

المصدر - رويترز كانت رائحة الموت التي لا تخطئها الأنوف تعبق الأجواء على طول الطريق الصحراوي السوري أربع ليال أسبوعيا على مدار عامين تقريبا.. إنها رائحة عشرات الآلاف من الجثث التي تنقلها شاحنات من مقبرة جماعية إلى أخرى في موقع سري.
كان ممنوع على السائقين مغادرة سياراتهم بينما أقسم الميكانيكيون ومشغلو الجرافات على التزام الصمت، فقد كانوا يعلمون جيدا أنهم سيدفعون حياتهم ثمنا للتحدث علنا. كانت أوامر "عملية نقل الأتربة" شفهية فقط وأشرف عليها ضابط سوري برتية عقيد، قضى ما يقرب من عقد من الزمن في دفن قتلى الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
صدرت أوامر نقل الجثث من القصر الرئاسي. وأدار العقيد، المعروف باسم "أستاذ التطهير"، العملية من 2019 حتى 2021.
كانت المقبرة الأولى، في بلدة القطيفة بريف دمشق، تضم خنادق مليئة برفات أشخاص ماتوا في السجن أو أثناء الاستجواب أو خلال القتال. وكشف نشطاء مدافعون عن حقوق الإنسان عن وجود تلك المقبرة الجماعية خلال سنوات الحرب الأهلية، وكانت تعتبر لفترة طويلة واحدة من أكبر المقابر الجماعية في سوريا.
لكن تحقيقا أجرته رويترز خلص إلى أن حكومة الأسد قامت سرا بالحفر في موقع القطيفة ونقلت آلاف الجثث بالشاحنات إلى موقع جديد في منشأة عسكرية تبعد أكثر من ساعة في صحراء الضمير.
وفي تقرير حصري نُشر يوم الثلاثاء، كشفت رويترز عن مخطط إعادة الدفن السري ووجود المقبرة الجماعية الثانية. ويمكن لرويترز الآن أن تكشف، بتفاصيل دقيقة، كيف نفذ المسؤولون هذه المؤامرة وأبقوها طي الكتمان لمدة ست سنوات.
تحدثت رويترز إلى 13 شخصا على دراية مباشرة بالجهود التي استمرت عامين لنقل الجثث، وحللت أكثر من 500 صورة من صور الأقمار الصناعية للمقبرتين الجماعيتين التُقطت على مدى أكثر من عقد، والتي لم تُظهر فقط إنشاء مقبرة القطيفة، ولكن أيضا كيف توسع الموقع السري، مع إعادة فتح خنادق الدفن وحفرها، حتى غطى مساحة شاسعة من الصحراء.
استخدمت رويترز التصوير الجوي بالطائرات المسيرة للتأكد من نقل الجثث. وبإشراف خبراء في الجيولوجيا الجنائية، التقطت رويترز أيضا آلاف الصور بطائرات مسيرة وعلى الأرض للموقعين بهدف إنشاء صور مركبة عالية الدقة. وفي صحراء الضمير، أظهرت رحلات الطائرات المسيرة أن التربة غير المستوية حول خنادق الدفن كانت أكثر احمرارا وقتامة من المناطق المجاورة المستوية، وهو نوع التغيير المتوقع إذا أضيفت تربة القطيفة إلى تربة صحراء الضمير، وفقا لما ذكره بنجامين روك ولورنا داوسون الخبيران الجيولوجيان اللذان قدما المشورة لرويترز.
تنتشر المقابر الجماعية في أنحاء سوريا، لكن الموقع السري الذي اكتشفته رويترز يعد من بين أكبر المواقع المعروفة. ومع ما لا يقل عن 34 خندقا يبلغ طولها الإجمالي كيلومترين، تعد المقبرة الواقعة بالقرب من بلدة الضمير الصحراوية من بين أوسع المقابر التي تم حفرها خلال الحرب الأهلية التي مزقت البلاد.
وتشير روايات الشهود وأبعاد الموقع الجديد إلى احتمال دفن عشرات الآلاف هناك.
وقررت رويترز عدم الكشف عن الموقع لحمايته من التلاعب.
وبعد نشر التقرير الأول لرويترز، قالت الهيئة الوطنية للمفقودين التابعة للحكومة إنها تواصلت مع وزارة الداخلية لحماية الموقع وفق الآليات المتبعة لديهم. وأوضحت اللجنة لرويترز أن نقل الجثث بشكل عشوائي إلى موقع الضمير سيجعل عملية تحديد هوية الضحايا أكثر تعقيدا.
وقالت اللجنة "ما تكشف عنه عمليات نقل التربة الأخيرة لا يقتصر على بعد سيادي أو لوجستي، فلكل أسرة مفقود معاناة خاصة تتشابك مع تعقيدات علمية قد تحول مهمة التعرّف إلى مشروع تقني طويل ومكلف".
وفقا لشهود شاركوا في العملية، كانت ست إلى ثماني شاحنات مليئة بالتراب والبقايا البشرية والديدان تتوجه إلى موقع الضمير الصحراوي أربع ليال تقريبا كل أسبوع. وبحسب شهود، بما في ذلك سائقا شاحنتين وثلاثة فنيين لإصلاح السيارات وسائق جرافة وضابط سابق من الحرس الجمهوري التابع للأسد شارك منذ الأيام الأولى في عملية نقل الجثث، التصقت الرائحة الكريهة بملابس وشعر جميع المشاركين.
وقال الضابط السابق بالحرس الجمهوري إن فكرة نقل آلاف الجثث بدأت في أواخر 2018، عندما اقترب الأسد من تحقيق النصر في الحرب الأهلية السورية. وأضاف أن الأسد كان يأمل في استعادة الاعتراف الدولي بعد تهميش لسنوات جراء العقوبات والاتهامات بارتكاب فظائع.
في ذلك الوقت، كان الأسد متهما بالفعل باحتجاز آلاف السوريين لكن لم تتمكن أي من الجماعات السورية المستقلة أو المنظمات الدولية من الوصول إلى السجون أو المقابر الجماعية.
وقال الضابط إنه في اجتماع عام 2018 مع المخابرات الروسية، تلقى الأسد تطمينات بأن الحلفاء يعملون بدأب لإنهاء عزلته. ونصحه الروس بإخفاء أدلة على انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان. وأضاف الضابط "خصوصا الاعتقالات والمقابر الجماعية والهجمات الكيماوية".
وقال سائقا الشاحنتين والضابط لرويترز إنهم أُبلغوا بأن الهدف هو تطهير مقبرة القطيفة الجماعية وإخفاء أدلة على عمليات القتل الجماعي.
ظهر أول خندق في القطيفة في صور الأقمار الصناعية عام 2012. وكشف ناشط سوري في مجال حقوق الإنسان موقع القطيفة من خلال تسريب صور لوسائل إعلام محلية عام 2014 تظهر وجود المقبرة وموقعها على مشارف دمشق، واتهم الأسد باستخدام الموقع لإخفاء العدد الهائل للقتلى في عهده. وتحدد موقعه بدقة بعد بضع سنوات من خلال شهادات في المحاكم وتقارير إعلامية أخرى. لكن بحلول الوقت الذي سقط فيه الأسد، كانت جميع الخنادق الستة عشر التي وثقتها رويترز قد تم إفراغها.
ورفضت أجهزة الاستخبارات الخارجية الروسية التعقيب، ولم يستجب المستشار القانوني للأسد لطلبات التعليق على نتائج رويترز.
ووفقا لمنظمات حقوقية سورية اختفى ما يربو على 160 ألف شخص على يد جهاز الأمن الضخم التابع للأسد ، ويُعتقد أنهم مدفونون في عشرات المقابر الجماعية التي أمر بحفرها. وقدّرت الحكومة عدد المفقودين منذ بدء حكم عائلة الأسد عام 1970 بما يصل إلى 300 ألف شخص. ويمكن أن تساعد عمليات التنقيب المنظمة وتحليل الحمض النووي في الكشف عما تعرض له هؤلاء، وقد تسهم هذه الجهود في تضميد أحد الجراح الغائرة في تاريخ سوريا.
