بواسطة :
22-02-2015 09:48 مساءً
9.8K
المصدر - متابعة -مساعد العتيبي*
بثياب رثة تفوح منها رائحة منفرة وملامح غيّرتها الأصباغ والألوان وافتعال تمثيلي للخطو وحركات الأيدي تقارب شبها حركات فاقدي العقل بدأ المحرر «المجنون» رحلته أمام «نفسية جدة» ليقف على كيفية تعاطي المجتمع بكل شرائحه مع هذه الفئة التي حرمها المرض من رؤية الحياة كما نراها، بل ويتابع عن قرب مدى مصداقية ما يردده الأكثرية من الرعاية والاهتمام والدعم الذي يحظى به الساكنون خلف السور العالي.
جولة من النوع «المختلف» اقتحم فيها محرر صحيفة المدينة وفقا لما ورد بموقعها «دنيا غريبة عن دنياه» نام فيها على الرصيف المتاخم لبوابة «النفسية» وتناول كسرة الخبز الجاف وشرب من الكوب الملوث بغبار الطريق فاقترب منه البعض بريال العطف وهرب من ملامحه آخرون.. حكايات مشوّقة بدأها «المحرر المجنون» ليزيل اللثام عن عالم المرضى النفسيين الهائمين في الشوارع .. العالم المنسي من الذاكرة.
الخوف والتوجس
ذهبت إلى أحد الأحياء المأهولة بالسكان.. كنت أسير والناس يتخوفون منى ويتحسبون لأي مفاجأة غير متوقعة تصدر مني حيالهم، وكما توقعت فالكل يهرب من ساحتي ولا يريد الاقتراب مني ومع غرابة ما رأيت يبقى مشهد ملعب الكرة هو المثير حقا، فالفتيان الصغار ممن لا تزيد أعمارهم عن 15 سنة يلعبون وحينما شاهدوني فروا هاربين تاركين الملعب والكرة، هاربين مني إلى منازلهم، فيما وقف البعض خلف باب منزله يترقب ردة الفعل مني.. لم أكن أتوقع ردة الفعل منهم، وبعد ابتعادي عن الموقع، خرج بعضهم من منزله، وهم يرددون «راح المجنون » ويشيرون بأيديهم إليّ، لم أكترث كثيرًا بما يقولون عني بل كنت أراقب تصرفاتهم وأسجلها في حافظة الذاكرة.
والله مجنون
شاب يبلغ من العمر نحو 22 سنة كنت أتحدث معه ولكن سرعان ما تغيرت ملامحه وشعرت في عيونه الخوف ولم تمر سوى ثوانٍ إلا وأطلق لشاب ساقيه للريح. ومع هروب الشاب كانت وقفة الرجل الكبير ذى الهيبة والوقار، حيث تحدث معي بعطف كبير ورقة متناهية وكان يقول له: «تبي فلوس؟» وكنت ممسكاً ببطاقة شحن قديمة، ألوح بها، متجاهلًا سؤال الرجل، ولكن طيبة هذا الرجل جعلته يخرج مبلغا من المال من جيبه ليعطيه لي.. أخذت الـ50 ريالا، ولكني عدت من جديد لأمنحها للرجل العجوز مما أثار دهشته وقال وهو يضحك: «والله إنك مجنون».
هروب المطعم
قررت الدخول إلى مطعم بأحد المراكز التجارية ولكن نصف من في المطعم هرب دون مقدمات، العاملون في المطعم كانوا خائفين من تصرفاتي، متأهبين أن أقوم بتكسير زجاج المطعم على رؤوسهم، أو الاعتداء على أحد منهم، أو الزبائن، مكثت دقائق عدة، كانت كافية لاكتشاف الدهشة على وجوه الحاضرين، حين قام أحد العمالة بإعطائي «كيس رز مع الخبز»، فأخذته وخرجت من المطعم، ابتسم الجميع وتنفسوا الصعداء بعد خروجي، ولسان حالهم يقول «ايش جابنا في هذا المطعم».
اتفكيت من المجنون
عند خروجي من المطعم استوقفت أحد العمالة الوافدة وهو يقود «دراجة»، وطلبت منه أن أركب معه، كان مشهدًا مضحكًا – إلا أنني كتمت الضحكة – كي لا ينكشف أمري خاصة أنني أجدت الدور بنسبة 100% وافق الوافد على استضافتي فوق دراجته وانطلق بي مسافة قصيرة جدًا، ولكنه توقف فجأة خوفًا مني خاصة بعدما أثرت الخوف داخله بعبارات غير مفهومة، وأصوات عالية، تعبر عن فرحتي بركوب الدراجة، وبعد نزولي من الدراجة، هرب الوافد بقوة من الموقع، ولسان حاله يقول «اتفكيت من المجنون».
