المصدر -
ظل المسلمون متمسكين بالمنهج الشرعي لترائي الأهلة منذ أكثر من 1440 عامًا من خلال حساب دخول الأشهر الهجرية وفقًا للسنة القمرية لارتباطها بأمور العبادات إذ قال تعالى ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج )، وبني على هذا الأساس “التقويم الهجري” الذي اجتهد فيه علماء الفلك منذ قرون مضت لإجراء قياسات دقيقة لدورة القمر من المحاق إلى المحاق حول الأرض حيث تتغير خلاله أطوار منازله لنعلم به عدد السنين والأشهر والأيام، كما قال تعالى ( ولتعلموا عدد السنين والحساب ).
والقمر ذلك الجُرم المُظلم الذي يضيء سماء الأرض ليلاً نتيجة انعكاس ضوء الشمس عليه من العلامات المهمّة في دراسة المواقيت على الأرض، ودورانه حول الأرض يغيّر المساحة العاكسة لضوء الشمس للأرض، فيزيد حجمه المضيء وتظهر مراحله وأطواره التي أسندت إليها الشريعة الإسلامية معرفة أوقات العبادات، إذ قال تعالى: ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار ِ).
وربط العبادات برصد الأهلة يتطلب معرفة الزمن، ومن أجل ذلك بدأ المسلمون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – باستحداث تاريخ خاص بالأمة الإسلامية بعد أن كان قبل الإسلام يُؤرخ بأهم الأحداث التي كانت تحدث بينهم، واتفق الصحابة – رضوان الله عليهم – على أن يبدأ بعام هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ووافق بداية التاريخ الإسلامي شهر يوليو عام 622 ميلادية.
والتقويم الهجري هو تقويم قمري يعتمد على دوران القمر حول الأرض، وعدد شهور سنته 12 شهرًا، كما ورد في كتاب الله تعالى، وتمكن العلماء المسلمون على مر الأزمنة من استنباط تقويم اصطلاحي يعتمد على حركة القمر، وكثفوا قياساتهم وتقديراتهم لدورة القمر حول الأرض دورة كاملة، فكانت أدق قيمة توصلوا إليها تساوي 29 يومًا و 12 ساعة و 44 دقيقة، وأصبح طول السنة القمرية 354 يومًا و8.8 ساعات مع وجود جبر لكسور الفائض من الأيام المتكاملة في السنة.
وأكد المؤرخون في الجزيرة العربية أن الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – يُعد المؤسس الأول للفلك بشكل رسمي ومنظم في المملكة العربية السعودية حيث أمر يرحمه الله بطبع كتاب “تقويم الأوقات لعرض نجد” وكتاب “تقويم الأوقات لعرض المملكة العربية السعودية”، وهذان الكتابان هما اللبنة الأولى للتقويم في المملكة حيث دمجا بتقويم أم القرى، وصدر أول عدد من التقويم عام 1346هـ.
لكن أقدم المعايير لرصد بدايات الأشهر القمرية تعود إلى البابليين بحسب ما ذُكر في مؤلفات عالم الفلك السعودي البروفيسور حسن باصرة – رحمه الله – حيث صنعوا معيارًا خاصًا بهم حددوا من خلاله البُعد الزاوي بين الشمس والقمر لحظة غروب الشمس في 12 درجة تقريبًا أي أن القمر يغرب بعد الشمس بنحو 48 دقيقة، ولم يختلف عنهم المعيار الهندي عدا ما تطرقوا فيه إلى أهمية الاعتماد على حجم الهلال.
وكان العالم الخوارزمي ( 215 هـ ) من أوائل الفلكيين المسلمين الذي طوروا جداول للتحقق من إمكانية رؤية الهلال إذ وضع بعض القواعد الرياضية لتوقعات الرؤية، ولحقه موسى القرطبي ( 247 هـ ) ثم ثابت بن قرّة ( 288 هـ )، والبتاني ( 317 هـ ) والبيروني ( 440 هـ )، واستمر الحال في التطور حتى بداية القرن الـ 20 ، حيث استخدم عالم الفلك فثرنهام أرصادًا أخذت في أثينا خلال الأعوام من 1859 – 1880 م.