لكن نظرا لقلة الموارد لا تحظى حتى المقابر الجماعية المعروفة بالحماية ولا يتم التنقيب فيها. كما أن القادة الجدد للبلاد، الذين أطاحوا بالأسد في ديسمبر ، لم ينشروا أي وثائق تتعلق بهذه المقابر، رغم المناشدات المتكررة من عائلات المفقودين.
وقالت الهيئة الوطنية للمفقودين إن ذلك يرجع إلى اختفاء العديد من السجلات أو إتلافها، وإن الفجوات في البيانات هائلة حتى بالنسبة للمواقع المعروفة مثل القطيفة. وقالوا إن هناك خططا لإنشاء بنك للحمض النووي ومنصة رقمية مركزية لعائلات المفقودين، لكنهم أشاروا إلى عدم وجود عدد كاف من المتخصصين في الطب الشرعي واختبارات الحمض النووي.
اطلعت رويترز على شهادات في المحاكم وعشرات الوثائق الموقعة التي تظهر التسلسل القيادي من أسرّة الموتى في السجون إلى المشارح. حملت العديد من هذه الوثائق الختم الرسمي لنفس العقيد الذي أشرف على موقعي الدفن الجماعيين: العقيد مازن إسمندر.
جميع من قابلتهم رويترز وكانوا مشاركين في نقل الجثث، تذكروا ليالي عملوا فيها تحت إمرة إسمندر.
وصف أحمد غزال، وهو ميكانيكي، الإصلاحات الليلية طوال تلك الفترة وكيف أمره الجنود بإخلاء ورشته كي يتسنى إصلاح الشاحنات بسرعة وبعيدا عن الأنظار. وقال غزال لرويترز إنه لم يصدق تفسيرهم الأولي بأن رائحة العفن جاءت من مواد كيميائية وأدوية منتهية الصلاحية.
رأى غزال الجثث لأول مرة عندما قفز داخل صندوق الشاحنة أثناء إصلاحها. وبعد أن سقطت يد بشرية متحللة على أحد مساعديه، قال غزال إن الفضول غلبه فاقترب من أحد السائقين العسكريين ليسأله من أين جاءت الجثث. وأخبره ذلك السائق أنها من القطيفة، وأن الأوامر صدرت لنقلها قبل أن تتمكن سوريا من فتح أبوابها أمام التدقيق الدولي.
ووصف غزال، الذي قاد رويترز إلى موقع الضمير، الأحداث التي شهدها هناك بصوت أجش لا يخلو من الحذر. لكنه قال إنه لم يتحدث علنا عن الأمر في ذلك الوقت.
وأضاف "لو تتكلم معناته موت وبتحّصل الناس المدفونة هون وبيحصل اللي حصل لهم".
وتحدثت رويترز إلى السائق أيضا، الذي تذكر حديثه مع غزال، وقال إن العقيد إسمندر حذرهم من أنهم سيدفعون الثمن إذا تحدث أي شخص عما رأوه.
ورفض إسمندر التعليق على نتائج رويترز عندما تم الاتصال به عبر وسطاء.
وقال السائق "لو كان بيدي ما كنت اشتغلت هادي الشغلانة، أنا عبد المأمور، عبد الأوامر.. شعور خوف وريحة كريهة وإحساس بالذنب".
وذكر أنه عندما كان يعود لمنزله مع شروق الشمس، كان يحاول التخلص من الروائح "بالاستحمام وأحاول انسا الروائح بالعطر أو بأي شي".
* "أستاذ التطهير"
مع تحول الاحتجاجات على حكم الأسد إلى حرب أهلية في عام 2012، كانت القطيفة، الواقعة على مشارف دمشق، واحدة من الأماكن القليلة الخاضعة لسيطرة مُحكمة من جانب الحكومة. وقال أنور حاج خليل، الرئيس السابق لمجلس المدينة، إن الناس كانوا ينقلون إلى موقع عسكري هناك الجثث التي عثروا عليها خلال الأيام الأولى من القتال وجهود الأسد المحمومة لاحتواء الانتفاضة.
وبحلول 2013، كانت شاحنات محملة بالجثث تصل من المستشفيات ومراكز الاحتجاز وساحات القتال. وقال حاج خليل وعميد سابق في الفرقة الثالثة بالجيش السوري التي نسقت لوجستيات الدفن إن عدد الجثث كان كبيرا لدرجة أن اثنتين من شركات توزيع الأغذية المملوكة للحكومة، شركة لتعبئة اللحوم وأخرى توزع الفاكهة والخضراوات، خصصتا شاحناتهما المبردة لنقل القتلى إلى القطيفة.
طلب الضابط، مثل العديد من المتورطين في المؤامرة عدم الكشف عن هويته. وقال حاج خليل، الذي لا يزال يعيش في المنطقة، إنه لم يرغب أحد في تولي مسؤولية دفن الجثث.
كانت هناك حاجة إلى شخص للإشراف على العمليات والموقع. ووفقا لشهود وشهادات أمام محاكم، بدأ إسمندر في لعب هذا الدور في وقت مبكر من عام 2012. وذكر الضابط في الفرقة الثالثة أنه تم تقديمه إلى أفراد الفرقة باعتباره "أستاذ عمليات التطهير".
وبحسب وثائق ترجع لعام 2018 تحمل ختمه اطلعت عليها رويترز، كان منصب إسمندر الفعلي هو رئيس قسم الميزانية في إدارة الخدمات الطبية للجيش السوري. وكانت تلك الوحدة واحدة من أقوى الهيئات الحكومية في البلاد، إذ كانت تشرف على الرعاية الطبية للجنود وأي شخص يتم نقله إلى المستشفيات العسكرية، بما في ذلك آلاف السجناء الذين تم تسجيل وفاتهم هناك.
ووفقا لحاج خليل والضابط في الفرقة الثالثة وقع اختيار إسمندر وقائد بالفرقة الثالثة على قطعة أرض خاضعة لسيطرة الجيش في منطقة القطيفة لتكون موقعا للدفن.
في البداية، كانت الجثث تأتي بالعشرات في المرة الواحدة من مستشفيين قريبين. وقال حاج خليل إنها كانت في أكفان مكتوب عليها الأسماء. لكنه أضاف أنه في غضون بضعة أشهر، اعتاد على المكالمات الواردة من إسمندر بعد منتصف الليل للتخلص من الجثث القادمة من مستشفى تشرين العسكري خارج دمشق. وكان ضابط آخر يتصل به للتخلص من الجثث القادمة من سجن صيدنايا سيئ السمعة.
وقال حاج خليل إن إسمندر كان يقول له "البرادات طالعة باتجاهك، خلي سواق الجرافة يلاقينا بالموقع بعد نص ساعة".
ووفقا لسائق جرافة عمل في القطيفة ابتداء من عام 2014، كانت جميع جثث تشرين وصيدنايا معصوبة العينين بينما الأيدي كانت مربوطة بشرائط بلاستيكية في بادئ الأمر. وقال إن القادمين من تشرين كانوا يصلون في البداية في أكياس جثث ثم في أكياس من النايلون، ثم كانوا يصلون بلا أي أكياس على الإطلاق. وقال السائق الذي يتذكر رنين هاتفه في الثانية صباحا مع أوامر ببدء الحفر، إن جميعهم تقريبا كانوا عراة.
وأضاف أن الخنادق التي حفرها الجيش في البداية كانت ضحلة للغاية و"هنن السبب اللي خلاهم ياخدوني (يستدعوني)". وأضاف أنه نظرا لطبيعة التربة الممزوجة بالحصى والحجارة الصغيرة "طلعت الريحة بسرعة"، مشيرا إلى أن السكان المحليين اشتكوا من الرائحة والكلاب التي انجذبت إليها.
وذكر أنه حفر كل خندق بعمق وعرض حوالي أربعة أمتار، وطوله ما بين 75 و90 مترا. وتتطابق روايته مع صور الأقمار الصناعية التي حللتها رويترز، فالصور التي تعود لعام 2013 عندما بدأ حفر الخنادق تظهر على ما يبدو خنادق ضحلة، تليها أخرى أطول وأعمق في عام 2014.
