المصدر -
تحتفل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونسكو» بـ «اليوم العالمي للشعر» في 21 مارس من كل عام وذلك منذ العام 1999م بهدف دعم التنوع اللغوي، ومنح اللغات المهددة بالاندثار فرص أكثر لاستخدامها في التعبير. وتعتبره فرصة لتكريم الشعراء وإحياء التقليد الشفهي للأمسيات الشعرية.
وفي هذا السياق أغتنم الفرصة لتسليط الضوء من خلال هذه السطور المضيئة على قصة تجربة نجاح أول ديوان شعر يطبع في تاريخ المملكة العربية السعودية «أحلام الربيع» لصاحبه الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري. وهو أول ديوان شعري يصدر له، وذلك بهدف توثيق جانب من تاريخ بدء الحركة الأدبية الحديثة في بلادنا وإبرازها بصورة تليق بها وبأحد روادها الأديب الزمخشري الذي عده الكثير من الأدباء والنقاد مثل د. إبراهيم ناجي وحسن كامل الصيرفي وأحمد عبد الغفور عطار وغيرهم بأنه أحد بناة الأدب الحديث في المملكة ومن الشعراء المحدثين كالشاعر الأموي (عمر بن أبي ربيعة) في زمانه.
أحلام الربيع
صدرت الطبعة الأولى للديوان بمصر في النصف الثاني من عام 1946م - 1365هـ من96 صفحة مقاس 14 × 20سم وأعادت دار تهامة للنشر إصداره ضمن مجموعة النيل في العام 1984م -1404هـ. بإهداء إلى الأديب د. محمد حسين هيكل باشا، الذي وصفه الزمخشري بأديب العربية الأول وكاتبها العبقري الكبير، اعترفاً له بالجميل على فضله في تقديم آثار البلاد المقدسة للعالم العربي.
ويصنف الديوان ضمن الشعر العربي الفصيح ومعظم قصائده من الشعر الوجداني الغنائي الذي يمكن أن يتغنى به على حسب المناسبات. ويحوي بين دفتيه (44) قصيدة في المدح، والفخر، والغزل، والرثاء وغيرها من الألوان الشعرية. ومن تلك القصائد: في محراب الخيال، خاطرة قال وقلت، أغاني الربيع، القلب الطائف، حمامة السلم، ثورة نفس، حيرة، اين الصديق، عودة الصقر، بنود الإخاء، دعوة الحق، النصر للحق، مسرح الخيال أنا والطير، في روضها، مناغاة، نجوى، محاورة مع الطيف، حالان، وردة الحب، تغريدة، خاطرة في الترام، السينما، صوت القلب، دمعة حزينة.
والواقع بحسب رأي النقاد فإن الديوان يعتبر عقداً من الجواهر الثمينة فقد قال د. جبران بن سلمان سحّاري عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومؤسس مدرسة الميزان للنقد الأدبي في الرياض في دراسة تحليلية للديوان نشرها في مجلة فكر الثقافة (2018/02/11هـ) إن الديوان "كنز أدبي عظيم. وإنك لتعجب ـ أيها القارئ من جرس الألفاظ الذي قرع سمعَك لأول وهلة، ناهيك عن جمال الأسلوب، وجودة المضمون، وحسن السبك، والأصالة الشعريّة". وخلص فيها إلى أن "التحليلُ الحقيقي يحتاجُ إلى سِفْر ضخم تصعبُ الإحاطة به، ومن عجيبِ الموافقات أنه بدأه بالتحية الدالة على الحياة، وختمه بالرثاء الذي يدل على الموت!
تأمل في مطلع قصيدتِه الأولى (تحية الملكين) وانظر ماذا فيه:
في مـوكب اليُمنِ والإقبال تاجـانِ وفي سماء العلا والمجد شمسانِ
كذا فلتكن المطالع دائمًا حيث التألق في سماء الإبداع، وسمو التعبير. تأمل هذه الألفاظ (الإقبال) و(تاجان) و(سماء العلا) و(المجد) و(شمسان)! وهكذا كل القصيدة.
