بواسطة :
22-09-2014 01:38 صباحاً
16.1K
المصدر -
الغربية - متابعة - محمد المالكي :
*
عُرف عن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- تلمسه لحاجات ومطالب شعب المملكة بكافة حواضرها وبواديها.. مدنها وأقاليمها، وقد أولى الباحثون في سيرة المؤسس اهتماماً كبيراً في سرد وعرض وتحليل وصايا الملك المؤسس لأبناء الشعب، والتي تمحورت في مجملها على ضرورة العمل بمقتضى الشرع الحكيم وهو ما أوصى -أيضاً- به أبناءه الذين خلفوه في الحكم وحملوا من بعده المسؤولية، لا سيما وقد تقدمت هذه التوصيات ضرورة مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، واحقاق الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولزوم تحقيق مبادئ العدل والمساواة، وتلمس حاجات الشعب والسهر على راحتهم، وتحقيق مطالبهم المشروعة، وعدم مضايقتهم في أعمالهم وأرزاقهم، وألا يجمع أحد من أبنائه أو ذووه بين مسؤوليات الحكم والعمل بالتجارة، وكل ذلك من أجل تحقيق أعلى سبل العيش الرغيد، والحكم الرشيد الراسخ بمبادئ التمسك بمقتضى كتاب الله العزيز وسنة نبيه الكريم، اللتان تأمران وتدلان على سبل تحقيق الأمن ومحاربة الفقر والجهل والجور ونبذ صور الفرقة والعنصرية والتحزُب.
كان حبه لأبنائه لا يمنعه من محاسبتهم إن هم أخطأوا، ومكافأتهم وتشجيعهم إن هم أحسنوا واجتهدوا، ولا يقف هذا النهج المعتدل على الكبير أو الصغير.. القريب أو البعيد، كلهم كانوا سواء في عينه وفي توجيهاته، ومع هذا كان -رحمه الله- يراسل أبناءه أو يتحدث معهم بالهاتف يسألهم عن حالهم ويناقشهم حول مسؤولياتهم، بل انه يزورهم في منازلهم يداعب صغارهم الذين يحيطون به ويتواثبون عليه، كما يزور بناته المتزوجات، ويجلس إليهن، ويهديهن التحف والحلي، ومع هذا فهو دائم التوجيه والنصح لأبنائه، خاصة الكبار منهم. والمتتبع لنصائحه لهم يجد أنه -رحمه الله- كان حريصاً على العدل بين الناس والتواضع لهم ومعاملتهم وفق ما يرضي الله، وإرشادهم لما فيه صلاح الدين والدنيا انطلاقاً من مبادئ الشريعة الإسلامية وإعلاء كلمة التوحيد، وهنا نستعرض بعضاً من هذه النصائح الثمينة والتوجيهات التي كان الملك عبد العزيز -رحمه الله- يوصي بها أبنائه.
أربعة أمور
إحدى تلك الرسائل التي وجهها لأبنائه سعود وفيصل ومحمد وخالد، حين كانوا في إحدى المهام التي كلفهم بها، والتي حرص فيها على أن تكون كلمتهم واحدة، ويكونون على قلب رجل واحد، وأن يحترم صغيرهم كبيرهم ويعطف كبيرهم على صغيرهم، وأن يتناصحوا ويتعاونوا فيما بينهم، وقد جاءت هذه النصيحة على النحو التالي: (من عبدالعزيز بن عبدالرحمن إلى الأبناء سعود وفيصل ومحمد وخالد -سلمهم الله تعالى-، بعد ذلك من طرف أربعة الأمور التي سأذكرها لكم أدناه، وهي: أولاً: تكونون يداً واحدة فيما بينكم، صغيركم يوقر ويمتثل أمر كبيركم، وكبيركم يعطف على صغيركم، كما أن الصغير إذا رأى أمراً ما يجوز من الكبير أن يبين له ذلك، ويقول: الأمر هذا لا يجوز منك، وعلى الكبير الإصغاء لأخيه الصغير، كما هو لازم عليه مناصحة أخيه الصغير. ثانياً: أن كل شيء آمر به أو تدبير أدبره تنفذونه ولا تعترضوه أو تعارضوا من وكلت إليه أمره. ثالثاً: كل ما سألتكم عنه أو لزم لكم رفعه إلي تصدقونني فيه بأي حال تكون. رابعاً: ألا تعترضوا أمور ماليتي، لا قريبها ولا بعيدها، في قليل ولا كثير. هذه أربعة أمور افهموها، واحرصوا على تنفيذ موجبها في ظروف معينة، وكل شيء يصير منكم مخالف لشيء منها اجزموا أنه سيكون سبباً لسخطي عليكم يكون ذلك معلوماً). وكان رد أبنائه على رسالته مغلفاً بمعاني التبجيل والطاعة والاحترام وقد جاء كالتالي: (أدام الله وجودكم، بعد لثم أياديكم الشريفة كل ما ذكره جلالتكم أعلاه عن الأربعة الأمور فهمها مملوكيتكم، و-إن شاء الله- نعمل حسب ما جاء بها، وترون ما يسركم ويرضيكم بحول الله وقوته).