وقال لرويترز "أول أسبوعين ما قدرت آكل أو نام من كمية الرعب الي شفته، بس بعدين حسيت في شي جواتي انكسر وتعودت".
في الوقت نفسه، احتفظ إسمندر بسجلات توضح بالتفصيل عدد الجثث التي وصلت وفرع الأمن الذي أرسلها، وفقا لشهادة تحت القسم من حفار قبور يدعى محمد عفيف نايفة في ألمانيا وأمام محكمة أمريكية في دعوى تتعلق باتهامات بالتعذيب ضد حكومة الأسد. وقال نايفة للمحكمة الألمانية إنه عمل مع إسمندر من عام 2011 إلى عام 2017 وقام بتنسيق دفن سجناء سياسيين.
ورفض نايفة، الذي أشارت شهادته فقط إلى القطيفة، التحدث إلى رويترز.
وشهد بأن الأرقام الموجودة في السجلات أقل من العدد الحقيقي للجثث التي ساعد في دفنها. وقال إن الضحايا كان بينهم أطفال رضع وصغار.
وقال عام 2024 في شهادته في دعوى مدنية أمريكية رفعها أحد ضحايا التعذيب ضد حكومة الأسد "هذه الطريقة القائمة على التقليل من الأعداد هي الطريقة التي استخدمها النظام لإخفاء ودفن عدد أكبر بكثير من الأشخاص مقارنة بما تم تسجيله".
وظهر اسم إسمندر 73 مرة بين آلاف الوثائق التي تعود لعامي 2018 و2019 التي عثرت عليها رويترز وصورتها خلال زيارة لمكتب الأدلة الجنائية العسكرية بعد أن غادرته قوات الأسد في ديسمبر كانون الأول مع وصول قوات المعارضة بقيادة أحمد الشرع إلى دمشق.
وظهر ختمه على وثائق من عامي 2018 و2019 عن كيفية نقل السجناء أولا إلى مستشفى تشرين العسكري، ثم بعد الوفاة إلى مستشفى حرستا العسكري لحفظ الجثث. ولا تشير الوثائق إلى وجود مقابر جماعية.
ومع ذلك، وفقا لتحليل رويترز لصور الأقمار الصناعية وصور الطائرات المسيرة فقد تم حفر 16 خندقا للدفن في القطيفة في الفترة من 2013 حتى 2018 على الأقل بطول إجمالي يزيد عن 1.2 كيلومتر.
وكانت الطرق المحلية تغلق عندما تتجه الشاحنات نحو موقع الدفن. وقال ضابط الفرقة الثالثة الذي رافق الشاحنات إنه في عام 2014، تعطلت شاحنة على الطريق السريع وتوقف جميع من كانوا في القافلة المتجهة إلى القطيفة.
وقدم نايفة رواية مطابقة لهذه الواقعة. وذكر ضابط الفرقة الثالثة أنه تلقى اتصالا غاضبا من قائد إسمندر، اللواء عمار سليمان قال فيه "اجتنا الأوامر من الرئيس: سكروا الطريق الدولي".
كان سليمان أحد كبار القادة العسكريين في سوريا، وأحد أفراد الدائرة المقربة من الأسد. تولى قيادة الخدمات الطبية العسكرية، وكان القائد المباشر لإسمندر. وتأكد تورطه في شهادة نايفة، وشهادة قائد في الدفاع الوطني، وهي قوة شبه عسكرية تابعة للأسد مباشرة شاركت في أكثر العمليات الأمنية سرية في سوريا.
لم يرد سليمان على رسالة طلبا للتعليق.
لم تعثر رويترز على أي وثائق تتضمن أوامر مباشرة من الأسد بشأن المقابر الجماعية بشكل عام أو "عملية نقل الأتربة". لكن ضابط الحرس الجمهوري وقائد الدفاع الوطني قالا إنه من غير المعقول ألا يكون الأسد قد أمر بذلك.
وقال القائد بالدفاع الوطني "بتحداك تلاقي شي بأمر صريح من بشار الأسد... كان عرفان أنه رح يجي يوم ويتحاسب وما كان بدّه يوسخ إيديه".
واستنادا إلى وتيرة عمليات النقل خلال تلك السنوات، قدر حاج خليل أن القطيفة كانت تضم ما بين 60 و80 ألف قتيل حتى نهاية عام 2018. وأظهر تحليل رويترز لصور الأقمار الصناعية أن عمليات حفر الخنادق توقفت حينها.
وبحلول ذلك الوقت، وبمساعدة روسيا وإيران، أصبح يُنظر إلى الأسد على نطاق واسع باعتباره المنتصر في الحرب الأهلية. ومع ذلك، كان قد فقد السيطرة على جزء كبير من شمال سوريا لصالح هيئة تحرير الشام التي كان يقودها الشرع والقوات الكردية التي اقتطعت كل منها مناطق حكم ذاتي.
وقال الضابط في الحرس الجمهوري إنه في إحدى أمسيات أواخر عام 2018، استدعى الأسد أربعة من قادة الجيش والمخابرات إلى القصر الرئاسي لمناقشة ما يجب فعله بشأن المقابر الجماعية، وخاصة موقع القطيفة. وقال الضابط الذي كان يعمل في القصر في ذلك الوقت إنه كان من بين عدد قليل من الذين اطلعوا على محضر الاجتماع.
وأضاف أن مدير المخابرات العسكرية اللواء كمال حسن اقترح تجريف مقبرة القطيفة الجماعية بأكملها ونقل محتوياتها إلى مكان أبعد.
وقال "الفكرة كانت مجنونة للكل، بس بشار عطاها الضو الأخضر". وذكر أن الأساس في الموقع الجديد هو أن يكون تحت السيطرة العسكرية.
وقال الضابط إن مدير المخابرات العسكرية حسن أمر بإرسال تقارير أسبوعية إلى القصر الرئاسي. ولم تتمكن رويترز من الاتصال بحسن، الذي يُعتقد أنه ليس في سوريا، للحصول على تعقيب.
ووفقا لما ذكره الضابط ورئيس مجلس المدينة السابق حاج خليل وتحليل رويترز لصور الأقمار الصناعية، بدأ في نوفمبر 2018، العمل في بناء جدار خرساني حول القطيفة. وتظهر صورة التقطتها الأقمار الصناعية في فبراير شباط 2019 الجدار المحيط بالمقبرة الجماعية بأكملها ويبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار، مما أدى إلى حجب أي رؤية للموقع من مستوى سطح الأرض.
وفي صحراء سوريا، على بعد أكثر من ساعة، ظهرت أولى الخنادق البالغ عددها 34 على الأقل في أوائل فبراير 2019. كانت عملية جديدة قد بدأت في قاعدة عسكرية تتعرض للرياح بالقرب من بلدة الضمير، محمية بسلسلة من السواتر الترابية والأسوار، ومحاطة بالجبال من جميع الجهات.
* "عملية نقل الأتربة"
قال الضابط بالحرس الجمهوري وحاج خليل إن الأوامر المكتوبة أشارت إلى أن المهمة هي نقل الأتربة والرمال إلى موقع بناء. وقال السائق العسكري إن إسمندر، رمادي الشعر حليق الذقن، جمع السائقين قبل دقائق قليلة من بدء العمل في يومهم الأول وأوضح لهم أن المطلوب فعليا هو نقل جثث، لأن موقع المقبرة الجماعية في القطيفة قد تم كشفه.
وذكر ضابط الحرس الجمهوري والقائد في الدفاع الوطني أن العملية حملت اسم "عملية نقل الأتربة".
وقال أحد السائقين العسكريين "من اليوم الأول التعليمات كان ممنوع علينا حدا يمسك موبايل أو نترك السيارات أثناء أو خلال تحميل الجثث. تخالف معناه موت. ما حد يجرؤ يخالف الأوامر".
وقال السائق إن الشاحنات كانت تغادر القطيفة عادة عند غروب الشمس، ويُمنع السائقون من الخروج من سياراتهم أثناء التحميل. وكان بإمكانه رؤية إسمندر في المرآة الخلفية وهو يشير إليه بمكان صف السيارة. وكانت شاحنته تهتز في كل مرة تفرغ فيها الجرافة حمولتها خمس أو ست مرات.
