المصدر - كتابة وتصوير : حمود أبو ماجد*
نسمة بحرية عابرة* داعبت أغصان شجرة النيم المعمرة أمام بيت نصيف الأثري في جدة التاريخية ، حملت معها ذكريات معطرة بالشجن تطوف في الطرقات مثل الفراشات المضيئة . كان الحنين يقود خطواتنا* في نزهة عبر الزمن مع* مرشدنا الدكتور محمود صعيدي الذي مضى بنا* منعطفا يمينا في شارع جانبي أمتار قليلة حتى* وصلنا إلى مدخل متحف “مقعد جدة ” المشهور بإطلالته البانورامية على برحة نصيف ، المتحف الذي أكمل عامه الأول* إستقبل حتى الآن أكثر من مائة ألف زائر ، وأصبح مقصدا سياحيا رائعا لإكتشاف جماليات التراث الحجازي .
ذاكرة مدينة تقاوم النسيان
تكتشف* مدى الشغف الجارف بالماضي الجميل، ومعنى الإنتماء الأصيل لدي الجداويين بمجرد تجاوزك عتبات الباب الزجاجي للمتحف ، تبهرك العناية بالتفاصيل في التصميم وترتيب المقتنيات ، وروعة عشرات الصور النادرة لحواري جدة ومبانيها ورواشينها وحوانيتها التي تزين جداران المتحف، كذلك تخطف بصرك الإضاءة المشعة من مصباح القمرية ، وتقف متأملاً بلوراته الملونة المتوهجة ، والكتب الفريدة المستريحة على رفوفها ، وصفحات وثائقية من جرائد ومجلات غابرة ، تتجول بفرح غامر، وتتذكر المثل السائر : هناك من يبحث عن الأماكن الجميلة ، وهناك من يصنع مكانا جميلا ، “Some people look for a beautiful places, others make a place beautiful” .
يرحب إبن الحارة الجداوية الدكتور محمود صعيدي بضيوف المتحف بحفاوة آسرة ، ويستقر جالساً على أريكة حمراء عتيقة ،* ويستند على ذاكرة حديدية عند إجابة أسئلة الزوار مع إبتسامة أنيقة ، ويسرد في شغف عميق ذكريات الصور القديمة المعلقة ، ويمضي في حديثه مسترسلا ،* يروي أسرار البحر العاشق والمدينة الحورية* التي سميت* بالعروس بين مدائن البحر الأحمر المتعددة.
يوضح الدكتور صعيدي أن* الغرض من تأسيس المتحف بناء جسور التواصل مع الإرث التاريخي للثقافة المحلية ، وإستعادة روابط الإلفة والمودة في حياة* الشباب والفتيات من الجيل الجديد مع هوية المكان الجداوي تحديدا ، والمتحف يعتبر أولى مشاريع المركز الوطني للأبحاث والتوثيق ”توثيق”* الذي ساهم في تأسيسه مع أصدقائه الأساتذة منصور الزامل، مازن السقاف،* محمد السنوسي، طلال الخوتاني.
يفسر الدكتور محمود سبب تسمية المتحف بمقعد جدة : لأن هذا النموذج كان موجودا في البيوت الحجازية بشكل عام ، ويمثل المقعد الواجهة الرئيسية للمنزل عند المدخل ،* ويقع غالباً في الدور الأرضي من البيت، ويكون له روشان يطل على الشارع ، وربما يكون له واجهة رئيسية وآخرى جانبية ، و يستضيف كبير العائلة الأقارب والأصدقاء لقضاء وقت ممتع* ، وتدوال* أحاديث السمر وحكايات الحارة ، والإستماع إلى المذياع ، بينما الشباب لهم تجمعاتهم وقت العصرية على كراسي مرتفعة عن الأرض أمام البيوت ، تسمى مراكيز ، ومفردها مركاز .
إشتهر في حارة الشام مقعد الشيخ محمد الطويل ، ومقعد عائلتي سرتي وهزازي ، وبالنسبة لحارة اليمن هناك مقعد عبدالله نصيف وأخوه عبدالرحمن ، ومقعد حمزة فتيحي ، شاكر باحجري ، بيت الكيال ، بيت سلام ، والإخوان متبولي ، وسليمان أبو صفية ، ومحمد علي أشرم . أما حارة البحر كان فيها مقعد سليمان أبو داواد ، ومقعد عائلة خميس ،* وبيت بكر وشربتلي وبيت التركي ، ومقعد موسى بخاري .