ولا شك أن هذه الرسالة التي كتبها الملك عبدالعزيز لأكبر أولاده سناً في ذلك الوقت، تحمل معاني عزيزة، تمثّلت في مجملها بتقديره ووعيه لما ينتج عن تدخل الولد في شؤون الدولة بسلطان أبيه، وهو -رحمه الله- بهذه الرسالة يضع حداً لقطع أسباب الفرقة، ويقيهم شر التنافس والقطيعة، فللصغير حقه مثلما للكبير حقه في أدب العائلة، وقد وضعهم في دائرة من هذا الأدب لم يخرجوا منها حتى الآن ولله الحمد، يحذّرهم ألا يتجاوزوا أمراً يصدر منه، بل يسارعون -ما استطاعوا- إلى تنفيذه والعمل بموجبه، وألا يتدخلوا فيما يصدر عنه نحو الآخرين، كما يحذّرهم من الكذب عليه وهو يعلم -بفضل الله- أنهم ليسوا من أهل الكذب والتحايل، بل أنه كان يشاهد بأم عينه آثر تربيته لهم، لكنه كان يخشى عليهم حبائل الشيطان ودسائس الرجال، كما يحذّرهم عن التدخل في شأن المالية التي هي قوام الدولة، وهذا ملمح مهم، رغم كونه جاء في رسالة تحمل ظروف معينة ولأداء عمل معين، إلاّ أن المؤسس كان حريصاً على العمل بها في جميع الأوقات، كذلك نجد قمة الأدب والاحترام والتوقير من جانب الأبناء في ردهم على والدهم، وتعهدهم بتنفيذ أوامره وتحقيق مراده، وأنهم سيكونون عند حسن ظنه.
ولاية العهد
حينما اختير الأمير سعود بن عبدالعزيز ولياً للعهد بعد أبيه أرسل الملك عبدالعزيز لأبنه -الذي أصبح ملكاً فيما بعد- برقية نصح وإرشاد حثه فيها على الصدق مع الله تعالى مع ضرورة اللجوء إليه سبحانه في الرخاء والشدة، ثم الاجتهاد في أمر الرعية والنصح الصادق لهم وخدمتهم مع الاجتهاد في نشر العلم وتوقير العلماء واحترامهم، وقد جاء نص رسالته “رحمه الله” كالتالي: (لقد أحطت علما بما ذكرت، أما من قبل ولاية العهد فأرجو من الله أن يوفقك للخير تفهم أننا نحن الناس جميعاً ما نعز أحد ولا نذل أحد وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا ومن اعتز بغيره “عياذاً بالله” وقع وهلك موقفك اليوم غير موقفك بالأمس، ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور: أولاً: نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد، ونصر دين الله وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقات خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك.. تعبد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة ولا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق والعمل الخفي والعمل الخفي بين العبد وربه. ثانياً: عليك أن تجد وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سراً وعلانية والعدل في المحب والمبغض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها ظاهراً وباطناً، وينبغي ألا تأخذك في الله لومة لائم.
الملك فيصل يخلع حذاءه قبل دخوله المركز الإسلامي بواشنطن عام 1966م
ثالثاً: عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة، وفي أمر أسرتك خاصة، اجعل كبيرهم والداً ومتوسطهم أخاً وصغيرهم ولداً، وهن نفسك لرضاهم وامح زلتهم وأقل عثرتهم وانصح لهم، واقض لوازمهم بقدر إمكانك.. فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل فأبشر بالخير. أوصيك بعلماء المسلمين خيراً، احرص على توقيرهم ومجالستهم وأخذ نصيحتهم.. واحرص على تعليم العلم لأن الناس ليسوا بشيء إلا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة “أحفظ الله يحفظك”. هذه مقدمة نصيحتي إلك والباقي يصلك -إن شاء الله- في غير هذا. سيبايعك الناس في الحجاز يوم الاثنين وسيقبل البيعة عنك أخوك فيصل وسيصل إليك هو وأفراد الأسرة لتبليغك بيعة أهل الحجاز وليبايعونك عن أنفسهم وأرجو من الله أن يوفقك للخير). وصايا واهتمام كما نصحه ونصح إخوته في مواقف ومشاهد أخرى، بضرورة الحرص على التكاتف والتعاضد والعمل الجماعي، ويحذّرهم ممن ينقل الكلام بين الناس، كما كان يتابعهم في أداء واجباتهم وفروضهم الدينية، ويراقب مستوياتهم في طلب العلم، بل أنه كان يزورهم في مدارسهم، وقد كتب عن علاقته مع أبائه وحدث أن فاجأهم ذات مرة ودخل عليهم الفصل، فاجتمعوا كلهم حوله يقدمون له واجب الاحترام والتقدير، وقد لمح بفطنته أحد أبنائه وقد نال الحبر من ثوبه ما نال، وحاول الابن أن يخبئ ذلك عن والده “الملك” فما كان منه “رحمه الله” إلاّ أن اقترب من ابنه وضمه وقال له: هذا عطر العلم والتعلم. وقد ذكر الملك خالد -رحمه الله- أن والده كان يتابعهم في صلاة الفجر، كما ذكر بعض الباحثين أنه يعاقب من يتخلف عن أداء الصلاة بلا عذر بالحبس، كما روى الشيخ “عبدالله خياط” -رحمه الله- قصصاً وصوراً من علاقة المؤسس -طيب الله ثراه- بأبنائه، وحرصه على تعليمهم العلم الشرعي، حيث أوكل له الملك تعليم أبنائه القرآن الكريم والعلوم الدينية، كما ذكر “الزركلي” أن المؤسس -رحمه الله- نظر قبل وفاته بلحظات لولديه الأمير سعود والأمير فيصل وكانا يقفان على رأسه وأوصى كل واحد منهما بالآخر ثم نطق بالشهادة ولقي وجه ربه تعالى رحمه الله رحمة واسعة. هكذا كان الملك المؤسس مع أبنائه، وهكذا كانت وصاياه لهم، واضحة وصريحة يبدأها بالالتزام بشرع الله ثم العدل بين الناس، وعدم التضييق عليهم في حلالهم ومعاشهم، كما كانت معظم هذه الوصايا تعليمية تصب في صالح الراعي والرعية، لتدعم سبل التعاون والتكافل والسلم الاجتماعي، وتحقيق أعلى درجات الأمن والرفاهية للوطن والمواطن.