وقال ضابط الحرس الجمهوري الذي أشرف على العمل مباشرة "كانت عضام وجماجم شبه متحللة" فيما كان بعضها جثثا جديدة. وأضاف "كان هناك أيضا الكثير من الديدان التي كانت يسقط منها المئات إن لم يكن الآلاف مع كل مرة تفرغ فيه الجرافة حمولتها في الشاحنة".
وبعد ذلك، بناء على أوامر إسمندر، كانت السيارات تصطف وتتجه نحو الضمير، وكانت ست إلى ثماني شاحنات مرسيدس برتقالية باهتة اللون تتبع سيارة العقيد الفان البيضاء.
صاحبت رائحة كريهة للغاية مرور القافلة. وكان السائقون والميكانيكيون يتذكرون دائما تلك الليالي بالرائحة التي عبأت الهواء أربعة أيام في الأسبوع من فبراير شباط 2019 حتى أبريل نيسان 2021، باستثناء العطلات وأيام سقوط الثلوج وفترة الحظر بسبب جائحة كوفيد-19 التي استمرت في سوريا حوالي أربعة أشهر.
بعد سنوات من هذه الرحلات، قال أحد السكان الذي لا يزال يتذكر الرائحة إن حمولة الشاحنات باتت سرا مكشوفا بالنسبة لمن يعيشون بالقرب من كلا الموقعين. وقال أحد السائقين "الكل شاف".
وبدون البحث في المقابر، من المستحيل إجراء تقدير دقيق لعدد الجثث المدفونة في الضمير. لكن قافلة مكونة من ست إلى ثماني شاحنات تقوم بأربع رحلات أسبوعيا تعني تقريبا حوالي 2600 رحلة مع احتساب فترات التوقف. وقال خبراء لرويترز إنه بناء على ذلك وعلى حجم الشاحنات، فمن المنطقي الاعتقاد أن عشرات الالآف يرقدون في مقبرة الضمير.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية أنه بحلول الوقت الذي انتهت فيه "عملية نقل الأتربة"، كان كل خندق من خنادق القطيفة الستة عشر التي وثقتها رويترز قد تم فتحه. وإجمالا، تحتوي مقبرة الضمير على خنادق بطول كيلومترين، وفقا لحسابات رويترز. وقال السائقون وميكانيكي واحد إن عرض كل منها يبلغ حوالي مترين وعمقه ثلاثة أمتار.
وشاهد مراسلو رويترز الذين زاروا الموقع هذا العام عظاما بشرية متناثرة على السطح، بما في ذلك جمجمة مهشمة.
وقال غزال، فني إصلاح السيارات، إنه أصلح الشاحنات مرارا لأن تاريخ تصنيعها يعود إلى منتصف الثمانينات وكانت عرضة للأعطال.
وأتاح له إصلاح الشاحنات مرارا في ورشته فرصة تمييز نوعين من الجثث التي كانت تنقل إلى الضمير. كان بعضها قد تحلل وغطته الأتربة، في حين ظهرت أخرى وكأنها حديثة الوفاة، بما في ذلك شبان وشابات. وقال ابنا عمه اللذان كانا يعملان أيضا في الورشة لرويترز إنهما شاهدا جثثا حديثة الوفاة. ولم يتسن لرويترز تحديد مصدر الجثث الجديدة.
وقاد غزال فريقا من رويترز إلى الموقع، الذي تمكن من التعرف عليه لأنه تم استدعاؤه إلى هناك لإصلاح شاحنة معطلة.
وقال وهو يشير إلى الصحراء الخالية "كل مكان علي بعد النظر، فيه ناس مدفونة تحت الأرض".
كان عمار السلمو، عضو مجلس إدارة منظمة الخوذ البيضاء التي تساعد في العثور على المقابر الجماعية وحفرها، أول من نبه رويترز إلى احتمال وجود مقبرة جماعية في الضمير.
وقال إن سكان القطيفة أبلغوا الخوذ البيضاء أن المقبرة الجماعية هناك فارغة، وأن شاهدا في الضمير أبلغ عن قوافل تنقل الجثث، لكن السلمو قال إن المنظمة كانت تعاني من نقص في الموظفين والموارد، ولم تتحقق من أي من الادعاءين. وبعد اطلاعه على نتائج رويترز، قال إن الخوذ البيضاء تخطط لزيارة أولية في الأيام المقبلة.
وأشار تحليل أجرته رويترز لمئات صور الأقمار الصناعية الملتقطة على مدى سنوات إلى تحول في لون التربة غير المستوية في موقع الضمير. ولكن حتى أكثر الصور تطورا تفتقر إلى الدقة اللازمة لإجراء فحص دقيق للتربة.
وأشار تحليل أجرته رويترز لمئات من صور الأقمار الصناعية على مدى سنوات إلى تغير في لون التربة غير المستوية في موقع الضمير، ولكن حتى الصور التجارية الأكثر تطورا تفتقر إلى الدقة اللازمة لفحص التربة عن قرب.
لذلك شرعت رويترز في التقاط آلاف الصور بطائرات مسيرة بهدف إنشاء صور مركبة عالية الدقة للقطيفة والضمير باستخدام برامج المسح التصويري المتخصصة.
أظهرت الصور المركبة أن الجرافات تحركت مرارا فوق الخنادق لتسوية التربة. كما دعمت النتائج الأساسية التي توصلت إليها رويترز، وهي أن الجثث نقلت من القطيفة إلى ضمير.
وكشف تحليل صور الطائرات المسيرة أن تغيرات لون التربة حول خنادق الدفن في الضمير تشير إلى أن التربة التي عُثر عليها في باطن الأرض بالقطيفة قد اختلطت بتربة الضمير. وذكرت داوسون، الرائدة في علم التربة الجنائي في معهد جيمس هاتون في اسكتلندا، وروك المتخصص في العثور على مواقع الدفن باستخدام التصوير عن بُعد أن هذا ما يُتوقع العثور عليه إذا أضيفت التربة المستخرجة من القطيفة، والتي تحتوي على بقايا بشرية، إلى تربة الضمير.
وبين تحليل صور الأقمار الصناعية أنه تم ردم الخندق الأخير في الضمير خلال الأسبوع الأول من أبريل 2021. وبحلول نهاية ذلك العام، جرى تسوية الأرض في القطيفة، في محاولة لطمس أي أثر للمقبرة الجماعية الخاوية الآن. وفي الصور الخاصة بالموقعين، لا تزال الأرض تحمل آثار محاولات إخفاء عمليات الدفن.
وتلقى مدير المخابرات العسكرية -الذي كان أول من طرح فكرة نقل الجثث إلى الضمير- أحد التقارير الأسبوعية الأخيرة عن العملية في أواخر عام 2021 وسلمه إلى ضابط الحرس الجمهوري. وأشار الضابط إلى أن كلماته كانت "الضيوف جايين عالبلد وبدنا البلد تكون نضيفة".
وقال ضابطان سابقان مطلعان على تحركات إسمندر إنه فر من سوريا بعد سقوط النظام، مثل الأسد والعديد من المسوؤلين.
ومع رحيل الأسد، قال غزال إن المقابر الجماعية كانت أول ما خطر بباله عندما شاهد لقطات لآلاف السوريين وهم يتدفقون إلى سجن صيدنايا على أمل العثور على أحبائهم المفقودين. وكانت بعض مواقع الدفن معروفة بالفعل، بما في ذلك القطيفة.
في ديسمبر 2024، زارت عدة وسائل إعلام محلية ودولية الموقع الذي أصبح الوصول إليه ممكنا، بما في ذلك رويترز. كما زارت الموقع الهيئة الوطنية للمفقودين، وأشارت إلى أن القطيفة تم تجريفها في وقت ما بين 2018 و2021.
ولم يذكر أحد أن الخنادق كانت فارغة.
