المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
السبت 4 أكتوبر 2025
الاقتصاد الثقافي كقوة ناعمة.. معرض الرياض للكتاب أنموذجًا
يوسف بن ناجي- سفير غرب
بواسطة : يوسف بن ناجي- سفير غرب 01-10-2025 02:41 مساءً 3.0K
المصدر -  
اقترب موعد انطلاق معرض الرِياض الدّولي للكتاب 2025م، لتتَّجه الأنظار مجدَّدًا إلى العاصمة السّعودية التي تستعدُّ لاستقبال عشرات الآلاف من القُرَّاء والمهتمِّين بالصِّناعة الثَّقافيّة، المعرض الذي تنظِّمه هيئةُ الأدب والنّشر والتّرجمة في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرّحمن خلال المدَّة من الثّاني إلى الحادي عشر من أكتوبر، يمثّل أكثر من مجرَّد حدَثٍ سنوي لبيع الكتب، فهو مرآة تعكس التَّحوُّل الثّقافي الذي تعيشه المملكة، ومنصةٌ كبرى تَبرُزُ من خلالها القوَّةُ النَّاعمة السّعودية في أبهى صورها.
وفي السنوات الأخيرة، تحوّل المعرض إلى ظاهرةٍ ثقافيّة راسخة تضع السّعوديةَ في قلب المشهد الثّقافي العالمي، ففي نسخةِ العام الماضي، استقطب المعرضُ أكثر من مليون زائر، فيما تجاوزت المبيعاتُ المباشرة داخله ثمانيةً وعشرين مليون ريال، بحسب البيانات الرَّسمية الصّادرة عن الهيئة، وهذه الأرقام تعكس حجمَ الإقبال الجماهيريّ الكبير، لكنّها تكشف أيضًا عن دور المعرض في تنشيط الاقتصاد الثّقافي، حيث يتحوَّل إلى سوقٍ نابضة للكتاب والنّشر والحقوق الأدبيّة، إلى جانب أثرهِ غير المباشر على قطاعاتٍ أخرى مثل: السّياحة والضّيافة والفندقة.
وجاء شعار "الرياض تقرأ" تجسيدًا للحملة "السّعودية تقرأ" التي أطلقتها هيئةُ الأدب والنّشر والتّرجمة، بهدف تعزيز شغَفِ القراءة لدى المجتمع السّعودي وتشجيع الثّقافة والإبداع، وإثراء المشهد الأدبيّ والفكريّ في المملكة، ليبعث برسالة أنّ الحملة ليست دعوةً محلية فقط، بل خطابٌ سعوديٌّ موجَّه للعالم، يقول بأنّ المملكة تستثمر في المعرفة.