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم اتسم رصد الأهلة بالعلم والمعرفة وعدم التكلف فمن رأى الهلال أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان الرائي عدلاً فإنه يُعتد بشهادته في إثبات دخول الشهر، ويشترط شاهدان عدلان فأكثر لإثبات دخول الشهر ماعدا دخول شهر رمضان حيث يكتفى بشهادة شاهد واحد عدل، ولا زال المسلمون على ذلك في ترائي الأهلة حتى وقتنا الحالي إلا أن مثل هذه الاجتهادات تحتاج إلى صفات بُعد نظر في مجال العلوم وحدة بصر في العينين.
وبخلاف ما ذكرت كُتب التراث عن زرقاء اليمامة التي يضرب المثل بها في قوة بصرها، واُشتهرت بلون عينيها الزرقاوين هي واثنتين من نساء العرب : الزّباء والبسوس، فقد كان العرب يُميزون حاد البصر بعدة طرق منها إمكانية رؤيته نجوم الثريا، إذ تراها العين العادية ستة نجوم بينما تراها العين الحادة سبعة نجوم، مثلما أنشد أبو العباس المبرد : إذا ما الثريا في السماء تعرضت.. يراها حديد العين سبعة أنجم.
وأولت المملكة جل اهتمامها بعملية ترائي الأهلة لارتباطها بعبادات المسلمين، فأوكلت هذه المهمة للمحكمة العليا التي تقف على ضمان موثوقية الترائي من خلال معايير عدة منها المعيار الطبي، حيث يخضع المترائي لتجربة طويلة واختبار طبي لفحص حدة النظر بحسب ما ذكر لـ “واس” معالي رئيس المحكمة العليا الشيخ الدكتور خالد بن عبدالله اللحيدان، ثم تُعرض أوراقه على اللجنة الإشرافية الدائمة لرصد الأهلة بوزارة العدل المعتمدة بأمر سامِ ويتابع أعمالها معالي وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني.
ومن جهة الطب الحديث يُمكن اختبار قياس حدة النظر وتمييز الأشكال عن طريق مخطط سنيلين (snellen chart) وهو مقياس عالمي مُوحد يُجرى على بعد 6 أمتار ( 20 قدمًا ) لأن عملية الإبصار عملية معقدة كما قال استشاري طب وجراحة العيون الدكتور إبراهيم العبيداء، وتتم بواسطة تحليل الموجات الضوئية الداخلة للعين ثم نقلها عن طريق عصب العين للدماغ، ولكي يكون البصر سليمًا يجب أن تكون جميع الأجزاء التي يمر بها الضوء سليمة.
وفي ظل هذه المعايير الدقيقة لاختيار المترائين فإن احتمالية وجود حالة خداع بصرية قد تعتري بعضهم يقل شأنها عند بعض الفلكيين لكنها تبقى محل نقاش علمي كما عرض البروفيسور حسن باصرة – رحمه الله – في إحدى مشاركاته حيث قال إن الهلال قد يظهر فوق الأفق الغربي على الرغم من غروبه قبل الشمس تحت تأثير ما يسمّى “السراب المتعالي” الذي يتسبب في إظهار صور خيالية مرتفعة في السماء فوق الأجرام الأصلية.
ولم تخالف الشريعة الإسلامية الاندماج مع العلوم الأخرى بل كانت منسجمة معها لذا كانت فكرة ربط التقنية بالترائي من الموضوعات التي يناقشها أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة ليعطوا الرأي الراجح فيها بعد البحث والتقصي وعليه أجازت الهيئة عام 1403هـ الاستعانة بالمراصد الفلكية وحددت الفرق بين الشهر القمري عند علماء الشريعة وعلماء الحساب، ونُشر البحث في مجلد أبحاث الهيئة عام 2013، كما أصدر مجلس الوزراء عام 1418 هـ لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية.
ويبدأ الشهر عند علماء الشريعة منذ غروب الشمس اليوم التاسع والعشرين إذا رُئي الهلال بعد غروبها أو كماله 30 يوما من تاريخ الرؤية السابقة إلى بدء الشهر الذي بعده بمثل هذا، فالمدار فيه على الرؤية بالفعل مع الغروب عند عامة الجمهور أو إمكان الرؤية عند جماعة من الفقهاء.
