين المفر ؟؟؟
***
نصف قرن تسافر بي لهفتي
في تخوم الضجر ..
***
نصف قرن فمي زورق تائه ٌ
في بحار الأناشيد
يبحث عن مُستقر ..
*** "
يبرزُ الشاعرُ – في الموضع السباق من القصيدة – اغترابه نابعًا من اغتراب الشعر – أو الحروف – وكذلك حيرته وشتاته . ويصور– على مدار القصيدة – تفاصيل التحول في الروح الإنساني ، تفاصيل الظمأ الروحي والعاطفي وافتقاد منابع السكينة والحب ، ثم يختم القصيدة بما يطرح دلالة إشارية إلى توحّد الشاعر بشعره ، واغترابهما عن واقعٍ مغاير لهما . يقول حسن الزهراني :
" قلت :
ماذا جرى ؟؟؟
ماالذي بدّل الحال بالحال ياصاحبي ؟؟؟
ما الخبر ؟؟؟
*** أشار بسبّابة البؤس
نحو القمر ..!!!
***
فتأبّطتُ جرحي
ودمعي
وشعري
وغادرت ذاتي قُبيل السَّحر ... "
التوجسُ – في الرؤية الشعرية في هذا الديوان – ليس حالة فرديةً ، بل هو مناخٌ عام يتسيّد الواقع ، وهو ليس عارضًا مؤقتًا ، بل هو من أبرز سمات الراهن لأنه منبثقٌ من متغيراتٍ جوهرية عبثت بأصول التكوين : الفكر ، والروح. يطرح الشاعر هذه الدلالة في ختام قصيدته " خردلة " ، يقول :
" العقول التي باتساع الفضاء
مُلئت بالهراء
طوقت بالهباء
وأمام الصباح المضمخ
بالوعي والفكر
أبوابها مقفلة ...
***
قارئ ( القوس والدلو والسنبلة )
قال لي : إذْ غوى :
إن نجمي هوى
فطواني النوى
في جفوني الجوى
ثم أمسيتُ في كهف
حزني ضعيف القوى
أقرأ : القوس والدلو والسنبلة ... "
· يستطيعُ الناقدُ أن ينفذَإلى الأعماق الدلالية للتجربة الشعرية – إذا نظر إلى الديوان باعتباره نصًّا واحدًا – لا مجموعة من النصوص – ففي هذه الحالة سوف يُمثّل ترتيبُ القصائدُ –كشكلٍ طباعيٍ - أسلوبًا من أساليب الأداء اللغوي . على ضوءِ هذه النظرة النقدية نُشيرُ إلى ابتداء الديوان – محلّ الدراسة – بقصيدة " الهاجسَ المطري " ، وهي قصيدة مُغايرةٌ في مناخها الفكري – والشعوري – للقصائد التي سبقت الإشارةُ إليها - حيثُ تشيعُ فيها الأجواء اليقينية المنبثقة من الثقة بالقيمة الجمالية والإنسانية للشعر ؛ فالشعرُ– وفق هذا الطرح - هو الهاجسُ المطري الذي يمنح الرؤى والجدوى ، والوعي والجمال ، يقول الشاعر :
" الشعر :
هذا الهاجس المطريّ
كيف أتى بنا من غابر اللاوعي :
وعيًا
يمتطي خلجاتنا عبقًا
ويشبع صمتنا شدوًا
ويثخن دمعنا غرقًا
وينسانا على أهداب لوعتنا
نُفتّش في بصيص البوح : عنّا .."
تُصوّرُ القصيدةُ إكبار الشاعر قيمة الشعر، واستعظام قدراته في إمداد الروح الإنسانية قدرتها بالطاقات اللّازمة للتحليق والخلاص من عوالم المادة وعوادمها ، يقول الشاعر :
" الشعر عطر الكون
من طين الخرافة صاغنا
ثم استوى لحنًا على أنفاس لوعتنا وغنّى ..