ويضيف الدكتور محمود صعيدي” كان هدفنا إحياء هذا التقليد العريق ، وحاولنا أن يكون المتحف نسخة مطابقة للمقعد القديم من جميع النواحي، وقدمنا للجمهور فرصة الإطلاع على وثائق نفيسة* ، وقصاصات من صحف قديمة تحكي أخبار جدة داخل السور قبل هدمه عام 1947م” .
يصحب الدكتور محمود ضيوف المقعد في جولة تفاعلية ، يشير إلى الكراسي الخشبية “الكرويت” المزدانة بقماش من القطيفة الحمراء ، ويعلو المساند غطاء أبيض مخرم يدعى “التل” ، وفي المنتصف توجد “النصبة ” ،وهي* طاولة بيضاوية الشكل توضع عليها الدلال والأباريق والكاسات ، و “السماور” الذي يستخدم لغلي الماء ، وإلى جانبه وعاء صغير يسمى* “بنت المنقل”* يحتوي على الجمر لتسخين براد الشاهي أو تهيئة الأرجيلة* ، إضافة إلى “الكولندي” ، وهذا الإسم يطلق على الآنية النحاسية والمزهريات وأوعية الشراب .
ليالي جدة الساحرة
كانت الفوانيس تستعمل في إنارة شوارع جدة قديما، وبدأ إستخدام الأتاريك الغازية قبل مائة تقريبا ، بعد ذلك جاءت مرحلة مولدات الكهرباء الخاصة التي إستعملت أول مرة في إضاءة* شارع قابل عام 1343هـ* ، جلبها الشيخ سليمان قابل ، وحصل أصحاب الدكاكين ناحية باب مكة حتى قهوة بشيبش على سلك في نهايته لمبة واحدة من مولد كهرباء العم صالح باغفار، وتولى مولد كهرباء* العم عبدالوهاب الساعاتي تزويد المحلات في سوق الجامع وحارة المظلوم بالطاقة الكهربية. وإستخدم “الإتريك الجلاسي” في معظم مساكن جدة حتى بدأت الشركة السعودية للقوى الكهربائية (بكتل) نهاية السبعينات الهجرية في إنتاج الكهرباء ، وتوصيلها لبيوت جدة .
يستمر الدكتور محمود في سرد ذكرياته بروحه المرحة قائلا: كان الأهالي يضعون “زير الفخار” على المرفعة عاليا لتبريد المياه ، وكانت السوبيا التي تصنع من الشعير والعيش الناشف توضع في “السلطانية” لمدة يومين مع إضافة السكر والهيل والقرفة ، ويقدم مشروبا فاخرا لضيوف المقعد ، كان مذاقها لذيذا للغاية ، ليس مثل السوبيا الموجودة هذه الأيام ، مجرد ماء وسكر. ومن أشهر صانعيها ذلك الوقت العم سالمين باقلاقل ، والعم كرامة ، والعم حنبيشي في باب شريف. ومازال من أصول الضيافة في البيوت الجداوية تقديم* المرطبات والحلويات مثل: اللدو ، والمفروكة التي تصنع من الهريسة والطحينية ، وحلوى المهجمية التي تشبه الحلقوم مع إضافة الهيل للنكهة ، والألماسية (عيدان من النشأ تغمس في السكر) ، والسوقدانا مع الحليب والزعفران ، ولا يمكن أنسى رائحة الجوافة الطازجة التي كنا نحضرها من فناء منزل أحد الأغنياء ، كنت تشم رائحتها* من مكان بعيد ، كانت الرائحة زكية ، والنفوس نقية ، والبركة موجودة وحاضرة”.
يصف الدكتور صعيدي المقعد بالجلسة الحميمية التي تختلف عن الجلوس في المقاهي التي كانت تعتبر منتديات أدبية ، وتجمعات عمالية ، وملتقيات رياضية إجتماعية ، ويتابع حديثه الشيق ” أتذكر أنني شاهدت بعيني الشاعر الكبير محمد حسن عواد يشارك أبناء الحارة جلساتهم وأحاديثهم ، وكان رواد المقاهي يقضون أمسياتهم في الإستماع إلى الحكواتي الذي يقص عليهم السير والملاحم الشعبية للزير سالم وأبو زيد الهلالي ومغامرات عنترة بن شداد ، وربما تجد في زوايا المقهى من يلعب الكيرم أو طاولة الزهر”.
ومن المقاهي الشهيرة في جدة القديمة:قهوة الجمالة –* قهوة الزبيدي –* قهوة محمد يماني* –* قهوة أبونصير–* قهوة سعيد حاتم–* قهوة صديق اليماني–* قهوة علي رمضان–* قهوة الدكة–* قهوة الفتاق – قهوة الفتيني–* قهوة عبدالمجيد كردي– قهوة أحمد سنبل– قهوة علي زكي– قهوة النورية– قهوة صالح أبو داوود– قهوة الكحيلي– قهوة صالح الهلالي– قهوة وهيب قرملي– قهوة العيدروس.
