المصدر - متابعة -نواف العتيبي :
ببساطة أعلنت وزارة الداخلية، يوم الإثنين الماضي، عن تحرير الدبلوماسي “عبدالله الخالدي”، نائب القنصل السعودي في عدن، الذي اختطفه تنظيم القاعدة باليمن في 28 مارس 2012م من أمام منزله في محافظة عدن اليمنية، ووصل “الخالدي” إلى محافظة شرورة، ثم انتقل إلى الرياض عبر طائرة خاصة، حيث كان في استقباله بالصالة الملكية بمطار الملك خالد الدولي صاحب السمو الملكي الأمير “محمد بن نايف بن عبدالعزيز” ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، والأمير “عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز ” نائب وزير الخارجية، وصاحب السمو الملكي الأمير “محمد بن سلمان بن عبدالعزيز” وزير الدفاع رئيس الديوان الملكي المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين.
ووفقًا لصحيفة “المدينة” رغم تلك البساطة في إعلان الخبر غير البسيط، إلا أن المراقبين والمحللين لم يمرروا هذا “الحدث” بنفس الطريقة، حيث يكفي فقط أن يلتقطوا بعض الكلمات الدلالية في التصريحات المقتضبة التي أدلى بها مصدر أمني عقب استقبال الخالدي أنها تمت من خلال عملية أمنية استخباراتية ضخمة، وكانت تحت متابعة مباشرة من وزير الداخلية، فتلك الكلمات في قاموس المحللين والقريبين من طبيعة العمل الأمني والاستخباراتي تكفي لأن تفتح كل الاحتمالات على مصاريعها، وتنسج من السيناريوهات ما يكفي لعشرات الروايات التي قد تتطابق أو تختلف مع ما دار على أرض الواقع، ولكنها في كل الاحتمالات والروايات لا تختلف أبدا في أن ما جرى هو عمل كبير لدولة كبيرة.
ثلاث سنوات إلا أيام مرت على إعلان قاعدة الضلال اختطافها للدبلوماسي “الخالدي” في اليمن، حيث بدأت في إملاء شروطها ومطالبها، وحاولت بشتى الطرق أن تثير الشكوك والشائعات وتخلط الأوراق، وسعت عبر تلك السنوات أن تمارس ابتزازها الخسيس للدولة والشعب، إلا أن أجهزة الدولة التي رفضت الابتزاز أو الرضوخ للإرهاب، كانت قد عقدت العزم على ألا تترك مواطنها في أيدي مجرمين، ولا تتركهم ينعمون بنصر زائف إذا رضخت لضغوطهم.
هي بلغة العمليات الأمنية والاستخباراتية إذًا “عملية عض أصابع”، وما كان لدولة في حجم المملكة أن تضعف تحت ضغط حفنة من الخارجين على القانون والشرائع، وعندئذ بدأ سيناريو التحرك الهادئ بعد ساعات فقط من إعلان الاختطاف.
ولكي نضع سيناريو ما دار عبر قراءة أحداث ثلاث سنوات مضت، فعلينا أن تسترجع معًا بدايات الأزمة وملابسات تلك العملية الإجرامية.
https://www.youtube.com/watch?v=jYjn3Ca6BJU
عدن – 29 يناير 2012:
كانت الشمس ماتزال تقاوم بعض الغيوم في ذلك الصباح الشتوي بمدينة عدن اليمنية، وكان حي المنصورة الشعبي القديم بدأ يشهد حركة محدودة، خاصة بعد تردي الحالة الأمنية في عدن عمومًا بعد ثورة اليمنيين على نظام علي “عبدالله صالح”، وفي هذا الحي على وجه الخصوص، الذي عرف بأنه شعبي مزدحم، وملاذ لبعض العناصر التخريبية. إلا أن نائب القنصل آنذاك عبدالله الخالدي كان قد اختار إحدى الفلل القديمة بالحي كمقر لإقامته مع أسرته، في ظل حراسة محدودة.
خرج “الخالدي” هذا الصباح كالعادة، الأحد 29 يناير من العام 2012م، مستقلًا سيارته في اتجاه عمله، إلا أنه بعد عشرات الأمتار من المنزل، وقبل أن يغادر الحي، أوقفه مسلحون تحت تهديد السلاح، وخيروه بين الاستسلام وترك سيارته، أو إجباره على ذلك، فتركها لهم وانصرفوا، لتطاردهم الشرطة فيما بعد وتستعيد السيارة بعد نحو أسبوعين.