بينما يبدأ الشهر عند علماء الحساب من ولادة القمر بمفارقته للشمس وتأخره عنها في السير إلى اجتماعه بها ولو كانت ولادته نهارًا إذ إن العبرة لديهم في الافتراق والاجتماع ولا يكون ذلك إلا مرة واحدة في كل شهر قمري، وبهذا يتبين أن بدْأه عند علماء الشريعة ونهايته لا يكون إلا بغروب الشمس بخلاف بدئه ونهايته عند علماء الحساب إذ قد يكون نهارًا أو ليلاً.
وبيّن معالي الشيخ الدكتور خالد اللحيدان أن الاعتماد في ثبوت دخول الشهر الهجري من عدمه يتم على رؤية الهلال بعد غروب الشمس لقوله عليه الصلاة والسلام :”صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” لأنه الأصل في ذلك اتباعاً للسنة في اعتماد الرؤية، مشددًا على أن العلم الحديث لا يتصادم إطلاقًا مع الشريعة السمحة الصالحة لكل زمان ومكان، ولا تُقبل شهادة غير صحيحة تخالف الحس والواقع.
وفي ذلك قال رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية البروفيسور سعد بن تركي الخثلان : يكون الترائي بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من الشهر الهجري القمري فإذا رؤي الهلال بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين ولو بدقيقة واحدة فيكون الشهر ناقصًا أي 29 يومًا، وتكون تلك الليلة ليلة الشهر التالي.
ويقول معالي الشيخ الدكتور خالد اللحيدان إنه يتم ندب قضاة للشخوص مع المترائين في موقع الترائي بالمراصد المنتشرة في مناطق المملكة التي تشرف عليها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بمشاركة نخبة من المختصين في رصد الأهلة وعدد من الاختصاصيين في علم الفلك ممن يحملون شهادة الدكتوراه في هذا التخصص، ومندوبي الجهات الحكومية مع العناية الفائقة في اختيار مواقع هذه المراصد حيث تخضع لمعايير : جغرافية، وعلمية، وفلكية تُسهِّل عملية الترائي للوقوف على دقة هذه المراصد من رؤية للهلال أو عدمه.
وانطلاقًا من أهمية استخدام الأجهزة التقنية في الترائي على أساس أنها تعمل على إيضاح موجود لا إيجاد مفقود، تضم المراصد الفلكية للمدينة أجهزة مزودة بأحدث التقنيات والتلسكوبات والمناظير والكاميرات الحرارية من نوع (CCD) لتعمل هي ومرصد جامعة المجمعة على رصد الأهلة، إلى جانب المرصد الحديث في برج ساعة مكة المكرمة الذي ينتظر العمل به، وتُربط هذه المراصد بالبث المرئي المباشر مع المحكمة العليا أثناء انعقاد الجلسة عند بدء عملية الرصد والترائي بينما يقوم الفريق المختص بإعداد التقارير الخاصة بأحوال القمر.
وتتابع المحكمة العليا رصد الأهلة تقنيًا في أيام الترائي منذ وقت مبكر، وكذلك التقارير الفلكية والحسابية الصادرة من الجهات الحكومية عن ولادة القمر ووقت غروب الشمس والقمر ومكثه ودرجته، والأحوال الجوية في كل منطقة من مناطق الرصد لمعرفة مدى إمكانية الرؤية من عدمه، ولا تقبل شهادة الرائي على عواهنها بل أفاد معالي الشيخ خالد اللحيدان أن اللجنة تناقشه للتحقق من صحة رؤيته قبيل الإعلان عن رؤية الهلال.
وفي ظل التطور التقني الهائل في مجال استخدامات أجهزة الرصد الإلكترونية يقوم الفلكيون حاليًا عند رصدهم للأهلة باستخدام الحاسب الآلي لتحديد متغيرات كثيرة منها : مواعيد شروق وغروب الشمس والقمر ومواضع الشروق والغروب، والزاوية بين الشمس، وشدة استضاءته، ومسار الهلال في السماء بدقة عالية، وذلك حسب الإحداثيات السماوية، وفقًا لأستاذ علم الفلك في المركز الوطني للفلك والملاحة التابع لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية البروفيسور زكي بن عبدالرحمن المصطفى.
