المصدر - عبدالعزيز العنزي - المدينة المنورة
لم يدر بخلدي وأنا أحثّ السير لزيارة متحف الدكتور/ محمد بن حمد بن خليص الحربي، بأنّ ناظريّ ستقعان على صور بانوراميّة غاية في الروعة،*والجمال، والإبداع، ولم أتخيّل بأني سأخوض تجربة ثريّة عبر الدخول في واحة أثرية.. تراثيّة.. تاريخية، لا حدود لجمالها.. وتكاملها.. وروعتها.
انطلقت في سيارتي منذ الصباح الباكر، كانت نسيمات الهواء الصباحية المنعشة والصور الطبيعية التي أبدعها الخالق ـ تبارك وتعالى ـ**ومشاهد الجبال الحمراء الداكنة المتعانقة بانسجام مع زرقة السماء تزيد رحلتي بهجة، وتضفي عليها ألواناً من الحيويّـة والانتعاش.
يمّـمت شطري صوب المتحف الذي يقع في ضاحية العذيب الريفية الزراعيّة الهادئة والوادعة التي تتاخم محافظة العلا من الناحية الشمالية مباشرة، إذ أصبحت مع التمدد السكاني متصلة بمحافظة العلا.
وهناك كان الدكتور محمد الحربي في انتظاري، إذ استقبلني بأريحيته المعهودة، وابتسامته**العذبة، وتواضعه الجمّ، تواضع يليق بالكبار، فهو قامة شامخة في مجالات الأدب والشعر والآثار والإدارة وعلم الاجتماع. فهو صاحب سجل مميز في المشهد الثقافي المحلي، ولديه مؤلفات تربو على 32 مؤلفاً من خلال كتبه التي توزعت في مجالات شتى، وأفانين متعددة، تنم عن حس ثقافيّ، وفنّي، وأدبي**مرهف وغنيّ حدّ الترف.
وربما لا نستغرب أن نجد ابناً من أبناء محافظة العلا بمثل هذا العشق للعنصر الأثري والتراثي، فهو نشأ وترعرع في محافظة غنية ومترفة بالآثار التي تمتد إلى عصور ما قبل الميلاد، وإلى ما قبل 8000 عام، وإلى العصور الديدانية واللحيانية والمعينية والنبطية، وإلى دهور وأقوام دونهم، وحضارات سادت وبادت لتترك أثار حضاراتها، شاهدة على علوّ كعبها ونبوغ نجمها.
واهتمامات الدكتور محمد الأثرية تتجسّد ـ بوضوح ـ**عبر عنايته الفائقة بالآثار والمحتويات القيمة التي يشتمل عليها متحفه، إذ يجد الزائر له نفسه وهي تخوض تجربة معرفية علميّة تاريخية ثرية ومميزة، وهو الأمر ذاته الذي حدث معي حين اصطحبني ودلفنا معاً إلى داخل المتحف الذي أسّسه الدكتور محمد الحربي*في مزرعته الواقعة بضاحية العذيب وأفرد له حيزاً مساحيّاً واسعاً على ربوة مرتفعة داخل المزرعة، وعمد إلى توزيع المحتويات على ثلاث صالات متناسقة وجميلة، فالملمح العام من الخارج يعكس التنظيم والدقة في عرض المحتويات الأثرية، التي تتفاوت في أحجامها وأنواعها وماهيتها وأهميتها وتصنيفها بشكل منظّم.
الصالة الرئيسة:
الزائر للمتحف سيجد الصالة الرئيسة في الجهة اليمنى مباشرة، وقد استوحى الدكتور محمد في تصميمها أن تحمل بعض الخصائص الأثرية، إذ احتوت واجهتها على مناظر مستوحاة من آثار "مدائن صالح" العملاقة، فكانت الواجهة بمثابة عنصر يشد انتباه الزائر، الذي ما إن يدخل للصالة إلا ويجد أنها تكتظّ وتحتوي على كم كبير وهائل من المحتويات الأثرية والتراثية التي تنوعت بين الأجهزة التقليدية، لاسيما تلك التي واكبت البدايات، كالراديوهات، وأجهزة السينما، والتلفزيونات،**والأدوات المنزلية، والمعدات الخاصة بالطبخ، والأواني القديمة المستعملة في إعداد وتحضير الشاي والقهوة العربية، وما يتصل بها من الدلال والأباريق التراثيّة، والمحامص، والمطاحن، وأدوات إعداد الطعام، ومستلزمات العائلة القديمة كافة، ومفروشات الغرف الداخلية، والديكورات والطاولات، والشنط والملابـس الشعبيّة، ومستلزمات العطور والبخور والزينة، وآنية تقديم الأطعمة والمشروبات، والخناجر، والسيوف، والبنادق، وأدوات الصيد في عصور متفاوتة ومختلفة، وكذلك الأدوات الخاصة بالمقاييس والمكاييل والموازين المستعملة في البيع والشراء، وأدوات الإنارة، والآلات المتنوعة، كالإسطرلاب، والبوصلة والساعات، وأدوات الكتابة والمعرفة البشريّة.