الوجهة الأهمُّ
ويرى مثقفون أنَّ الأرقام السَّابقة لا تمثل ذروة النَّجاح، بل بدايةً لمسارٍ قابل للتّوسُّع، مؤكدين على أنّ معرض الرّياض بات الوجهة الأكثر أهميّة للنّاشرين في المنطقة، فهو لا يقتصرُ على المبيعات المباشرة بل يفتح الباب لصفقاتِ توزيعٍ طويلة الأمد، واتفاقيّاتِ ترجمة تعزِّز حضورَ الثّقافة السّعودية خارج الحدود، مشيرين إلى أنّ الأثر الحقيقيّ يكمُن في الصّورة الذّهنيّة التي يبنيها المعرض، حيث تبدو المملكةُ من خلاله دولةً تستثمر في المعرفة وتحتضن الإبداع.
فيما أوضح ناشرون أنّ المشاركة الدّولية الواسعة هي عنصر آخر يعزّز هذا الدَّور، فنحو ألفي دارِ نشرٍ ووكالة من أكثر من خمس وعشرين دولة ستشارك في دورةِ هذا العام، وهو حضورٌ يعكس ثقة القطاع العالميّ في سوق المملكة، ويمثل جسورًا للتّبادل الثّقافي والاقتصادي، مشيرين إلى أنّ مشاركة هذا العدد من الدُّور العالميَّة في حدَث يقام في الرياض يعني أنَّ السّعودية باتت قادرة على جمع الشَّرق والغرب في منصَّة واحدة، وأنّها تستخدم الثّقافة كأداةٍ دبلوماسية فعَّالة لا تقلُّ أهميَّة عن أدواتها السّياسية والاقتصادية.
وشدَّد ناشرون على أنّ المعرض لا يقف عند حدود العناوين المعروضة على الرُّفوف، بل يتضمَّن برامج متخصّصة، تستهدف المهنيّين في صناعة الكتاب، فمنطقة الأعمال، التي أثبتت نجاحها في الدَّورات الماضية وتعود مجددًا هذا العام، تُعدَّ مختبرًا حقيقيًّا لعقد الشّراكات وإطلاق المبادرات، هنا يلتقي الوكلاء الأدبيون بالمطابع المحليّة، وتُناقش التّحدِّياتُ التي تواجه الصّناعة، ويُطرح مستقبلُ النَّشر الرَّقمي وحقوق الملكية الفكرية، مؤكّدين على أنّ المنطقة تمثّل نقطة التّحول في المعرض، لأنّها تنقله من مجرَّد مناسبة لِلقاء القرَّاء إلى منصّة اقتصاديّة متكاملة تدفع الصّناعة نحو مزيد من الاحترافية.

منصَّة أدبيّة
ويرجِّح مختصُّون أن يحافظ المعرضُ على أرقامِ حضوره المرتفعة مع إمكانيّة تسجيل نموٍّ إضافيّ، كما يتوقعون أن تتجاوز المبيعات هذا العام أرقام العام الفائت، مدفوعة بالتّحوُّل الرَّقمي في قطاع النّشر، وتَوسُّع مشاركة الدّور الأجنبية، وإطلاق مبادراتٍ جديدة لتحفيز التّرجمة، وبحسب المختصّين فإنّ الرّياض مرشَّحة لتصبح خلال سنواتٍ قليلة المنصّةَ الأولى للحقوق الأدبيّة في المنطقة العربيَّة، إذا ما استمرَّت في تطوير منطقة الأعمال وتوسيع دائرة التّعاون مع الوكالات العالميّة.

تجارب استثنائيَّة
ولا يقتصر معرضُ الرّياض الدّولي للكتاب 2025م على كونه حدثًا اقتصاديًّا وثقافيًا ضخمًا فحسب، بل يمثّل أيضًا مساحةً جامعة، تتيح للأسر والأفراد فرصةَ خوض تجربةٍ استثنائيّة تجمع بين المعرفة والتَّرفيه، كحضور العائلات إلى أروقة المعرض، واهتمامه الملموس بتخصيص أنشطةٍ موجَّهة للأطفال، إلى جانب "ركن المؤلّف السّعودي" الذي يسلِّط الضَّوء على إبداع الكُتَّاب المحلِّيين، وكلّها عناصر تُرسّخ عادة القراءة في المجتمع، وتُعيد الكِتاب إلى مكانته الطبيعيّة في حياة الأجيال الجديدة، وهذا الطَّابع الشُّمولي يعكس شعارَ الدّورة الحاليّة "الرياض تقرأ"، الذي يؤكّد أنّ القراءة ليست مجرَّد فعلٍ فرديّ، بل هي مشروعٌ وطنيٌّ لبناء الإنسان وتعزيزِ التَّماسك الاجتماعيّ.
ويتجاوز المعرضُ كونه سوقًا للكتب ليغدو فضاءً ثقافيًّا نابضًا بالحوار والإبداع، فالبرنامج الثّقافي المصاحبُ يتضَّمن أكثر من مئتي فعاليَّة تشمل النّدوات الحواريّة، والأمسيات الشِّعريّة، والورش التّدريبية، والعروض الفنيّة التي تغطي مساحاتٍ واسعةً من الأدب والفكر والفنون والتّقنية، وتأتي هذه البرامج تجسيدًا عمليًّا لرؤية المملكة 2030، والتي تسعى إلى جعل الثّقافة جزءًا أساسيًّا من حياة الفرد اليوميّة، وموردًا اقتصاديًّا مستدامًا، وهذا التّنوُّع في الفعاليّات يُعزِّز من حضور السّعودية بوصفها مركزًا إقليميًّا وعالميًّا للحوار الثّقافي، ويمنح الزُّوَّار فرصةَ الاطّلاع على تجاربَ فكريّةٍ وفنيّة ثريّة من مختلف أنحاء العالم.