ويُعد المركز الوطني للفلك والملاحة رائدًا في مجال رصد الأهلة على المستوى العالمي، ونشر العديد من الأوراق العلمية في الدوريات المحكمة، وينشر بيانات الأهلة في كتيب يعد لهذا الخصوص سنويًا، ووفرت المدينة لرصد الأهلة مراصد موزعة في عدد من مناطق المملكة منها الثابتة في مكة المكرمة “مرصد أم القرى” وفي تبوك ” الوجه، وحالة عمار” والباقي متحركة في كل من الرياض ” سدير، تمير، وشقراء” والقصيم، والدمام، والمدينة المنورة، وحائل.
وتمكن البروفيسور زكي المصطفى وفريق العمل معه من رصد الهلال عدة مرات في وضح النهار بالكاميرات عالية الحساسية، وجرى تتبعه حتى مغيب الشمس، وحصل الفريق على براءتي اختراع إزاء هذه الخطوة العلمية، فيما لايزال العمل يجري على تطوير هذا التقنية للرصد في الظروف المناخية الصعبة مثل الغيوم والغبار وذلك بتصميم مرشحات خاصة (فلاتر).
وأفاد أن تقويم أم القرى اعتمد في إعداده على تحقيق الشروط العلمية المتوافقة مع الشروط الشرعية بالجمع بين ولادة القمر ومفارقته للشمس أي أنه يغرب بعدها على إحداثيات الكعبة المشرفة، وهي المرة الأولى في التاريخ الإسلامي يتم إعداد تقويم بهذه الشروط، مبينًا أنه من أساسيات رصد الأهلة حدوث ولادة الهلال أو بما يُسمى الاقتران قبل مغيب الشمس ومغيب القمر بعد مغيب الشمس في مكان الرصد.
ولم يكن اهتمام المملكة بالأمور الشرعية المتعلقة بالأهلة وليد التطور فحسب، بل كان امتدادًا لعهد الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – الذي دعم فكرة الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة – رحمه الله – المدرّس في المسجد الحرام في إنشاء مرصد فلكي على رأس جبل أبي قبيس بمكة المكرمة للاستعانة بآلاته على إثبات رؤية هلال شهري رمضان وذي الحجة حيث عُرضت الفكرة آنذاك على ولي العهد الأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – فوجه في 23 رمضان عام 1367هـ ببناء غرفة خاصة للمرصد على قمة جبل أبي قبيس.
وفي مقدمة هذه الآلات التي تعين على رصد الأهلة وجُلبت من خارج المملكة جهاز “البارومتر” لقياس ارتفاعات المرتفعات الطبيعية كالجبال والصحاري والهضاب عن سطح البحر، و”الثيودوليت” لقياس الميل والصعود المستقيم للأجرام السماوية، و”ساعة كرونومتر” المستخدمة في سفن البحار وتركب في صندوقين من الخشب لمنع تأثير الحركة والاهتزاز عليها وضُبطت بها ساعة “بيج بن” البريطانية عام 1948م التي تعمل على مرصد جرينتش البريطاني.
كما برزت أجهزة أخرى نشرتها صحيفة أم القرى على لسان الشيخ محمد حمزة في شهر أغسطس 1948م مثل: “السكستان” التي تستخدم في السفن البحرية لقياس ارتفاع الكواكب والنجوم والشمس والقمر عن الأفق السماوي بدقة الدرجات والدقائق والثواني، و”التلسكوب” وهو المنظار المقرب لرؤية صغار الكواكب السيارة وتوابعها من الأقمار، وكوكب زحل، والقمر، والشمس.