ثم ختم هذا الديوان العجيب بقصيدةٍ في رثاءِ والده عنوانها (رثاء) ومطلعها:
لـم يـعـدْ قـبره الـفـسـيـحُ ترابا بعد أن صار في ثراه وذابا
ضـمّ جـثمانـــه فـأصـبح كــنـزًا واستحالَ الترابُ تبراً مــذابا
صافحَ الموتَ باسـمًا وبشوشًا ودعــاه إلــهُـهُ فــأجــــابـا
وتأمل التصوير في قوله: (صافح الموت) واخر بيتٍ فيها وهو آخرُ بيتٍ كذلك في الديوان طابق فيه بين الموت والحياة فقال:
فـلــئن مـاتَ إنني سوفَ أحيي ذكـريـاتٍ عن الفـقيدِ عِذابا".
وكان الأديب المصري حسن كامل الصيرفي أحد مؤسسي جماعة أبولو الشعرية الذي قدم للديوان قد لفت لميزة الشاعر في اهتمامه بالصور الفنية الحية في شعره فجميع صوره تزخر بالحركة مستشهداً بقصيدته في «المحراب» التي يقول فيها
أشـعـلـــتْ جـــذوةَ الغــــرامِ وأروتْ ضمــأ النفــــسِ بالرضــابِ البــرودِ
وتهــــادَتْ فـــأيقظــــــتْ بفـــــؤادي ذكــريــاتٍ ثـــارتْ بـــه مــن جديــدِ
وتبــــدتْ فخـلتُـــــه فلــــقَ الصبـــــ ـــــــح تجلــــى بحسنـــه المشهـــودِ
عربد السحرُ في اللحاظِ وقام الحســ ــــــنُ يلهـــــو بــوجنـــــةٍ وبجيـــــدِ
سيد قطب وفكرة الديوان
وردت فكرة طباعة هذا الديوان خلال أول رحلة عمل للأديب «طاهر زمخشري» إلى جمهورية مصر العربية برفقة أمين العاصمة سعادة الشيخ عباس قطان رحمهما الله حينما كان يعمل سكرتيراً له في منتصف اربعينات القرن الماضي فقدمه لكبار الأدباء المصريين وعلى راسهم وزير الأوقاف المصرية آنذاك «دسوقي أباظة باشا» ورئيس رابطة الأدب الحديث في مصر، الذي كان راعياً للأدباء في مصر وله تاريخ مع الحركة الفكرية فيها. وعندما التقى به وبعدما تعارفا قال الزمخشري: "إني أقرأ كثير عن الأدب المصري، وأعرف الكثير من عادات المصريين وتقاليدهم من خلال قراءاتي للصحف والمجلات المصرية". فدعاه لزيارة رابطة الأدب الحديث.
وتصادف في تلك الفترة تواجدُ الأستاذ عبد القدوس الأنصاري والأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في مصر فاجتمعوا سوياً وقدموه لعمالقة الأدب والشعر في مصر وعن ذلك روى رحمه الله "كنت أهرب من الشيخ عباس، وأذهب للبحث عنهما.. وكان الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أكثرنا نشاطاً وحركة وقد كان دليلنا إلى معرفة كثير من الأدباء في مصر، وممَّن عرفنا من الأدباء المصريين آنذاك الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - قبل أن يتجه الاتجاه الديني.. وكان بيننا مناقشات حادة نحاول فيها بشتى الطرق والأدلة أن نقنعه بصحة المسائل الدينية، وبمعرفته استطعنا أن نتعرَّف على الأطياف الأربعة كما يسمّيهم، والأطياف الأربعة هم: السيد قطب، وأخوه محمد، وأختاه. وقد صدر أول أثر أدبي لهم بعنوان "الأطياف الأربعة". - توثَّقت علاقتنا بالأستاذ سيد قطب، واصطحبناه معنا إلى الإِسكندرية وذكر لنا أن هذه هي الزيارة الأولى التي يقوم بها إلى الإِسكندرية. وبعد عودتنا إلى القاهرة، أطلعته على ديواني "أحلام الربيع" وبعدما قرأه، قال: - هذا جيد لماذا لا تطبعه؟ فأشعل بذلك الحماس في نفسي للقيام بطبعه، وبدأت المفاوضات مع أصحاب المطابع للاتفاق، غير أن النقود التي معي قليلة.. وكنت أحتاج لبعض النقود لعلاج عيني، ووقعت بين خيارين إما طبع الديوان، أو علاج عيني، ففضلت أن أطبع الديوان على أن أعالج عيني، ونفدت النقود التي معي قبل الانتهاء من طبع الديوان، ...وأشار علي الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أن أقترض من الأستاذ إبراهيم شاكر الذي كان موجوداً في ذلك الوقت بالقاهرة بعضاً من المال لأكمل طبع الديوان، ترددت بادئ الأمر لكنه ألحَّ عليَّ كثيراً حتى اقتنعت وكتبت رسالة للأستاذ إبراهيم شاكر أوضحت فيها أنني شاب سعودي أفكر في طبع ديواني، وأني في حاجة إلى مبلغ خمسين جنيهاً تكملة تكلفة طبع الديوان.. أرجو التكرم وإقراضي المبلغ، وسأعيده لك عندما أعود إلى الوطن. وطلب الأستاذ إبراهيم شاكر مقابلتي، وحين تشرَّفت بمقابلته، سألني عن الشخص الذي كتب الرسالة بقوله: - هل أنت صاحب هذه الرسالة؟
- فأجبته بالإِيجاب، فسألني قائلاً: وأين ديوانك؟ فأجبته: في المطبعة، امتنع المسؤولون بها عن إكمال طباعته إلاًّ إذا أحضرت لهم نقودهم. فأعطاني الخمسين، وقال لي: إياك أن تضيِّعها. شكرته وانصرفت وأنا أحدِّث نفسي متسائلاً: كيف أضيّعها، وأنا الذي فضَّلت طبع الديوان على علاج عيني؟.