أغنيات الشوق وذكريات الإذاعة
يتناول العم محمود مذياعا قديما ثقيل الحجم من نوع الزانيت (ماركة روسية) ، موضحا طريقة عمله ، إذ يعمل على بطارية سائلة ، يشحنها بقيمة ريال واحد أسبوعيا من ماطور عائلة باخشوين. ويذكر أن إنطلاقة البث الإذاعي في المملكة عبر محطة إذاعة جدة يوم التاسع من شهر ذي الحجة عام 1368هـ الموافق الأول من شهر أكتوبر عام 1949م، عندما* نقلت على الأثير مباشرة كلمة الأمير فيصل بن عبدالعزيز إلى حجاج بيت الله الحرام . كان البث مقتصرا على التلاوات القرآنية والأناشيد في بداية الأمر ، وسنحت الفرصة له للعمل متعاونا مع الإذاعة السعودية عندما كان مبناها على طريق المطار القديم مطلع الستينات الميلادية، والتعرف على مذيعيها الأوائل الذين قاموا بدور تنويري وتعليمي في إعداد برامجها وتأهيل العاملين في محطة الإذاعة ،” كانت المكأفاة لا تتجاوز 20 ريالا ، لكنني كنت سعيد بالعمل مع جيل العمالقة ،* وزير الإعلام السابق جميل الحجيلان متعه الله بالصحة والعافية ، والسفير المرحوم عباس غزواي ، وبابا طاهر زمخشري ، والمذيع الكبير بكر يونس ، والشاعر مطلق الذيابي* ، والمذيع المخضرم محمد حيدر مشيخ ، والدكتور محمد الصبيحي.
كنا نتابع برامج الإذاعة المميزة مثل : برنامج “كلمة ونصف ” للأديب الموسوعي محمد حسين زيدان في حديثه العميق عن السيرة النبوية، و حديث الجمعة للسيد علوي المالكي والشيخ إبراهيم فطاني ، و مسلسل “السمسمية” الذي كان يعده مشقاص حسن دردير ورفيق دربه لطفي زيني ، وبرنامج “في الطريق” الذي كان يقدمه المذيع القدير عبدالله راجح* الذي ألهم الشاعر أحمد صادق كتابة كلمات أغنية معبرة ،* لحنها عمر كدرس وغناها الفنان طلال مداح رحمهم الله جميعا :
في الطريق مرة قابلني / راح مسلم من بعيد
قلت وقف عندي كلمة / سلوى للقلب الشهيد
في الطريق والقلب هايم / مر ما قال لي سلام
يا حبيبي كم أعاتبك / بس خايف من الملام
لو تحن بس يوم عليا / كان تنور لي الظلام
وفي تلك الحقبة تأسست شركة توزيعات الشرق لصاحبها عبدالله حبيب ، وكان مكتبها في عمارة شربتلي ، وبدأت في إنتاج الإسطوانات الموسيقية للفنان الصاعد تلك الأيام محمد عبده ، وتخصصت شركة الإخاء الفنية لصاحبها فتحي أبو الجدايل في تنفيذ المسلسلات الإذاعية ، وتشارك حسن دردير وزميله لطفي زيني في إنشاء تسجيلات “عش البلبل” التي تغير إسمها بعد ذلك إلى “رياض فون” ، و تخصصت* في تسجيل أغنيات الفنان الراحل طلال مداح .ولا بد من الإشارة إلى إسم المتحف الكامل “متحف مقعد جدة وأيامنا الحلوة” ، وإضافة “أيامنا الحلوة” جاء إختيارها مستلهما من أغنية الفنان فوزي محسون رحمه الله ، “نسيتنا وإحنا في جدة ، نسيتنا ونسيت أيامنا الحلوة ” ، ولعل الهدف الأساسي من تأسيس المتحف كان رغبتنا في تدوين الذاكرة الجداوية في مواجهة الإهمال والنسيان.
ويختم العم محمود حديثه أن جلسات المقعد كانت تزدان بتبادل الكتب التي يقتنيها عشاق المعرفة من مكتبة محمد على أصفهاني في سوق الندى بحارة الشام ، والمجلات المستوردة من مكتبة أسعد الحبال في باب شريف ، ومكتبة الخازندار عند باب المغاربة ، ومكتبة باريان أمام مسجد عكاش ، وكانت متابعته المستمرة لصحيفة البلاد التي كانت تباع ب3 قروش حافزا للعمل في الصحافة ، وزيارة مكتب الصحيفة في عمارة باخشب ، ومقابلة رئيس تحريرها عبدالمجيد شبكشي ونائبه عبدالغني قستي ، وبعدها بدأ مشواره الصحفي الذي ساعده على مواصلة دراسته في جامعة الملك عبدالعزيز ، والحصول على بعثة جامعية ، ونيل شهادة الماجستير والدكتوراة والإنضمام إلى شركة الخطوط السعودية بعد عودته من الولايات المتحدة الامريكية.