وبرز عدد من المهتمين بعلوم الفلك في عهد الملك عبدالعزيز – رحمه الله – من طلبة العلم الشرعي مثل : الشيخ حمد بن رميح المولود عام 1263هـ الذي سافر إلى بلدان عدة لطلب العلم ونبغ في العلوم الشرعية واللغة العربية وعلوم الفلك وكان مرجعًا لأهل نجد في ذلك، والشيخ عبدالله الخلفي المولود عام 1300هـ وله مخطوط في علم الفلك، والشيخ صالح بن سحمان المولود عام 1320هـ، وله كتاب بعنوان ” التقويم المبتكر المصفى الأوفى
والقمر ذلك الجُرم المُظلم الذي يضيء سماء الأرض ليلاً نتيجة انعكاس ضوء الشمس عليه من العلامات المهمّة في دراسة المواقيت على الأرض، ودورانه حول الأرض يغيّر المساحة العاكسة لضوء الشمس للأرض، فيزيد حجمه المضيء وتظهر مراحله وأطواره التي أسندت إليها الشريعة الإسلامية معرفة أوقات العبادات، إذ قال تعالى: ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار ِ).
وربط العبادات برصد الأهلة يتطلب معرفة الزمن، ومن أجل ذلك بدأ المسلمون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – باستحداث تاريخ خاص بالأمة الإسلامية بعد أن كان قبل الإسلام يُؤرخ بأهم الأحداث التي كانت تحدث بينهم، واتفق الصحابة – رضوان الله عليهم – على أن يبدأ بعام هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ووافق بداية التاريخ الإسلامي شهر يوليو عام 622 ميلادية.
والتقويم الهجري هو تقويم قمري يعتمد على دوران القمر حول الأرض، وعدد شهور سنته 12 شهرًا، كما ورد في كتاب الله تعالى، وتمكن العلماء المسلمون على مر الأزمنة من استنباط تقويم اصطلاحي يعتمد على حركة القمر، وكثفوا قياساتهم وتقديراتهم لدورة القمر حول الأرض دورة كاملة، فكانت أدق قيمة توصلوا إليها تساوي 29 يومًا و 12 ساعة و 44 دقيقة، وأصبح طول السنة القمرية 354 يومًا و8.8 ساعات مع وجود جبر لكسور الفائض من الأيام المتكاملة في السنة.
وأكد المؤرخون في الجزيرة العربية أن الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – يُعد المؤسس الأول للفلك بشكل رسمي ومنظم في المملكة العربية السعودية حيث أمر يرحمه الله بطبع كتاب “تقويم الأوقات لعرض نجد” وكتاب “تقويم الأوقات لعرض المملكة العربية السعودية”، وهذان الكتابان هما اللبنة الأولى للتقويم في المملكة حيث دمجا بتقويم أم القرى، وصدر أول عدد من التقويم عام 1346هـ.
لكن أقدم المعايير لرصد بدايات الأشهر القمرية تعود إلى البابليين بحسب ما ذُكر في مؤلفات عالم الفلك السعودي البروفيسور حسن باصرة – رحمه الله – حيث صنعوا معيارًا خاصًا بهم حددوا من خلاله البُعد الزاوي بين الشمس والقمر لحظة غروب الشمس في 12 درجة تقريبًا أي أن القمر يغرب بعد الشمس بنحو 48 دقيقة، ولم يختلف عنهم المعيار الهندي عدا ما تطرقوا فيه إلى أهمية الاعتماد على حجم الهلال.
وكان العالم الخوارزمي ( 215 هـ ) من أوائل الفلكيين المسلمين الذي طوروا جداول للتحقق من إمكانية رؤية الهلال إذ وضع بعض القواعد الرياضية لتوقعات الرؤية، ولحقه موسى القرطبي ( 247 هـ ) ثم ثابت بن قرّة ( 288 هـ )، والبتاني ( 317 هـ ) والبيروني ( 440 هـ )، واستمر الحال في التطور حتى بداية القرن الـ 20 ، حيث استخدم عالم الفلك فثرنهام أرصادًا أخذت في أثينا خلال الأعوام من 1859 – 1880 م.
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم اتسم رصد الأهلة بالعلم والمعرفة وعدم التكلف فمن رأى الهلال أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان الرائي عدلاً فإنه يُعتد بشهادته في إثبات دخول الشهر، ويشترط شاهدان عدلان فأكثر لإثبات دخول الشهر ماعدا دخول شهر رمضان حيث يكتفى بشهادة شاهد واحد عدل، ولا زال المسلمون على ذلك في ترائي الأهلة حتى وقتنا الحالي إلا أن مثل هذه الاجتهادات تحتاج إلى صفات بُعد نظر في مجال العلوم وحدة بصر في العينين.