لم تمر تلك الواقعة مرور الكرام، حيث يؤكد المحللون أنها كانت بداية الكشف عن شخصية الدبلوماسي وجنسيته ومدى حراسته الضعيف، رغم مطالبة وزارة الخارجية للدولة اليمنية آنذاك بضرورة حماية منسوبيها، إلا أن تناثر الخبر عن وجود الدبلوماسي في هذا المكان، والذي عرف ببساطته وتواضعه وخدماته للمواطنين اليمنيين أنفسهم، جعلته صيدًا ثمينًا للفئة الضالة فقررت بعد نحو شهرين فقط ليس أن تخطف سيارته هذه المرة، بل تخطفه شخصيًا.
المنصورة – 28 مارس 2012:
كانت فيلا “الخالدي” في ضحى يوم الأربعاء الموافق 28 مارس 2012 تعج بالأمن والاستخبارات والشخصيات الأمنية الكبيرة في اليمن، وعدد من الدبلوماسيين السعوديين هناك.. وأمام الفيلا، كانت سيارة “الخالدي” مفتوحة الأبواب ومبعثرة، وكأن معركة دارت بداخلها، وعلى بعد خطوات من السيارة وجدت نظارته ملقاة على الأرض، وعليها العديد من البصمات، بما يؤكد أن هناك اشتباكًا قد دار بين القنصل والخاطفين.. خبراء البحث الجنائي يجوبون المكان ويتعاملون مع كل الأشياء بحذر، بينما يتساءل آخرون ويضعون الاحتمالات؛ فهل تكررت بحقه عملية إجرامية أخرى؟ وهل هي جريمة جنائية أم سياسية أم أمنية؟ وهل تم اختطافه فعليا أم سيظهر بعد أيام؟
تساؤلات تتزاحم، وإجابات تتلاشى وراء غياب المعلومات واهتراء الأجهزة الأمنية باليمن في ذلك الوقت، أما الفئة الضالة فلزمت الصمت إلى تلك الساعة، ولم تعلن أي جهة عن فعلتها بعد. إلا أن جهة وحيدة لم يتوقف فعلها أو نشاطها لحظة واحدة منذ تبلغها بالحادثة، وهي الدولة السعودية بولاة أمرها وأجهزتها ومؤسساتها المختلفة.. فالجميع لا يتوقف عن العمل لكشف غموض الحادث ومعرفة مصير الخالدي، وإعادته سالما.
مرت أسابيع على هذا الحال، قبل أن تعلن قاعدة الضلال مسؤوليتها عن اختطاف القنصل، وهي الفترة التي قال عنها الخبراء الأمنيين آنذاك أنها كانت لضمان نقله عبر الجبال من عدن إلى لحج، ومن لحج إلى أبين، وقد عمدوا خلال تلك الفترة إلى إثارة الشائعات والشكوك عبر وسائل مختلفة، من أجل التعمية والتضليل والتشويش على الأجهزة الأمنية في المملكة وفي اليمن.
صنعاء – 17 أريل 2012:
كانت الاتصالات والتحركات تدور على قدم وساق، ولم يتوقف هاتف السفير “علي الحمدان”، سفير المملكة في صنعاء آنذاك، عن العمل سواء اتصالًا أو استقبالًا لمكالمات عديدة، أغلبها يتعلق بقضية اختفاء نائب القنصل “عبدالله الخالدي”، والذي لم يكن قد عُرف مصيره حتى تلك اللحظة.. إلا أن بعض هذه المكالمات لم تكن كغيرها، فالطرف الآخر كان الإرهابي مشعل الشدوخي، أحد المطلوبين للجهات الأمنية السعودية، والذي أعلن عن اسمه ضمن قائمة الـ”85″ في الثاني من فبراير 2009م، ودارت تلك المكالمات حول الخالدي وشروط قاعدة الضلال لإطلاق سراحه، وقد أعلنت وزارة الداخلية آنذاك عن بعض ما دار فيها من شروط وابتزاز وتهديد وتفاوض؛ حيث حذر من أن جماعته “تجهز السكين” اذا لم تنفذ مطالبها، وطالب بدفع فدية يتم تحديدها لاحقًا، والإفراج عن إرهابيين ومسجونين حدد بعضهم، وهدد أيضًا بشن مزيد من الهجمات بما في ذلك تفجير سفارة أو اغتيال شخصيات عامة.