سفينة المعرفـة:
أما الصالة الوسطى فتقع أمام الزائر مباشرة، أطلق عليها الدكتور/ محمد اسم "سفينة المعرفة"، وهو يقول: إنني أطلقت هذا الاسم عليها لأنها خاصة بالمخطوطات والكتب والرسائل والوثائق النادرة التي تعد منجماً للباحثين والدارسين وعشاق المعرفة.
وبالفعل فهذه الصالة تعد سفينة معرفية، لكنها سفينة لا تجري على الماء، بل تستقر هنا في متحف الدكتور محمد الحربي، وتشتمل على مصاحف بخطوط وألوان وأحجام مختلفة، فالبعض منها كبير جداً، والبعض الآخر متناهي الصغير، وتضم هذه الصالة أيضاً مخطوطات وكتباً تراثيّة حافلة بالتنوع والثراء المعرفي، فالتواريخ التي دونت عليها تعود إلى حقب وعصور قديمة، وتتركز في جوانب كثيرة على فترات لم يتوغل فيها البحث العلمي والتاريخي.
صالة عرض كبيرة:
أما الصالة الثالثة فتقع إلى يسار الزائر للمتحف، وتشكل القسم الثالث في متحف د/ محمد، هي صالة عرض كبيرة، وتحتوي على سيارات أثرية وتراثية قديمة، بعضها يحمل موديل 1948م، وقد عرضت بشكل مميّز ومنسجم مع العناصر الجماليّة في المتحف،*ويجد الزائر لهذا القسم أنه يقدم فرصة نادرة عن صناعة السيارات وتطورها على مدى السنين.
4 قطع إلى موسوعة "غينيس":
أخبرني الدكتور محمد،*ونحن نجوب أرجاء المكان بأن أربع قطع من محتويات المتحف ستدرج**في موسوعة جينس للأرقام القياسيّة، منها: مصحف صغير سداسي الشكل، مخطوط بكامله بماء الذهب.
وكذلك ستدرج في الموسوعة مطوية من المصحف الشريف، مخطوطة ومتفردة بشكل نادر جداً.
ويضيف د/ محمد الحربي بالقول: وستنضم لموسوعة غينيس أيضا قطعة أثريّة عبارة عن قفل باب على شكل كلب، وكذلك قطعة أخرى نادرة جداً.. جداً، وهي عبارة عن خاتم مطعم بالفيروز الإيراني بحجم كبير وغير معهود.
قال لي**د/ محمد إنه مغرم بالتراث والعنصر الأثري ومتيّم به وعاشق له، وإن الطبيعة الأثرية لمحافظة العلا كرّست له الشعور بأهميّة العنصر الأثري والتاريخي، وقلت له إن هذا المتحف يجسد الحسّ الوطني لدى الشعب بمدى أهمية تراثه وتاريخه وحضارته، ويرفع وتيرة التفاعل الثقافي بين الزائرين للمتحف وبين محتوياته والمعروضات فيه.
قلت للدكتور محمد أيضاً: إن المتحف يعد من أجمل وأهم المتاحف التاريخية، فهو يعبر عن فترات مهمة من التاريخ، ويعكس صورة حية لما كانت عليه حياة إنسان الأمس ويصورها بعناية فائقة. ولا غرو إذاً أن نجد بعض المعروضات فيه وهي تأخذ طريقها نحو الموسوعات العالمية، ولا غرابة أيضاً أن ينفرد هذا المتحف عن باقي المتاحف التاريخية الأخرى بتصميمه الرائع، وترتيبه المتناسق، وغزارة وأهميّة وندرة محتوياته من جهة ثالثة.
الواقع أن هذا التنوع البانورامي، والأهميّة التاريخية للمعروضات الفلكلورية والشعبية والأثرية، هي التي تميّز متحف الدكتور/ محمد بن حمد الحربي، وتجعل منه علامة فارقة وإسهاماً مميزاً في تجربة إنشاء المتاحف الشخصية والخاصة، وقد اتضح لي بعد زيارتي لهذا المتحف حجم الجهد والوقت والتعب الذي بذله هذا الرجل، حتى أضحى هذا المتحف ماثلاً للعيان بهذا الشكل المتكامل.
بعد أن أنهينا جولتنا في صالات المتحف، وجدت نفسي بشكل لا شعوري أحتضن الدكتور محمد الذي بادلني المشاعر نفسه، فعلاً لقد احتضنته وأنا أكبر فيه عطاءاته الوطنية المشرقة، وجهده الثقافي، وطموحه الذي لم تحده السنون، وإسهاماته في مجال المعرفة الإنسانيّة، ومنها هذا الجهد الذي أسفر عن خروج هذا المتحف لحيز النور، وليكون ماثلاً للعيان، وشاهداً على إبداعات رجل أهدى للأجيال اللاحقة والتالية فرصة ذهبية لا تقدر بثمن.