وبخلاف ما ذكرت كُتب التراث عن زرقاء اليمامة التي يضرب المثل بها في قوة بصرها، واُشتهرت بلون عينيها الزرقاوين هي واثنتين من نساء العرب : الزّباء والبسوس، فقد كان العرب يُميزون حاد البصر بعدة طرق منها إمكانية رؤيته نجوم الثريا، إذ تراها العين العادية ستة نجوم بينما تراها العين الحادة سبعة نجوم، مثلما أنشد أبو العباس المبرد : إذا ما الثريا في السماء تعرضت.. يراها حديد العين سبعة أنجم.
وأولت المملكة جل اهتمامها بعملية ترائي الأهلة لارتباطها بعبادات المسلمين، فأوكلت هذه المهمة للمحكمة العليا التي تقف على ضمان موثوقية الترائي من خلال معايير عدة منها المعيار الطبي، حيث يخضع المترائي لتجربة طويلة واختبار طبي لفحص حدة النظر بحسب ما ذكر لـ “واس” معالي رئيس المحكمة العليا الشيخ الدكتور خالد بن عبدالله اللحيدان، ثم تُعرض أوراقه على اللجنة الإشرافية الدائمة لرصد الأهلة بوزارة العدل المعتمدة بأمر سامِ ويتابع أعمالها معالي وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني.
ومن جهة الطب الحديث يُمكن اختبار قياس حدة النظر وتمييز الأشكال عن طريق مخطط سنيلين (snellen chart) وهو مقياس عالمي مُوحد يُجرى على بعد 6 أمتار ( 20 قدمًا ) لأن عملية الإبصار عملية معقدة كما قال استشاري طب وجراحة العيون الدكتور إبراهيم العبيداء، وتتم بواسطة تحليل الموجات الضوئية الداخلة للعين ثم نقلها عن طريق عصب العين للدماغ، ولكي يكون البصر سليمًا يجب أن تكون جميع الأجزاء التي يمر بها الضوء سليمة.
وفي ظل هذه المعايير الدقيقة لاختيار المترائين فإن احتمالية وجود حالة خداع بصرية قد تعتري بعضهم يقل شأنها عند بعض الفلكيين لكنها تبقى محل نقاش علمي كما عرض البروفيسور حسن باصرة – رحمه الله – في إحدى مشاركاته حيث قال إن الهلال قد يظهر فوق الأفق الغربي على الرغم من غروبه قبل الشمس تحت تأثير ما يسمّى “السراب المتعالي” الذي يتسبب في إظهار صور خيالية مرتفعة في السماء فوق الأجرام الأصلية.
ولم تخالف الشريعة الإسلامية الاندماج مع العلوم الأخرى بل كانت منسجمة معها لذا كانت فكرة ربط التقنية بالترائي من الموضوعات التي يناقشها أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة ليعطوا الرأي الراجح فيها بعد البحث والتقصي وعليه أجازت الهيئة عام 1403هـ الاستعانة بالمراصد الفلكية وحددت الفرق بين الشهر القمري عند علماء الشريعة وعلماء الحساب، ونُشر البحث في مجلد أبحاث الهيئة عام 2013، كما أصدر مجلس الوزراء عام 1418 هـ لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية.
ويبدأ الشهر عند علماء الشريعة منذ غروب الشمس اليوم التاسع والعشرين إذا رُئي الهلال بعد غروبها أو كماله 30 يوما من تاريخ الرؤية السابقة إلى بدء الشهر الذي بعده بمثل هذا، فالمدار فيه على الرؤية بالفعل مع الغروب عند عامة الجمهور أو إمكان الرؤية عند جماعة من الفقهاء.