ومن الطرائف التي صادفتها في تلك الرحلة أنني ذات يوم، وأنا في طريق عودتي من المطبعة إلى مقر سكني، وقفت عند أحد المحلات لتناول كأس من عصير القصب، وكنت أحمل بعض كراريسي من الديوان في طبعتها الأولى لإِجراء التصحيحات اللازمة، وجلست على إحدى المناضد وطلبت من صاحب المحل كأساً من عصير القصب، وعندما قدَّم لي كأس العصير أبصر في يدي الديوان، وأنا منهمك في قراءته، ونظر إلى الديوان. فقال لي: هل تسمح لي بما في يدك لأرى ما به؟ فأعطيته إياه، وقلت له متسائلاً: هل تقرأ الشعر؟ فلم يجبني، وأخذ يقرأ في الديوان، ثم قال: لمن هذا الشعر؟ قلت له: هذا شعري، فقال: إن هذا الشعر جيد، ثم دعاني داخل المحل خلف ستارة تفصل بين مرتادي المحل واستراحة صاحبه.
فما أن دخلت حتى رأيت مكتبة كبيرة، تحتوي على مجموعة كبيرة من الكتب. وقال لي بائع القصب: إنني أعد في الوقت الحاضر بحثاً علمياً لأنال به درجة الدكتوراة في الحقوق.. لقد توفي والدي فجأة وترك هذا المحل، وأنا أعمل به لأرعى إخوتي، وفي نفس الوقت أعد البحوث اللازمة لرسالة الدكتوراة. كلما أبصرت إلى ذلك سبيلاً. لقد أعطتني قصة هذا الرجل عبراً جمة، وبعثت في نفسي الثقة والطموح وحب العمل في سبيل الحصول على بلوغ المرام، وقامت بيني وبينه صداقة دامت وقتاً طويلاً، وكنا نتبادل الرسائل".
العطار وتأكيد أولية الديوان
يعتبر ديوان «أحلام الربيع» أول ديوان شعر يطبع في تاريخ المملكة العربية السعودية وبه انطلقت حركة الأدب الحديث وعن ذلك قال الأديب أحمد عبد الغفور عطار رحمه الله في كلمته بمقدمة الديوان "إن أحلام الربيع كما قلت أول ديوان شعر حجازي يطبع في عصرنا الحاضر، ولهذا انتظر له رواجاً أدبياً يتيح لهذا البلد الذي نشأ فيه شعر الغزل واستقام على سوقه يعجب الشعراء أن يأخذ مكانه في تاريخ الأدب الجديد كما أخذ مكانه في التاريخ القديم، وقد رأيت احتفاء زعماء الأدب في مصر بالشعر الحجازي الجديد ممثلاً في أحلام الربيع وتقديرهم إياه ما طمأنني على أنه شعر رفيع ومكان الزمخشري في الطليعة ولا شك، وهو يعد أحد بناة الأدب الحديث في الحجاز. والغزل كل ما يطَّبيك في أحلام الربيع وغير أحلام الربيع من دواوين هذا الشاعر المطبوع الصادق في شعوره وهو غزل عف فيه حلاوة وخفة وجرس وموسيقى هادئة رفيقة".