قال غزال، الذي لا يزال يعيش ويعمل في المنطقة، إن أحدا لم يأت للبحث في موقع الضمير الذي لا يغادر ذاكرته قط. وأضاف أن الكثير من السوريين يبحثون في المكان الخطأ.
كان ممنوع على السائقين مغادرة سياراتهم بينما أقسم الميكانيكيون ومشغلو الجرافات على التزام الصمت، فقد كانوا يعلمون جيدا أنهم سيدفعون حياتهم ثمنا للتحدث علنا. كانت أوامر "عملية نقل الأتربة" شفهية فقط وأشرف عليها ضابط سوري برتية عقيد، قضى ما يقرب من عقد من الزمن في دفن قتلى الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
صدرت أوامر نقل الجثث من القصر الرئاسي. وأدار العقيد، المعروف باسم "أستاذ التطهير"، العملية من 2019 حتى 2021.
كانت المقبرة الأولى، في بلدة القطيفة بريف دمشق، تضم خنادق مليئة برفات أشخاص ماتوا في السجن أو أثناء الاستجواب أو خلال القتال. وكشف نشطاء مدافعون عن حقوق الإنسان عن وجود تلك المقبرة الجماعية خلال سنوات الحرب الأهلية، وكانت تعتبر لفترة طويلة واحدة من أكبر المقابر الجماعية في سوريا.
لكن تحقيقا أجرته رويترز خلص إلى أن حكومة الأسد قامت سرا بالحفر في موقع القطيفة ونقلت آلاف الجثث بالشاحنات إلى موقع جديد في منشأة عسكرية تبعد أكثر من ساعة في صحراء الضمير.
وفي تقرير حصري نُشر يوم الثلاثاء، كشفت رويترز عن مخطط إعادة الدفن السري ووجود المقبرة الجماعية الثانية. ويمكن لرويترز الآن أن تكشف، بتفاصيل دقيقة، كيف نفذ المسؤولون هذه المؤامرة وأبقوها طي الكتمان لمدة ست سنوات.
تحدثت رويترز إلى 13 شخصا على دراية مباشرة بالجهود التي استمرت عامين لنقل الجثث، وحللت أكثر من 500 صورة من صور الأقمار الصناعية للمقبرتين الجماعيتين التُقطت على مدى أكثر من عقد، والتي لم تُظهر فقط إنشاء مقبرة القطيفة، ولكن أيضا كيف توسع الموقع السري، مع إعادة فتح خنادق الدفن وحفرها، حتى غطى مساحة شاسعة من الصحراء.
استخدمت رويترز التصوير الجوي بالطائرات المسيرة للتأكد من نقل الجثث. وبإشراف خبراء في الجيولوجيا الجنائية، التقطت رويترز أيضا آلاف الصور بطائرات مسيرة وعلى الأرض للموقعين بهدف إنشاء صور مركبة عالية الدقة. وفي صحراء الضمير، أظهرت رحلات الطائرات المسيرة أن التربة غير المستوية حول خنادق الدفن كانت أكثر احمرارا وقتامة من المناطق المجاورة المستوية، وهو نوع التغيير المتوقع إذا أضيفت تربة القطيفة إلى تربة صحراء الضمير، وفقا لما ذكره بنجامين روك ولورنا داوسون الخبيران الجيولوجيان اللذان قدما المشورة لرويترز.
تنتشر المقابر الجماعية في أنحاء سوريا، لكن الموقع السري الذي اكتشفته رويترز يعد من بين أكبر المواقع المعروفة. ومع ما لا يقل عن 34 خندقا يبلغ طولها الإجمالي كيلومترين، تعد المقبرة الواقعة بالقرب من بلدة الضمير الصحراوية من بين أوسع المقابر التي تم حفرها خلال الحرب الأهلية التي مزقت البلاد.
وتشير روايات الشهود وأبعاد الموقع الجديد إلى احتمال دفن عشرات الآلاف هناك.
وقررت رويترز عدم الكشف عن الموقع لحمايته من التلاعب.
وبعد نشر التقرير الأول لرويترز، قالت الهيئة الوطنية للمفقودين التابعة للحكومة إنها تواصلت مع وزارة الداخلية لحماية الموقع وفق الآليات المتبعة لديهم. وأوضحت اللجنة لرويترز أن نقل الجثث بشكل عشوائي إلى موقع الضمير سيجعل عملية تحديد هوية الضحايا أكثر تعقيدا.
وقالت اللجنة "ما تكشف عنه عمليات نقل التربة الأخيرة لا يقتصر على بعد سيادي أو لوجستي، فلكل أسرة مفقود معاناة خاصة تتشابك مع تعقيدات علمية قد تحول مهمة التعرّف إلى مشروع تقني طويل ومكلف".
وفقا لشهود شاركوا في العملية، كانت ست إلى ثماني شاحنات مليئة بالتراب والبقايا البشرية والديدان تتوجه إلى موقع الضمير الصحراوي أربع ليال تقريبا كل أسبوع. وبحسب شهود، بما في ذلك سائقا شاحنتين وثلاثة فنيين لإصلاح السيارات وسائق جرافة وضابط سابق من الحرس الجمهوري التابع للأسد شارك منذ الأيام الأولى في عملية نقل الجثث، التصقت الرائحة الكريهة بملابس وشعر جميع المشاركين.
وقال الضابط السابق بالحرس الجمهوري إن فكرة نقل آلاف الجثث بدأت في أواخر 2018، عندما اقترب الأسد من تحقيق النصر في الحرب الأهلية السورية. وأضاف أن الأسد كان يأمل في استعادة الاعتراف الدولي بعد تهميش لسنوات جراء العقوبات والاتهامات بارتكاب فظائع.
في ذلك الوقت، كان الأسد متهما بالفعل باحتجاز آلاف السوريين لكن لم تتمكن أي من الجماعات السورية المستقلة أو المنظمات الدولية من الوصول إلى السجون أو المقابر الجماعية.
وقال الضابط إنه في اجتماع عام 2018 مع المخابرات الروسية، تلقى الأسد تطمينات بأن الحلفاء يعملون بدأب لإنهاء عزلته. ونصحه الروس بإخفاء أدلة على انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان. وأضاف الضابط "خصوصا الاعتقالات والمقابر الجماعية والهجمات الكيماوية".
وقال سائقا الشاحنتين والضابط لرويترز إنهم أُبلغوا بأن الهدف هو تطهير مقبرة القطيفة الجماعية وإخفاء أدلة على عمليات القتل الجماعي.
ظهر أول خندق في القطيفة في صور الأقمار الصناعية عام 2012. وكشف ناشط سوري في مجال حقوق الإنسان موقع القطيفة من خلال تسريب صور لوسائل إعلام محلية عام 2014 تظهر وجود المقبرة وموقعها على مشارف دمشق، واتهم الأسد باستخدام الموقع لإخفاء العدد الهائل للقتلى في عهده. وتحدد موقعه بدقة بعد بضع سنوات من خلال شهادات في المحاكم وتقارير إعلامية أخرى. لكن بحلول الوقت الذي سقط فيه الأسد، كانت جميع الخنادق الستة عشر التي وثقتها رويترز قد تم إفراغها.
ورفضت أجهزة الاستخبارات الخارجية الروسية التعقيب، ولم يستجب المستشار القانوني للأسد لطلبات التعليق على نتائج رويترز.
ووفقا لمنظمات حقوقية سورية اختفى ما يربو على 160 ألف شخص على يد جهاز الأمن الضخم التابع للأسد ، ويُعتقد أنهم مدفونون في عشرات المقابر الجماعية التي أمر بحفرها. وقدّرت الحكومة عدد المفقودين منذ بدء حكم عائلة الأسد عام 1970 بما يصل إلى 300 ألف شخص. ويمكن أن تساعد عمليات التنقيب المنظمة وتحليل الحمض النووي في الكشف عما تعرض له هؤلاء، وقد تسهم هذه الجهود في تضميد أحد الجراح الغائرة في تاريخ سوريا.