بينما يبدأ الشهر عند علماء الحساب من ولادة القمر بمفارقته للشمس وتأخره عنها في السير إلى اجتماعه بها ولو كانت ولادته نهارًا إذ إن العبرة لديهم في الافتراق والاجتماع ولا يكون ذلك إلا مرة واحدة في كل شهر قمري، وبهذا يتبين أن بدْأه عند علماء الشريعة ونهايته لا يكون إلا بغروب الشمس بخلاف بدئه ونهايته عند علماء الحساب إذ قد يكون نهارًا أو ليلاً.
وبيّن معالي الشيخ الدكتور خالد اللحيدان أن الاعتماد في ثبوت دخول الشهر الهجري من عدمه يتم على رؤية الهلال بعد غروب الشمس لقوله عليه الصلاة والسلام :”صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” لأنه الأصل في ذلك اتباعاً للسنة في اعتماد الرؤية، مشددًا على أن العلم الحديث لا يتصادم إطلاقًا مع الشريعة السمحة الصالحة لكل زمان ومكان، ولا تُقبل شهادة غير صحيحة تخالف الحس والواقع.
وفي ذلك قال رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية البروفيسور سعد بن تركي الخثلان : يكون الترائي بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من الشهر الهجري القمري فإذا رؤي الهلال بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين ولو بدقيقة واحدة فيكون الشهر ناقصًا أي 29 يومًا، وتكون تلك الليلة ليلة الشهر التالي.
ويقول معالي الشيخ الدكتور خالد اللحيدان إنه يتم ندب قضاة للشخوص مع المترائين في موقع الترائي بالمراصد المنتشرة في مناطق المملكة التي تشرف عليها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بمشاركة نخبة من المختصين في رصد الأهلة وعدد من الاختصاصيين في علم الفلك ممن يحملون شهادة الدكتوراه في هذا التخصص، ومندوبي الجهات الحكومية مع العناية الفائقة في اختيار مواقع هذه المراصد حيث تخضع لمعايير : جغرافية، وعلمية، وفلكية تُسهِّل عملية الترائي للوقوف على دقة هذه المراصد من رؤية للهلال أو عدمه.
وانطلاقًا من أهمية استخدام الأجهزة التقنية في الترائي على أساس أنها تعمل على إيضاح موجود لا إيجاد مفقود، تضم المراصد الفلكية للمدينة أجهزة مزودة بأحدث التقنيات والتلسكوبات والمناظير والكاميرات الحرارية من نوع (CCD) لتعمل هي ومرصد جامعة المجمعة على رصد الأهلة، إلى جانب المرصد الحديث في برج ساعة مكة المكرمة الذي ينتظر العمل به، وتُربط هذه المراصد بالبث المرئي المباشر مع المحكمة العليا أثناء انعقاد الجلسة عند بدء عملية الرصد والترائي بينما يقوم الفريق المختص بإعداد التقارير الخاصة بأحوال القمر.
وتتابع المحكمة العليا رصد الأهلة تقنيًا في أيام الترائي منذ وقت مبكر، وكذلك التقارير الفلكية والحسابية الصادرة من الجهات الحكومية عن ولادة القمر ووقت غروب الشمس والقمر ومكثه ودرجته، والأحوال الجوية في كل منطقة من مناطق الرصد لمعرفة مدى إمكانية الرؤية من عدمه، ولا تقبل شهادة الرائي على عواهنها بل أفاد معالي الشيخ خالد اللحيدان أن اللجنة تناقشه للتحقق من صحة رؤيته قبيل الإعلان عن رؤية الهلال.
وفي ظل التطور التقني الهائل في مجال استخدامات أجهزة الرصد الإلكترونية يقوم الفلكيون حاليًا عند رصدهم للأهلة باستخدام الحاسب الآلي لتحديد متغيرات كثيرة منها : مواعيد شروق وغروب الشمس والقمر ومواضع الشروق والغروب، والزاوية بين الشمس، وشدة استضاءته، ومسار الهلال في السماء بدقة عالية، وذلك حسب الإحداثيات السماوية، وفقًا لأستاذ علم الفلك في المركز الوطني للفلك والملاحة التابع لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية البروفيسور زكي بن عبدالرحمن المصطفى.
