المصدر -
لما كان مفهوم المواطنة باعتباره تعبيرًا عن الولاء والانتماء التي ترتبط بمدنية الإنسان، قد نشأ منذ تشكل التجمعات الإنسانية - فإن تطوره وتجدده قد تحقق من خلال التغير والتحديث في وقع البيئة الإنسانية في تفاعلاتها المرتبطة باتساع رقعة التمدن نتيجة وعي الإنسان، وذلك حتى أضحت ثقافة تستوعب منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات التي تتسع وتضيق حسب درجة التحضر التي بلغها المجتمع في تكريمه وتوقيره لإنسانية الإنسان.
وإن مفهوم المواطنة هو تعبير عن الولاء والانتماء، من خلال تعبيرات قولية وسلوكية تبرز جانب الاتصال بالكينونة التي تتسم بالعديد من الخصائص والسمات التي تميزها عن غيرها، وهي تتفاوت من حيث أفضلية بعضها على بعضها، فتتأطر بذلك ضمن نطاق غير واضح المعالم، وقابل للتغير في بعض عناصره إن لم يكن في جميعها.
فإن القضية في مفهوم المواطنة ليست قضية انتماء هش، يقوم على مشاعر تعبر عن الولاء، إذ الانتماء والولاء إذا خلا من المصداقية القائمة على الوعي والثقافة والممارسة، فإنه يبقى بعيدا عن تحقيق المواطنة الرشيدة الكفيلة بتعزيز التنمية في المجتمع في مختلف نطاق تفاعلاته.
وإن وثيقة المدينة أو دستورها يضع أساسا جديدا لحق المواطنة، لا يقوم على قرابة الدم أو صلة العقيدة، وإنما يتكون حق المواطنة فيه من عنصرين كلاهما إيجابي، فأما العنصر الأول، فهو الانتماء إلى الإقليم، وأما العنصر الثاني، فهو الوفاء بالالتزام.
وأيضًا فإن دلالات النصوص القرآنية تقرر أن الوطن (الديار) قرينًا للروح، كما اعتبرت الإخراج منه لا يقل منزلة عن القتل سواء بسواء، وقررت أن الخروج من الوطن قهرًا نصرة للدين من أعلى مراتب الإيثار، كما أكدت على أن من خرج من وطنه، فإنه يستحق نصرة الله له، وأن من حب الوطن الدعاء له بالأمن وسعة الرزق.
وكذلك فإن دلالات السنة النبوية تقرر في دلالاتها لمفهوم الوطن ضرورة إظهار الحب والشوق للوطن، وإعلان الحنين إلى الوطن والتغني بحبه، كما تؤكد أهمية حب ما في الوطن من معالم لها في النفوس ذكريات ومواقف، وتقرر كذلك الحث على ملازمة الوطن، وفي ذات الوقت إعلان الولاء للوطن الجديد والتعلق به، مع بقاء الولاء للوطن الأصلي
والجديد، ومن خلال ما قررته نصوص الكتاب والسنة من أبعاد لدلالات مفهوم المواطنة، أن حب الوطن وإظهار الشوق إليه عبادة ربانية ترتبط بحاجة الفطرة الإنسانية في صناعة العلاقة بين المنبت والمنبت، كما أن الهوية الوطنية لا يمكن أن تتشكل مهما جمعتها القواسم المشتركة من أيديولوجية واحدة أو توجه فكري واحد، بل هي عبارة عن مجموعة من الأيديولوجيات المتناغمة غالبا بنسب متفاوتة ما بين مجتمع وآخر، حسب تصنيفه كمجتمع متجانس أو تعددي، أو فسيفسائي.
هذا فضلاً عن أن هذا المفهوم باعتباره مجموعة من الأيديولوجيات لا يعد مفهومًا مطلقًا، بل هو مفهوم يتشكل حسب الفترة التاريخية التي نشأ فيها، وحسب الواقع الاجتماعي الذي يسود فيه.
وفي ظل اتساع نطاق تحديات الواقع المعاصر الذي شاعت فيه المفاهيم الغربية في المواطنة والممارسة السياسية، فإن التجربة العتيدة الممتدة لأمة الإسلام لا ينبغي القفز عليها، ولكن ينبغي تطويرها وفق متطلبات العصر في ظل تسارع المدنية والحداثة، وما يفرضه شكل الدولة المعاصر من قوانين وتشريعات.
*
و إن تحقيق المقاصد الكفيلة بدعم مقتضيات إنسانية الإنسان، تستلزم تحقيق توازن كفيل بدعم معايير الموضوعية، تجنبًا للإفراط والتفريط، وابتعادًا عن المثالية، وتحقيقًا للواقعية المدروسة المنطلقة من معطيات الواقعة، والمستشرفة لتعزيز منظومة التغيير المرنة في مستقبل المجتمع، وذلك من خلال منهجية مدروسة وبعيدة المدى، تخضع لمؤشرات يمكن من خلالها رصد مختلف جوانب التنمية لمفهوم المواطنة الإيجابية في المجتمع.
كما أن الولاء بلا دين يسهل معه تحويل هذا الولاء المبالغ فيه إلى سلعة يقتضى بها الغرض، فمن يدفع أكثر، فسيباع الوطن له، لكن الولاء الديني يبقى ضابطًا للإنسان، حافظًا له من المزايدة والتسليع، وبيع مصالح بلده وقومه لمصلحة خاصة.
إن الولاء للوطن يعني الولاء للأرض عمارة، وللقوم إحسانا، وللقانون التزاما، وللسلطة طاعة في المعروف، وعليه فإنه لا يصح بحال أن تقدم الطائفية والعرقية على الولاء للوطن؛ وذلك لأن هذا - من خلال تجارب الواقع - يؤخر كل أطراف الصراع داخل الوطن، ويهدم الأمن والتنمية لكل أبنائه.
وبناءً على ما سبق، فلابد من غرس المصداقية القائمة على الوعي والثقافة والممارسة، من أجل تحقيق المواطنة الرشيدة الكفيلة بتعزيز التنمية في المجتمع في مختلف نطاق تفاعلاته، ولابد أيضًا من تحقيق المواطنة الإيجابية، وفقًا لاعتبارات الانتماء للإقليم والوفاء بهذا الالتزام.
ومن جانب آخر، فلابد من تعزيز ثقافة المواطنة، من خلال ما تقرره نصوص القرآن الكريم من دلالات تعبر عن البعد التعبدي للتعلق بالوطن والدعاء له ومحبته، مع ضرورة الاستغلال الإيجابي للتعددية الأيديولوجية في المجتمع بتهذيبها، واستثمار تنوعها، من خلال تحقيق خلق الانسجام المتوائم، هذا بالإضافة إلى الاستفادة من التجربة العتيدة الممتدة لأمة الإسلام في معالجة مفهوم المواطنة، من خلال تطويرها وفق متطلبات العصر في ظل تسارع المدنية والحداثة، وما يفرضه شكل الدولة المعاصر من قوانين وتشريعات.
*
*
عن الايام