لكن نظرا لقلة الموارد لا تحظى حتى المقابر الجماعية المعروفة بالحماية ولا يتم التنقيب فيها. كما أن القادة الجدد للبلاد، الذين أطاحوا بالأسد في ديسمبر ، لم ينشروا أي وثائق تتعلق بهذه المقابر، رغم المناشدات المتكررة من عائلات المفقودين.
وقالت الهيئة الوطنية للمفقودين إن ذلك يرجع إلى اختفاء العديد من السجلات أو إتلافها، وإن الفجوات في البيانات هائلة حتى بالنسبة للمواقع المعروفة مثل القطيفة. وقالوا إن هناك خططا لإنشاء بنك للحمض النووي ومنصة رقمية مركزية لعائلات المفقودين، لكنهم أشاروا إلى عدم وجود عدد كاف من المتخصصين في الطب الشرعي واختبارات الحمض النووي.
اطلعت رويترز على شهادات في المحاكم وعشرات الوثائق الموقعة التي تظهر التسلسل القيادي من أسرّة الموتى في السجون إلى المشارح. حملت العديد من هذه الوثائق الختم الرسمي لنفس العقيد الذي أشرف على موقعي الدفن الجماعيين: العقيد مازن إسمندر.
جميع من قابلتهم رويترز وكانوا مشاركين في نقل الجثث، تذكروا ليالي عملوا فيها تحت إمرة إسمندر.
وصف أحمد غزال، وهو ميكانيكي، الإصلاحات الليلية طوال تلك الفترة وكيف أمره الجنود بإخلاء ورشته كي يتسنى إصلاح الشاحنات بسرعة وبعيدا عن الأنظار. وقال غزال لرويترز إنه لم يصدق تفسيرهم الأولي بأن رائحة العفن جاءت من مواد كيميائية وأدوية منتهية الصلاحية.
رأى غزال الجثث لأول مرة عندما قفز داخل صندوق الشاحنة أثناء إصلاحها. وبعد أن سقطت يد بشرية متحللة على أحد مساعديه، قال غزال إن الفضول غلبه فاقترب من أحد السائقين العسكريين ليسأله من أين جاءت الجثث. وأخبره ذلك السائق أنها من القطيفة، وأن الأوامر صدرت لنقلها قبل أن تتمكن سوريا من فتح أبوابها أمام التدقيق الدولي.
ووصف غزال، الذي قاد رويترز إلى موقع الضمير، الأحداث التي شهدها هناك بصوت أجش لا يخلو من الحذر. لكنه قال إنه لم يتحدث علنا عن الأمر في ذلك الوقت.
وأضاف "لو تتكلم معناته موت وبتحّصل الناس المدفونة هون وبيحصل اللي حصل لهم".
وتحدثت رويترز إلى السائق أيضا، الذي تذكر حديثه مع غزال، وقال إن العقيد إسمندر حذرهم من أنهم سيدفعون الثمن إذا تحدث أي شخص عما رأوه.
ورفض إسمندر التعليق على نتائج رويترز عندما تم الاتصال به عبر وسطاء.
وقال السائق "لو كان بيدي ما كنت اشتغلت هادي الشغلانة، أنا عبد المأمور، عبد الأوامر.. شعور خوف وريحة كريهة وإحساس بالذنب".
وذكر أنه عندما كان يعود لمنزله مع شروق الشمس، كان يحاول التخلص من الروائح "بالاستحمام وأحاول انسا الروائح بالعطر أو بأي شي".
* "أستاذ التطهير"
مع تحول الاحتجاجات على حكم الأسد إلى حرب أهلية في عام 2012، كانت القطيفة، الواقعة على مشارف دمشق، واحدة من الأماكن القليلة الخاضعة لسيطرة مُحكمة من جانب الحكومة. وقال أنور حاج خليل، الرئيس السابق لمجلس المدينة، إن الناس كانوا ينقلون إلى موقع عسكري هناك الجثث التي عثروا عليها خلال الأيام الأولى من القتال وجهود الأسد المحمومة لاحتواء الانتفاضة.
وبحلول 2013، كانت شاحنات محملة بالجثث تصل من المستشفيات ومراكز الاحتجاز وساحات القتال. وقال حاج خليل وعميد سابق في الفرقة الثالثة بالجيش السوري التي نسقت لوجستيات الدفن إن عدد الجثث كان كبيرا لدرجة أن اثنتين من شركات توزيع الأغذية المملوكة للحكومة، شركة لتعبئة اللحوم وأخرى توزع الفاكهة والخضراوات، خصصتا شاحناتهما المبردة لنقل القتلى إلى القطيفة.
طلب الضابط، مثل العديد من المتورطين في المؤامرة عدم الكشف عن هويته. وقال حاج خليل، الذي لا يزال يعيش في المنطقة، إنه لم يرغب أحد في تولي مسؤولية دفن الجثث.
كانت هناك حاجة إلى شخص للإشراف على العمليات والموقع. ووفقا لشهود وشهادات أمام محاكم، بدأ إسمندر في لعب هذا الدور في وقت مبكر من عام 2012. وذكر الضابط في الفرقة الثالثة أنه تم تقديمه إلى أفراد الفرقة باعتباره "أستاذ عمليات التطهير".
وبحسب وثائق ترجع لعام 2018 تحمل ختمه اطلعت عليها رويترز، كان منصب إسمندر الفعلي هو رئيس قسم الميزانية في إدارة الخدمات الطبية للجيش السوري. وكانت تلك الوحدة واحدة من أقوى الهيئات الحكومية في البلاد، إذ كانت تشرف على الرعاية الطبية للجنود وأي شخص يتم نقله إلى المستشفيات العسكرية، بما في ذلك آلاف السجناء الذين تم تسجيل وفاتهم هناك.
ووفقا لحاج خليل والضابط في الفرقة الثالثة وقع اختيار إسمندر وقائد بالفرقة الثالثة على قطعة أرض خاضعة لسيطرة الجيش في منطقة القطيفة لتكون موقعا للدفن.
في البداية، كانت الجثث تأتي بالعشرات في المرة الواحدة من مستشفيين قريبين. وقال حاج خليل إنها كانت في أكفان مكتوب عليها الأسماء. لكنه أضاف أنه في غضون بضعة أشهر، اعتاد على المكالمات الواردة من إسمندر بعد منتصف الليل للتخلص من الجثث القادمة من مستشفى تشرين العسكري خارج دمشق. وكان ضابط آخر يتصل به للتخلص من الجثث القادمة من سجن صيدنايا سيئ السمعة.
وقال حاج خليل إن إسمندر كان يقول له "البرادات طالعة باتجاهك، خلي سواق الجرافة يلاقينا بالموقع بعد نص ساعة".
ووفقا لسائق جرافة عمل في القطيفة ابتداء من عام 2014، كانت جميع جثث تشرين وصيدنايا معصوبة العينين بينما الأيدي كانت مربوطة بشرائط بلاستيكية في بادئ الأمر. وقال إن القادمين من تشرين كانوا يصلون في البداية في أكياس جثث ثم في أكياس من النايلون، ثم كانوا يصلون بلا أي أكياس على الإطلاق. وقال السائق الذي يتذكر رنين هاتفه في الثانية صباحا مع أوامر ببدء الحفر، إن جميعهم تقريبا كانوا عراة.
وأضاف أن الخنادق التي حفرها الجيش في البداية كانت ضحلة للغاية و"هنن السبب اللي خلاهم ياخدوني (يستدعوني)". وأضاف أنه نظرا لطبيعة التربة الممزوجة بالحصى والحجارة الصغيرة "طلعت الريحة بسرعة"، مشيرا إلى أن السكان المحليين اشتكوا من الرائحة والكلاب التي انجذبت إليها.
وذكر أنه حفر كل خندق بعمق وعرض حوالي أربعة أمتار، وطوله ما بين 75 و90 مترا. وتتطابق روايته مع صور الأقمار الصناعية التي حللتها رويترز، فالصور التي تعود لعام 2013 عندما بدأ حفر الخنادق تظهر على ما يبدو خنادق ضحلة، تليها أخرى أطول وأعمق في عام 2014.
وقال لرويترز "أول أسبوعين ما قدرت آكل أو نام من كمية الرعب الي شفته، بس بعدين حسيت في شي جواتي انكسر وتعودت".