ولهذه الكلمة ذكرى لطيفة رواها الأديب الزمخشري في معرض ذكرياته عن الديوان "بينما كان ديواني تحت الطبع كنت أعتقد أنه أول ديوان سعودي ينشر لكني فوجئت بعزم الأستاذ أحمد عبد الغفور على طبع ديوانه "الهوى والشباب"، وأحسست حينئذٍ أنه سيخطف مني الأضواء، فهو لا يعاني من قلة الفلوس، وسينتهي من طبع ديوانه قبل أن أنتهي من طبع ديواني. فقلت له: ما رأيك يا أستاذ أحمد أن تكتب لي مقدمة الديوان؟ فضحك ساخراً وقال: من أنا حتى أقوم بكتابة مقدمة ديوانك؟ ولكنني حاولت إقناعه حتى وافق على كتابتها وألمحت له أن يذكر فيها أن هذا الديوان هو أول ديوان يصدر في الحجاز في العصر الحاضر.". وبالفعل كتب المقدمة".. و"عندما عدنا إلى أرض الوطن، أخبرت الزملاء أني طبعت ديواني، ولكنهم لم يصدقوني. وكان الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار قد انتهى من طبع ديوانه ونشره، كتب بعض الأدباء بالمملكة عنه أنه أول ديوان شعر يصدر بالمملكة. فقلت لهم: هذا غير صحيح، لأن ديواني هو أول ديوان، والدليل هو ما خطه الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار بيده في مقدمة ديواني. فقال الأستاذ أحمد: والله غلبتني، فقد سجلت عليَّ هذه الكلمة ولا أستطيع إنكارها".
الاحتفاء عربياً ومحلياً بالديوان
عندما صدر الديوان لقي صدًا واسعًا وحظي وصاحبه باهتمام بالغ وحفاوة من قبل كبار الأدباء والشعراء العرب فقد روى الأديب العطار رحمه الله في معرض ذكرياته "عندما التقينا في مصر في رحلته الأولى، وصدر له ديوان (أحلام الربيع)، بعد ديواني، وكتبت له مقدمته وعرفته على أندية الأدب والصحافة، وعلى أساطين الأدب الحديث مثل طه حسين، والعقاد، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم. أقامت لي أنا والأستاذ طاهر رابطة الأدب الحديث حفل تكريم، أبان رئاسة الشاعر الموهوب الدكتور إبراهيم ناجي حضر أكثر أعضائه من الرجال والنساء، وافتتح الحفل الدكتور إبراهيم ناجي الذي وصف الأستاذ الزمخشري بأنه (عمر بن أبي ربيعة)، لا في الحجاز فحسب، بل هو ابن ربيعة المعاصر في أدبنا الحديث، وتناول الناقد المعروف مصطفى عبد اللطيف السوني وكيل الرابطة، والأستاذ محمد عبد المنعم خفاجة سكرتير الرابطة في إيجاز كل منهما، شعر الزمخشري وشعري، وأشادا به، وصعدت إلى المنبر أشكر الرابطة على هذا التكريم، وقدمت صديقي الزمخشري الذي جاء بعدي إلى المنبر وواجه المحتفين بتلاوة بعض شعره، كما تلوت بعض قصائدي، وكان نجم الحفل الأستاذ الزمخشري الذي جعل طابع الحفل خفيفاً وظريفاً ومرحاً، وكان الصف الأول خاصاً بالأديبات اللاتي اهتممن به كثيراً. وألقى الزمخشري بهذه المناسبة قصيدة بلادي".
وبعد عودته إلى مكة حظي بحفاوة وتكريم الأدباء والمثقفين وكان أول من احتفى به جماعة "المسامرات الأدبية" التي كانت تقيمها مدرسة تحضير البعثات كل خميس بجبل هندي، الذين استحدثوا من خلالها فكرة تكريم الأدباء وكان الزمخشري من أوائل من كرموا في تلك الأمسية في حفل متميز روى عنه رحمه الله "من أجمل الذكريات التي أرويها بصفة مستمرة أنني جئت يوم تكريمي في المسامرات الأدبية بمناسبة إصدار ديوان أحلام الربيع فوجدت سبورة كتب عليها: الأستاذ الشاعر طاهر زمخشري، من هو؟ ولما اكتمل عقد الحضور ألقى الأستاذ معالي الشيخ حسن مشاري محاضرة عني بدأها بعبارة ما زلت أعتز بها وأذكرها وأرويها كطرفة هي: طاهر الزمخشري كومة من الفحم السوداء، تلبس ثياباً بيضاء، تقول شعراً قصائدُه حمراء وخضراء وصفراء يعيش على جداول البلدية، وتحت الفانوس "وهذه العبارة الأخيرة إشارة لما كنت أكتبه في تلك الفترة من انتقادات اجتماعية، وملاحظات على جهاز البلدية". ثم تحدَّث بعد هذا التقديم اللطيف عن ديواني وباكورة إنتاجي "أحلام الربيع" وقدَّم دراسة مستفيضة عنه".