داخل الصيدلية
في إحدى الصيدليات قررت الدخول لمشاهدة ماذا سيكون ردة فعل من فيها، كانت الصيدلية مكتظــة بالزبائن، فسيطرت حالة من الهدوء والترقب لما سيحدث مني.. بدأت أقلب علب الدواء وأنواع الشامبو فإذ بأحد الطيبيين يتبرع ويسألني «هل تريد شراء شامبو؟ خذ ما تريد وسوف أدفع عنك الحساب». لم أتحدث معه، ونظرت إليه نظرة استغراب، وسألني ثانية ماذا تريد من الصيدلية، أمسكت بعصا يستخدمها كبار السن في الاتكاء عليها رفعتها.. هذا الأمر الذي جعل نصف الزبائن يخرجون خوفا من تعرضهم للضرب وبعد خروجي من الصيدلية، سمعت أحد الزبائن ينصح البائع بغلق الباب بسرعة، قبل أن أعود ثانية.
مجنون يا شباب
دخلت في إحدى غرف الصراف الآلي، وكان هناك ثلاثة من الرجال في العقد الثالث من عمرهم، يريدون تنفيذ بعض العمليات في الصراف توقف الجميع والتفتوا إلينا مستفسرين ماذا أريد بالضبط، لم أرد عليهم، وكانوا يرددون فيما بينهم «خلونا نطلع يا شباب» لأنه مجنون خرجوا مسرعين، وكان أحدهم مندهشا وخائفا من الموقف، وإذا كان مشهد الصراف (غريبا) فمحل البقالة أغرب.
حيث أخذت مجموعة أغراض (حليب وبسكويت ) لم أدفع قيمة الأغراض التي أخذتها فلم يردعني البائع ولم يتفوه بكلمة وتركني أذهب هكذا بدون أن أدفع ريالا واحدا وكأنه كان يريد إخراجي من محله بأي طريقة دون حدوث أي مشكلة.
موس الحلاقة
موقف أثار دهشتي وأشعرني بجهل البعض في التعامل مع هذه الفئة، وذلك حينما دخلت أحد محلات الحلاقة وبها عامل وافد، حيث رفض دخولي إلى المحل خوفا من أن الحق الضرر بالزبائن، وعندما أصريت الدخول قام بدفعي وضربي ورفع موس الحلاقة في وجهي وحاول إيذائي حتى هربت من ساحته.
على الرصيف
نمت على الرصيف وتحت لهيب الشمس الحارقة وكان المارة بجواري يمشون بصمت وبلا اكتراث، لم يقترب مني أحد ليسألني عن حالتي أو يحملني في مركبته لأقرب مستشفى أو يطلب لي إسعاف.. الكل خائف ومتوجس.
أمام البوابة
حرصت على إخفاء بطاقتي الصحفية، متوقعًا أن يقوم أحد منسوبي المستشفى بأخذي للداخل للعلاج أو لمتابعة حالتي ومعرفة مدى خطورتها على الناس، مررت بجانب باب المستشفى، فلم يلتفت أحد إلي، تعمدت أن أسبب بعض الإزعاج، أصدر أصواتًا عالية، لِلفت الأنظار إلي، ولكن بلا فائدة.. ذهبت إلى موظفة الاستقبال حتى أتحدث معها ولكن حاولت تجنبي وأكرر الحديث معها فلم ترد عليّ وخرجت إلى ساحة المستشفي وتحدثت مع حراس الأمن فكانت ردة فعلهم أنهم أخرجوني من المستشفى.
المرافق العامة
ذهبت إلى عدة أماكن عامة..حاولت أن أنام داخل أحد المساجد ولكن ما رآني الإمام حتى أخذني بصوت العالي ( أخرج من بيت الله يا مجنون ) فذهبت لحمامات المسجد فلحق بي الإمام وطردني منه وقام يدعي علي، هذه هي «المصيبة» حقا لا فرق في عيون الناس بين المريض النفسي وأصحاب السوابق والمخدرات.. هؤلاء في عيون الناس صنف واحد.
*