في الوقت نفسه، احتفظ إسمندر بسجلات توضح بالتفصيل عدد الجثث التي وصلت وفرع الأمن الذي أرسلها، وفقا لشهادة تحت القسم من حفار قبور يدعى محمد عفيف نايفة في ألمانيا وأمام محكمة أمريكية في دعوى تتعلق باتهامات بالتعذيب ضد حكومة الأسد. وقال نايفة للمحكمة الألمانية إنه عمل مع إسمندر من عام 2011 إلى عام 2017 وقام بتنسيق دفن سجناء سياسيين.
ورفض نايفة، الذي أشارت شهادته فقط إلى القطيفة، التحدث إلى رويترز.
وشهد بأن الأرقام الموجودة في السجلات أقل من العدد الحقيقي للجثث التي ساعد في دفنها. وقال إن الضحايا كان بينهم أطفال رضع وصغار.
وقال عام 2024 في شهادته في دعوى مدنية أمريكية رفعها أحد ضحايا التعذيب ضد حكومة الأسد "هذه الطريقة القائمة على التقليل من الأعداد هي الطريقة التي استخدمها النظام لإخفاء ودفن عدد أكبر بكثير من الأشخاص مقارنة بما تم تسجيله".
وظهر اسم إسمندر 73 مرة بين آلاف الوثائق التي تعود لعامي 2018 و2019 التي عثرت عليها رويترز وصورتها خلال زيارة لمكتب الأدلة الجنائية العسكرية بعد أن غادرته قوات الأسد في ديسمبر كانون الأول مع وصول قوات المعارضة بقيادة أحمد الشرع إلى دمشق.
وظهر ختمه على وثائق من عامي 2018 و2019 عن كيفية نقل السجناء أولا إلى مستشفى تشرين العسكري، ثم بعد الوفاة إلى مستشفى حرستا العسكري لحفظ الجثث. ولا تشير الوثائق إلى وجود مقابر جماعية.
ومع ذلك، وفقا لتحليل رويترز لصور الأقمار الصناعية وصور الطائرات المسيرة فقد تم حفر 16 خندقا للدفن في القطيفة في الفترة من 2013 حتى 2018 على الأقل بطول إجمالي يزيد عن 1.2 كيلومتر.
وكانت الطرق المحلية تغلق عندما تتجه الشاحنات نحو موقع الدفن. وقال ضابط الفرقة الثالثة الذي رافق الشاحنات إنه في عام 2014، تعطلت شاحنة على الطريق السريع وتوقف جميع من كانوا في القافلة المتجهة إلى القطيفة.
وقدم نايفة رواية مطابقة لهذه الواقعة. وذكر ضابط الفرقة الثالثة أنه تلقى اتصالا غاضبا من قائد إسمندر، اللواء عمار سليمان قال فيه "اجتنا الأوامر من الرئيس: سكروا الطريق الدولي".
كان سليمان أحد كبار القادة العسكريين في سوريا، وأحد أفراد الدائرة المقربة من الأسد. تولى قيادة الخدمات الطبية العسكرية، وكان القائد المباشر لإسمندر. وتأكد تورطه في شهادة نايفة، وشهادة قائد في الدفاع الوطني، وهي قوة شبه عسكرية تابعة للأسد مباشرة شاركت في أكثر العمليات الأمنية سرية في سوريا.
لم يرد سليمان على رسالة طلبا للتعليق.
لم تعثر رويترز على أي وثائق تتضمن أوامر مباشرة من الأسد بشأن المقابر الجماعية بشكل عام أو "عملية نقل الأتربة". لكن ضابط الحرس الجمهوري وقائد الدفاع الوطني قالا إنه من غير المعقول ألا يكون الأسد قد أمر بذلك.
وقال القائد بالدفاع الوطني "بتحداك تلاقي شي بأمر صريح من بشار الأسد... كان عرفان أنه رح يجي يوم ويتحاسب وما كان بدّه يوسخ إيديه".
واستنادا إلى وتيرة عمليات النقل خلال تلك السنوات، قدر حاج خليل أن القطيفة كانت تضم ما بين 60 و80 ألف قتيل حتى نهاية عام 2018. وأظهر تحليل رويترز لصور الأقمار الصناعية أن عمليات حفر الخنادق توقفت حينها.
وبحلول ذلك الوقت، وبمساعدة روسيا وإيران، أصبح يُنظر إلى الأسد على نطاق واسع باعتباره المنتصر في الحرب الأهلية. ومع ذلك، كان قد فقد السيطرة على جزء كبير من شمال سوريا لصالح هيئة تحرير الشام التي كان يقودها الشرع والقوات الكردية التي اقتطعت كل منها مناطق حكم ذاتي.
وقال الضابط في الحرس الجمهوري إنه في إحدى أمسيات أواخر عام 2018، استدعى الأسد أربعة من قادة الجيش والمخابرات إلى القصر الرئاسي لمناقشة ما يجب فعله بشأن المقابر الجماعية، وخاصة موقع القطيفة. وقال الضابط الذي كان يعمل في القصر في ذلك الوقت إنه كان من بين عدد قليل من الذين اطلعوا على محضر الاجتماع.
وأضاف أن مدير المخابرات العسكرية اللواء كمال حسن اقترح تجريف مقبرة القطيفة الجماعية بأكملها ونقل محتوياتها إلى مكان أبعد.
وقال "الفكرة كانت مجنونة للكل، بس بشار عطاها الضو الأخضر". وذكر أن الأساس في الموقع الجديد هو أن يكون تحت السيطرة العسكرية.
وقال الضابط إن مدير المخابرات العسكرية حسن أمر بإرسال تقارير أسبوعية إلى القصر الرئاسي. ولم تتمكن رويترز من الاتصال بحسن، الذي يُعتقد أنه ليس في سوريا، للحصول على تعقيب.
ووفقا لما ذكره الضابط ورئيس مجلس المدينة السابق حاج خليل وتحليل رويترز لصور الأقمار الصناعية، بدأ في نوفمبر 2018، العمل في بناء جدار خرساني حول القطيفة. وتظهر صورة التقطتها الأقمار الصناعية في فبراير شباط 2019 الجدار المحيط بالمقبرة الجماعية بأكملها ويبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار، مما أدى إلى حجب أي رؤية للموقع من مستوى سطح الأرض.
وفي صحراء سوريا، على بعد أكثر من ساعة، ظهرت أولى الخنادق البالغ عددها 34 على الأقل في أوائل فبراير 2019. كانت عملية جديدة قد بدأت في قاعدة عسكرية تتعرض للرياح بالقرب من بلدة الضمير، محمية بسلسلة من السواتر الترابية والأسوار، ومحاطة بالجبال من جميع الجهات.
* "عملية نقل الأتربة"
قال الضابط بالحرس الجمهوري وحاج خليل إن الأوامر المكتوبة أشارت إلى أن المهمة هي نقل الأتربة والرمال إلى موقع بناء. وقال السائق العسكري إن إسمندر، رمادي الشعر حليق الذقن، جمع السائقين قبل دقائق قليلة من بدء العمل في يومهم الأول وأوضح لهم أن المطلوب فعليا هو نقل جثث، لأن موقع المقبرة الجماعية في القطيفة قد تم كشفه.
وذكر ضابط الحرس الجمهوري والقائد في الدفاع الوطني أن العملية حملت اسم "عملية نقل الأتربة".
وقال أحد السائقين العسكريين "من اليوم الأول التعليمات كان ممنوع علينا حدا يمسك موبايل أو نترك السيارات أثناء أو خلال تحميل الجثث. تخالف معناه موت. ما حد يجرؤ يخالف الأوامر".
وقال السائق إن الشاحنات كانت تغادر القطيفة عادة عند غروب الشمس، ويُمنع السائقون من الخروج من سياراتهم أثناء التحميل. وكان بإمكانه رؤية إسمندر في المرآة الخلفية وهو يشير إليه بمكان صف السيارة. وكانت شاحنته تهتز في كل مرة تفرغ فيها الجرافة حمولتها خمس أو ست مرات.