وهكذا كان صدور ديوان أحلام الربيع بمثابة انطلاقة ناجحة للأديب تبوء بها أرقى المراتب الأدبية في عالمنا العربي ليصبح رائداً للأدب الحديث في بلادنا.
مقتطفات تحليلية للديوان
أحلام الربيع للشاعر طاهر زمخشري دراسة وتحليل - د. جبران بن سلمان سحّاري – مجلة فكر الثقافة
في قصيدته الثانية (أنشودة الملاح) الغوص على المعاني مباشرةً، دون مقدمات؛ حيث التشبيهات البليغة، واسترعاء الانتباه:
الدجى بحرٌ وقلبي سابحٌ وإلى أين سيمضي؟ لستُ أدري!
ثم القصيدة الخامسة (يا ويلاه!) يكفيك المطلع، حلاوةَ مقطع، ونفاسةَ منزع، وعذوبةَ مشرع، حيث يقول فيه:
قضيتُ العمرَ أحلمُ بالمحالِ وأدأب في مجالدة الليالي
ويقول في مطلع قصيدتِه السابعة (القلب الطائر):
قــد أطــلــت بـشـكلــهــا الــخـلاّبِ من جـــوار ِ الـسـمـاءِ عند السحابِ
غـــادةٌ أشــــرقـــت فكانت كـنـجــمٍ ينفث الـسـحـرَ في الضياءِ المذابِ
رفــرف الحبُّ حـولـهـا وســقــاهــا من فـتـونِ الصبا وغـضِّ الشبابِ
تأمل قوله: (أطلت بشكلها) و(الضياء المذاب) و(رفرف الحب) و(غض الشباب) تجد الصور الرائعة، والأسلوب البليغ، والذوق الرفيع.
وفي قصيدتِه الثامنة (صوت الصحراء) التي مطلعها:
يا صاحبَ التاجِ فيك اليُمنُ وضّاءُ وفـيـك من ســمـةِ التوفـيق لألاءُ
تجد جزالةَ الألفاظ مع سهولة النظم.
بعد ذلك القصيدة العاشرة (جارة العَلَم) وهي من أجمل قصائده يقول في مطلعها:
عرفتُ ذلَّ الــهـوى لم أدرِ عـزّتَه وذقتُ عسف الجوى في ثورةِ الألمِ
تأمل الطباق بين قوله (عرفت) و(لم أدر) وقوله (ذل الهوى) و(عزته) مما يعطي الشعر قوةً ويزيده جمالاً ورونقًا وبهاءً، وذلك دون تكلف للمحسنات البديعية.
وننتقل إلى قصيدة (زفرة) التي يقول في مطلعها:
أغـالك الـيـأسُ أم أودى بك الألـمُ حتى أذابك هذا الحزنُ والسقم؟
فـصرتَ كالظلِّ أضواك الأنينُ وما بين الجوانح إلا النار تضـطرمُ
فما أجملَه من تشبيه! (فصرتَ كالظل أضواك الأنين) وهذا أقصى درجات التعبير عن النحول والذوبان.
بعد ذلك قصيدة بعنوان (شكوى) وهي مملوءةٌ بالحكم يقول في مطلعها:
حـنـانـيـك يا قلبي فـحـسبي مكايدُ وحسبي شبابٌ من مآسيك راكدُ
وما أجمل قوله فيها:
وما تضع الأحداث في قلب شاعرٍ تذوبه الآلامُ والحظ قاعدُ
وقوله:
وإن رام من دنياه فوزًا بمطلبٍ تنكرت الــدنيـا وعــز المـسـاعــدُ
بعد ذلك تطالع في ديوانه قصيدتين شارك بهما في المسابقة الشعرية التي أقامتها محطة الإذاعة بـ(لندن) عام 1363هـ فنسخ ما تقدَّمه من القصائد!.