أسرار المتحف وصندوق العجائب
أثناء تواجدنا في المتحف شهدنا إستضافة الدكتورة إليس كاندل والسيد جون ميلر من متحف Smithsonian الموجود في العاصمة واشنطن ، وكان في إستقبالهم* الأستاذ منصور الزامل الذي أطلعهم على المعروضات القيمة التي إجتهد الأعضاء المؤسسين سنوات طويلة في الحصول عليها وصيانتها* بإعتبارها* شواهد تاريخية على العمق الحضاري لمدينة جدة ،* تشمل أصولا من مخطوطات ومراسلات وسجلات وصورا فوتوغرافية ، وطوابع بريدية ، والأدوات المستعملة في الصناعات الحرفية ، والعملات الورقية ، وصندوقا عجيبا يحتضن حلي الزينة ومسكوكات فضية ، ولوحات تشكيلية ، وأبواب مزخرفة مازالت تحتفظ بحلقتها المعدنية الدائرية ، وأطباقاً نحاسية ، ودوارق زجاجية ، وتلفونات أبو هندل ، وجهاز الجرامافون لتشغيل الإسطوانات الموسيقية قبل إختراع شريط الكاسيت أو الكارترديج* ، ومصحفا قرآنيا ثمينا من العصر الوسيط.
وأشار الزامل إلى أن المتحف مؤسسة ثقافية غير ربحية، والغاية الأسمى التي يسعون إليها إتاحة* الفرصة للباحثين والمهتمين بالتاريخ والتراث ، والجمهور بشكل عام ، للحوار والتفاعل مع آثار أسلافنا* ودراسة عناصر المعمارو الفلكور والإزياء والحكايات الشعبية، ويمنح المتحف روداه تجربة متكاملة في التعايش مع أجواء الماضي ومعالمه الرمزية ، والتعرف على القطع الأثرية عبر قراءة* البطاقات التعريفية ، مع الحرص على إعتماد معايير رفيعة في الصناعة المتحفية من خلال طباعة الإصدارات والعلاقات العامة والتسويق ، وإستقبال وفود من جامعات عالمية ومدارس أجنبية .
حكايات السقا أيام زمان
جذب المتحف أهالي جدة وزوارها ، وجمعتنا المصادفة السعيدة بالعم محمد عبده صالح الذي عمل في مهنة السقاية قبل خمسين عاما متنقلا بين حارات جدة القديمة مستعيدا* ذكرياته عندما كان يقصد بازان المعمار مكان توزيع المياه* لتعبئة صفيحتين من التنك “الزفة”* متصلة مع بعضها بواسطة قصبة من الخشب “البومبة” حتى يستطيع حملها على كتفيه ، والتوجه إلى المنازل سيرا على الأقدام ،* وتوصيلها* مقابل قرشين ، وريال واحد مقابل خمسة مشاوير، وأحيانا كان يصعد إلى الأدوار العلوية من أجل هذه المهمة الشاقة .
وكان السقا يعمل من صلاة الفجر حتى صلاة العشاء ، ويعتمد تحديد الأجر حسب المسافة من البازان إلى المنزل ،* ويوجد لكل بازان رئيس ينظم صفوف السقايين ، وأشتهر منها : بازان حارة اليمن ، وبازان حارة المظلوم وبازان الكندرة والعيدروس والسبيل ، وكانت المياه العذبة تأتي من عيون وادي فاطمة التي سميت بالعزيزية نسبة إلى الملك عبدالعزيز رحمه الله الذي أمر بإنشاء شبكة لتوصيل هذه المياه عام 1365هـ .
يقول العم محمد : كنا نستريح حتى يصلنا الدور في البازان ، وربما سمعت أحدهم منشدا* أغنية البحارين الذي نراهم قادمين من المعادي جهة البحر :
والله الحبيب لما هجرني / خلا للعاذل كلام
وأنا قلت له ياحلو واصل / قال لي ذوق نار الغرام
وأنا كل ما نامت عيوني / يحسبوا العاشق ينام
والعاشق مغرم صبابة / ما على العاشق ملام
ولك زمان يا حلو غايب / عن عيوني يا سلام
أخذوك الصحبة مني / وحرموا عيني المنام