ويُعد المركز الوطني للفلك والملاحة رائدًا في مجال رصد الأهلة على المستوى العالمي، ونشر العديد من الأوراق العلمية في الدوريات المحكمة، وينشر بيانات الأهلة في كتيب يعد لهذا الخصوص سنويًا، ووفرت المدينة لرصد الأهلة مراصد موزعة في عدد من مناطق المملكة منها الثابتة في مكة المكرمة “مرصد أم القرى” وفي تبوك ” الوجه، وحالة عمار” والباقي متحركة في كل من الرياض ” سدير، تمير، وشقراء” والقصيم، والدمام، والمدينة المنورة، وحائل.
وتمكن البروفيسور زكي المصطفى وفريق العمل معه من رصد الهلال عدة مرات في وضح النهار بالكاميرات عالية الحساسية، وجرى تتبعه حتى مغيب الشمس، وحصل الفريق على براءتي اختراع إزاء هذه الخطوة العلمية، فيما لايزال العمل يجري على تطوير هذا التقنية للرصد في الظروف المناخية الصعبة مثل الغيوم والغبار وذلك بتصميم مرشحات خاصة (فلاتر).
وأفاد أن تقويم أم القرى اعتمد في إعداده على تحقيق الشروط العلمية المتوافقة مع الشروط الشرعية بالجمع بين ولادة القمر ومفارقته للشمس أي أنه يغرب بعدها على إحداثيات الكعبة المشرفة، وهي المرة الأولى في التاريخ الإسلامي يتم إعداد تقويم بهذه الشروط، مبينًا أنه من أساسيات رصد الأهلة حدوث ولادة الهلال أو بما يُسمى الاقتران قبل مغيب الشمس ومغيب القمر بعد مغيب الشمس في مكان الرصد.
ولم يكن اهتمام المملكة بالأمور الشرعية المتعلقة بالأهلة وليد التطور فحسب، بل كان امتدادًا لعهد الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – الذي دعم فكرة الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة – رحمه الله – المدرّس في المسجد الحرام في إنشاء مرصد فلكي على رأس جبل أبي قبيس بمكة المكرمة للاستعانة بآلاته على إثبات رؤية هلال شهري رمضان وذي الحجة حيث عُرضت الفكرة آنذاك على ولي العهد الأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – فوجه في 23 رمضان عام 1367هـ ببناء غرفة خاصة للمرصد على قمة جبل أبي قبيس.
وفي مقدمة هذه الآلات التي تعين على رصد الأهلة وجُلبت من خارج المملكة جهاز “البارومتر” لقياس ارتفاعات المرتفعات الطبيعية كالجبال والصحاري والهضاب عن سطح البحر، و”الثيودوليت” لقياس الميل والصعود المستقيم للأجرام السماوية، و”ساعة كرونومتر” المستخدمة في سفن البحار وتركب في صندوقين من الخشب لمنع تأثير الحركة والاهتزاز عليها وضُبطت بها ساعة “بيج بن” البريطانية عام 1948م التي تعمل على مرصد جرينتش البريطاني.
كما برزت أجهزة أخرى نشرتها صحيفة أم القرى على لسان الشيخ محمد حمزة في شهر أغسطس 1948م مثل: “السكستان” التي تستخدم في السفن البحرية لقياس ارتفاع الكواكب والنجوم والشمس والقمر عن الأفق السماوي بدقة الدرجات والدقائق والثواني، و”التلسكوب” وهو المنظار المقرب لرؤية صغار الكواكب السيارة وتوابعها من الأقمار، وكوكب زحل، والقمر، والشمس.
وبرز عدد من المهتمين بعلوم الفلك في عهد الملك عبدالعزيز – رحمه الله – من طلبة العلم الشرعي مثل : الشيخ حمد بن رميح المولود عام 1263هـ الذي سافر إلى بلدان عدة لطلب العلم ونبغ في العلوم الشرعية واللغة العربية وعلوم الفلك وكان مرجعًا لأهل نجد في ذلك، والشيخ عبدالله الخلفي المولود عام 1300هـ وله مخطوط في علم الفلك، والشيخ صالح بن سحمان المولود عام 1320هـ، وله كتاب بعنوان ” التقويم المبتكر المصفى الأوفى