البُعد الاقتصادي والسّياحي
ولا ينفصل الجانبُ الثّقافي عن الأثر الاقتصادي المباشر وغير المباشر للمعرض، فمن جهةٍ، يُعدُّ المعرض منصّةً استراتيجيّة لدعم صناعة النّشر والكتب في المنطقة العربيّة، وفتح آفاقٍ جديدة أمام دُور النَّشر والكُتَّاب والمترجمين وصُنَّاع المحتوى، ومن جهة أخرى، فإنَّ البيانات المستقاة من الدورات السابقة للمعرض تؤكِّد أنَّ المعرض يُسهم بشكل واضح في تنشيط قطاعات السّياحة والضّيافة، حيث ترتفع نسبُ إشغال الفنادق ويزداد الإقبال على المطاعم ووسائل النَّقل خلال مدّة انعقاده، وهنا يبرز ما أشار إليه مختصون في الاقتصاد حول أنّ الفعاليّات الثقافية الكبرى مثل معرض الرّياض الدّولي للكتاب تُسهم في تنويع مصادر الدَّخل الوطني، من خلال ما يُعرف بالسّياحة الثقافية؛ إذ يتجاوز إنفاقُ الزُّوّار حدودَ شراء الكتب، ليشمل مختلف جوانب الإقامة والخدمات السّياحية، وإذا ما جُمعت المبيعات المباشرة داخل المعرض مع الإنفاق غير المباشر، فإن الأثر الاقتصاديّ يتضاعف بصورةٍ لافتة.

دور استراتيجي ضمن رؤية 2030
ويعكس المعرض بوضوحٍ ما نصّت عليه الأهداف الاستراتيجية لهيئة الأدب والنّشر والتّرجمة، والمتمثّلة في تعزيز مكانة الثقافة كأحد محركاتِ التَّنمية المستدامة، ودعم نموِّ الأعمال التّجارية في قطاع الكتب، وتوسيع حضور المحتوى العربي إقليميًّا وعالميًّا، فهو ليس مجرَّد منصّة سنويَّة لتسويق الكتب، بل تجربة ثقافيّة متكاملة تُسهم في بناء مجتمعٍ معرفيٍّ عالميّ التأثير، ومن خلال استضافة نخبةٍ من الناشرين والكُتَّاب والمفكرين من مختلف دول العالم، يُرسِّخ المعرض مكانة الرّياض كعاصمة للثقافة، ويمنح المملكة موقعًا محوريًّا في صياغة المشهد الثقافيّ العربيّ والعالميّ.
كما يقدّم المعرض نموذجًا حيًّا للاقتصاد الثقافيّ كأداة للقوَّة النّاعمة، فهو يجمع بين البعد الاقتصادي المباشر من خلال المبيعات والصّفقات، والبعد الثقافي عبر تعزيز القراءة والحوار، والبعد الدّبلوماسي من خلال المشاركة الدّولية الواسعة، وهذا التّكامل يجعل المعرض أكثر من مناسبةٍ ثقافيّة، بل حدثًا استراتيجيًّا يرسّخ مكانة السّعودية كقوة ثقافيّة صاعدة في المشهد العالميّ، وبينما تواصل المملكة استثماراتها في الاستراتيجيّة الوطنيّة للثقافة، يبقى المعرض واجهةً مضيئة تعكس التّحولات العميقة وتفتح آفاقًا أوسع لمستقبلٍ تكون فيه الرّياض عاصمةً عالميَّة للثقافة والنشر والإبداع.