وقال ضابط الحرس الجمهوري الذي أشرف على العمل مباشرة "كانت عضام وجماجم شبه متحللة" فيما كان بعضها جثثا جديدة. وأضاف "كان هناك أيضا الكثير من الديدان التي كانت يسقط منها المئات إن لم يكن الآلاف مع كل مرة تفرغ فيه الجرافة حمولتها في الشاحنة".
وبعد ذلك، بناء على أوامر إسمندر، كانت السيارات تصطف وتتجه نحو الضمير، وكانت ست إلى ثماني شاحنات مرسيدس برتقالية باهتة اللون تتبع سيارة العقيد الفان البيضاء.
صاحبت رائحة كريهة للغاية مرور القافلة. وكان السائقون والميكانيكيون يتذكرون دائما تلك الليالي بالرائحة التي عبأت الهواء أربعة أيام في الأسبوع من فبراير شباط 2019 حتى أبريل نيسان 2021، باستثناء العطلات وأيام سقوط الثلوج وفترة الحظر بسبب جائحة كوفيد-19 التي استمرت في سوريا حوالي أربعة أشهر.
بعد سنوات من هذه الرحلات، قال أحد السكان الذي لا يزال يتذكر الرائحة إن حمولة الشاحنات باتت سرا مكشوفا بالنسبة لمن يعيشون بالقرب من كلا الموقعين. وقال أحد السائقين "الكل شاف".
وبدون البحث في المقابر، من المستحيل إجراء تقدير دقيق لعدد الجثث المدفونة في الضمير. لكن قافلة مكونة من ست إلى ثماني شاحنات تقوم بأربع رحلات أسبوعيا تعني تقريبا حوالي 2600 رحلة مع احتساب فترات التوقف. وقال خبراء لرويترز إنه بناء على ذلك وعلى حجم الشاحنات، فمن المنطقي الاعتقاد أن عشرات الالآف يرقدون في مقبرة الضمير.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية أنه بحلول الوقت الذي انتهت فيه "عملية نقل الأتربة"، كان كل خندق من خنادق القطيفة الستة عشر التي وثقتها رويترز قد تم فتحه. وإجمالا، تحتوي مقبرة الضمير على خنادق بطول كيلومترين، وفقا لحسابات رويترز. وقال السائقون وميكانيكي واحد إن عرض كل منها يبلغ حوالي مترين وعمقه ثلاثة أمتار.
وشاهد مراسلو رويترز الذين زاروا الموقع هذا العام عظاما بشرية متناثرة على السطح، بما في ذلك جمجمة مهشمة.
وقال غزال، فني إصلاح السيارات، إنه أصلح الشاحنات مرارا لأن تاريخ تصنيعها يعود إلى منتصف الثمانينات وكانت عرضة للأعطال.
وأتاح له إصلاح الشاحنات مرارا في ورشته فرصة تمييز نوعين من الجثث التي كانت تنقل إلى الضمير. كان بعضها قد تحلل وغطته الأتربة، في حين ظهرت أخرى وكأنها حديثة الوفاة، بما في ذلك شبان وشابات. وقال ابنا عمه اللذان كانا يعملان أيضا في الورشة لرويترز إنهما شاهدا جثثا حديثة الوفاة. ولم يتسن لرويترز تحديد مصدر الجثث الجديدة.
وقاد غزال فريقا من رويترز إلى الموقع، الذي تمكن من التعرف عليه لأنه تم استدعاؤه إلى هناك لإصلاح شاحنة معطلة.
وقال وهو يشير إلى الصحراء الخالية "كل مكان علي بعد النظر، فيه ناس مدفونة تحت الأرض".
كان عمار السلمو، عضو مجلس إدارة منظمة الخوذ البيضاء التي تساعد في العثور على المقابر الجماعية وحفرها، أول من نبه رويترز إلى احتمال وجود مقبرة جماعية في الضمير.
وقال إن سكان القطيفة أبلغوا الخوذ البيضاء أن المقبرة الجماعية هناك فارغة، وأن شاهدا في الضمير أبلغ عن قوافل تنقل الجثث، لكن السلمو قال إن المنظمة كانت تعاني من نقص في الموظفين والموارد، ولم تتحقق من أي من الادعاءين. وبعد اطلاعه على نتائج رويترز، قال إن الخوذ البيضاء تخطط لزيارة أولية في الأيام المقبلة.
وأشار تحليل أجرته رويترز لمئات صور الأقمار الصناعية الملتقطة على مدى سنوات إلى تحول في لون التربة غير المستوية في موقع الضمير. ولكن حتى أكثر الصور تطورا تفتقر إلى الدقة اللازمة لإجراء فحص دقيق للتربة.
وأشار تحليل أجرته رويترز لمئات من صور الأقمار الصناعية على مدى سنوات إلى تغير في لون التربة غير المستوية في موقع الضمير، ولكن حتى الصور التجارية الأكثر تطورا تفتقر إلى الدقة اللازمة لفحص التربة عن قرب.
لذلك شرعت رويترز في التقاط آلاف الصور بطائرات مسيرة بهدف إنشاء صور مركبة عالية الدقة للقطيفة والضمير باستخدام برامج المسح التصويري المتخصصة.
أظهرت الصور المركبة أن الجرافات تحركت مرارا فوق الخنادق لتسوية التربة. كما دعمت النتائج الأساسية التي توصلت إليها رويترز، وهي أن الجثث نقلت من القطيفة إلى ضمير.
وكشف تحليل صور الطائرات المسيرة أن تغيرات لون التربة حول خنادق الدفن في الضمير تشير إلى أن التربة التي عُثر عليها في باطن الأرض بالقطيفة قد اختلطت بتربة الضمير. وذكرت داوسون، الرائدة في علم التربة الجنائي في معهد جيمس هاتون في اسكتلندا، وروك المتخصص في العثور على مواقع الدفن باستخدام التصوير عن بُعد أن هذا ما يُتوقع العثور عليه إذا أضيفت التربة المستخرجة من القطيفة، والتي تحتوي على بقايا بشرية، إلى تربة الضمير.
وبين تحليل صور الأقمار الصناعية أنه تم ردم الخندق الأخير في الضمير خلال الأسبوع الأول من أبريل 2021. وبحلول نهاية ذلك العام، جرى تسوية الأرض في القطيفة، في محاولة لطمس أي أثر للمقبرة الجماعية الخاوية الآن. وفي الصور الخاصة بالموقعين، لا تزال الأرض تحمل آثار محاولات إخفاء عمليات الدفن.
وتلقى مدير المخابرات العسكرية -الذي كان أول من طرح فكرة نقل الجثث إلى الضمير- أحد التقارير الأسبوعية الأخيرة عن العملية في أواخر عام 2021 وسلمه إلى ضابط الحرس الجمهوري. وأشار الضابط إلى أن كلماته كانت "الضيوف جايين عالبلد وبدنا البلد تكون نضيفة".
وقال ضابطان سابقان مطلعان على تحركات إسمندر إنه فر من سوريا بعد سقوط النظام، مثل الأسد والعديد من المسوؤلين.
ومع رحيل الأسد، قال غزال إن المقابر الجماعية كانت أول ما خطر بباله عندما شاهد لقطات لآلاف السوريين وهم يتدفقون إلى سجن صيدنايا على أمل العثور على أحبائهم المفقودين. وكانت بعض مواقع الدفن معروفة بالفعل، بما في ذلك القطيفة.
في ديسمبر 2024، زارت عدة وسائل إعلام محلية ودولية الموقع الذي أصبح الوصول إليه ممكنا، بما في ذلك رويترز. كما زارت الموقع الهيئة الوطنية للمفقودين، وأشارت إلى أن القطيفة تم تجريفها في وقت ما بين 2018 و2021.
ولم يذكر أحد أن الخنادق كانت فارغة.
قال غزال، الذي لا يزال يعيش ويعمل في المنطقة، إن أحدا لم يأت للبحث في موقع الضمير الذي لا يغادر ذاكرته قط. وأضاف أن الكثير من السوريين يبحثون في المكان الخطأ.