فيما استمع السفير إلى المطالب، مؤكدًا على ضرورة الاطمئنان أولا على سلامة “الخالدي”، ورغم تأكيدات هذا الإرهابي على سلامته، إلا أن اللواء م”نصور التركي”، المتحدث الأمني لوزارة الداخلية صرح قائلًا: “إن الخطوة الأهم التي يجب أن تتم هي مسألة التحقق من كون الدبلوماسي المختطف موجودًا بالفعل لدى عناصر التنظيم باليمن أم لا، وأن عبدالله الخالدي لم يمس بسوء مع الحفاظ على استمرار سلامته”، مؤكدا على المواقف الثابتة للمملكة في رفض وإدانة مثل هذه الأعمال الإرهابية بكل أشكالها وصورها والتي ينكرها الشرع الحنيف وتأباها الشيم العربية، واصفًا إياها بأنها ضرب من ضروب الفساد في الأرض، وحمّل من يقف وراء هذا العمل الإجرامي كامل المسؤولية عن سلامة “الخالدي”، وطالبهم بالرجوع عن غيهم والمبادرة بإخلاء سبيله.
عمل متواصل وهدف محدد:
لم يكن إعلان قاعدة الضلال الإرهابية عن اختطاف “الخالدي” هو نهاية المطاف فيما تبذله أجهزة الدولة للوصول إلى معلومات حول مكان وجوده والعمل على تحريره، بل كان تلك اللحظة هي شرارة إنطلاق أقوى ونحو هدف واضح ومحدد، بذلت في سبيله كل الجهد والإصرار، واستخدمت كل إمكاناتها ووسائلها حتى تصل إلى ما يصيب الهدف في تلك المعركة السرية.
توالت التسجيلات والرسائل التي أجبر “الخالدي” على الرضوخ لتقديمها، كنوع من الضغط واستمرار معركة “عض الأصابع”، إلا أن أغلب تلك التسجيلات الخمسة اتضح منها ما يعانيه “الخالدي” من ضغوط وتهديد واضطرار، وهو ما عبر عنه مؤخرًا بأنها كانت حياة لا إنسانية، إلا أن أجهزة الاستخبارات في المملكة ومن ورائها المسؤولين كانوا يدركون أن ما يقوله “الخالدي” مجرد رسائل من الإرهابيين يجبروه على أدائها، وهم في طريقهم ماضون لإنقاذ حياة مواطنهم من براثن هؤلاء المجرمين.
فقد استطاعت المملكة خلال تلك الفترة على الصعيد الأمني أن تنجح وبامتياز في تحجيم الحركات المتطرفة من خلال عمليات استباقية وليس من ناحية الحرب الميدانية فقط بل حتى من خلال الحرب المعلوماتية، حيث استطاعت السلطات الأمنية أن تنجح وتخترق القاعدة وتصل إلى رموزها وتقبض على بعضهم وتقتل البعض الآخر، وبالتالي عملت على تجفيف منابعهم البشرية والموارد المالية وضيقت عليهم، وحققت المملكة خلال هذه السنوات الأخيرة نجاحات كبيرة في هذا الصدد، كان من ثمرتها النجاح في إطلاق سراح “الخالدي”، الذي لم يكشف الستار بعد عن تفاصيل استعادته، رغم علم الجميع أنها عملية كبرى، وجهت صفعة مدوية لهذا التنظيم الضال.
2 مارس مفاجأة العودة:
مرت ثلاثة أعوام من العمل السري الدؤوب، حتى جاء يوم التتويج. صباح الاثنين 2 مارس الجاري، كان رجال الاستخبارات السعودية قد خلصوا أخاهم وأمنوه ونقلوه إلى منفذ الوديعة الحدودي بمحافظة شرورة، حيث عبر الخالدي ليجد نفسه بين أهله وأقاربه بعد ثلاث سنوات من الغياب، ثم انتقل إلى الطيار على متن طائرة خاصة، ليفاجأ بدخوله من الصالة الملكية بمطار الرياض، وفي مقابلته صاحب السمو الملكي الأمير “محمد بن نايف بن عبدالعزيز ” ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، والأمير “عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز” نائب وزير الخارجية، وصاحب السمو الملكي الأمير “محمد بن سلمان بن عبدالعزيز” وزير الدفاع رئيس الديوان الملكي المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، ثم تشرف بالسلام على خادم الحرمين الشريفين، وتسلمه وسامًا رفيعًا، وسط حفاوة كبيرة من قادة الوطن وأبنائه، ليطوي صفحات من المعاناة سطرها عبر السنوات الثلاثة، والتي استطاعت فيها أجهزة الاستخبارات والأجهزة الأمنية أن تسطر أيضًا صفحات من البطولة سوف يكشف المستقبل عن الكثير من ملامحها وملاحمها الوطنية.
*
/n