القصيدة الأولى بعنوان (الجندي في ميدان القتال) ومطلعها:
بالــــدم الـقـاني وبالجـــســــــم المــــذابِ وبأعــضــاءٍ تلاشـــت في الـتـرابِ
هــتــف الجــنــديُّ في ســـــاح الــوغـى أفــتــدي الحــقَّ بروحــي وشـبـابــي
والثانية بعنوان (دنيا الغد) ومطلعها:
أيقَــظُــوهــا وأشــعَـلُـوهـــا ضِــرامـــــــــا فـمــشــى الـهـولُ صـاخــبـًا يـتـرامـى
فهو دائمًا لا يخلي شعره من الصور الفنية الجميلة، وتلك عادة الشاعر البارع المتألق.
وبعد ذلك قصيدةٌ حبلى بالمعجزات بعنوان (ذكريات الصبا) ويكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق؛ يقول في مطلعها:
ذكرياتُ الصبا خطرن ببالي حالماتِ الرؤى كطيفِ الخيالِ
مــشــرقـــــاتٍ كأنــهـن نــجــومٌ قد أضاءت بأوْجِـهــا المتعالي
راقــصــاتٍ كأنــهـن الأمـاني نـاصعــاتٍ كأنــهــن اللآلـــي
فلله دره تأمل قوله (حالمات الرؤى كطيف الخيال) ما أرقه وأجمله وأعذبه!
كما نجدُ في هذا الديوان (مداعبات) لخصها في ثلاث وقفات في الوقفة الأولى يقول:
وقـائـلــةٍ: مـا بـالُ عينِك لـــم يبنْ عليها الهوى حتى تُسِيلَ دموعَها
فـقـلـتُ لها: سحرٌ وحسنٌ وفتنةٌ تجلَّتْ لعيني فهي تُبدي خشوعَها
وهذا يسمى في البلاغة (سرعة الجواب بحسن الإطناب) وهو من الأساليب الراقية في (علم المعاني)
ثم بعد ذلك كله تأتي (أحلام الشاعر) استهلّها بقصيدةٍ أهداها إلى صديقٍ له وفيٍّ ومطلعها:
هو هذا الليلُ مـمـدودُ الــرِّواقِ وجحيمُ الحبِّ يُذكيه اشتياقي
وسـكونُ الكـــون حــولي شبـحٌ لفَّ أحــلاميَ في شـبهِ نطاقِ
وفــؤادي بين نيـرانِ الـــجــوى يتلظى في اضـطـرابٍ واحتراقِ
ولك أن تتأملَ قوله: (جحيم الحب) و(لفَّ أحلامي) و(فؤادي يتلظى) كلها صورٌ بالغة الحسن.
ثم له بعد ذلك قصيدة رائعة أرى أن تُقرَّرَ على (طلابِ المراحل الأولى) ففيها تربية عظيمة قدمَ لها بقوله: (لماذا لا نحارب التقاليد والعقائد الفاسدة؟) وقال عنها: (هذا فصلٌ من قصةٍ خيالية صغتها وصورتُ فيها كيف تُسلبُ الأموال على حساب بعض الناس؟) وعنوانها (الدجالون) قسمها إلى أربعة عشر مقطعًا وهي محزنة يقولُ في المقطع الأول:
قـالـت الأمُّ: ألا يا ولدي هذهِ زوجكَ أضنتْ جسدي
وأذابتْ من بكاها جلدي وإلى أدوائِـهــا لــم نهـتدِ
فهذه أشد وقعًا في نفوس الطلاب من تلك القصائد التي تذكر القصصَ على ألسنةِ الطيور والحيوانات.
وفي هذا السياق أغتنم الفرصة لتسليط الضوء من خلال هذه السطور المضيئة على قصة تجربة نجاح أول ديوان شعر يطبع في تاريخ المملكة العربية السعودية «أحلام الربيع» لصاحبه الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري. وهو أول ديوان شعري يصدر له، وذلك بهدف توثيق جانب من تاريخ بدء الحركة الأدبية الحديثة في بلادنا وإبرازها بصورة تليق بها وبأحد روادها الأديب الزمخشري الذي عده الكثير من الأدباء والنقاد مثل د. إبراهيم ناجي وحسن كامل الصيرفي وأحمد عبد الغفور عطار وغيرهم بأنه أحد بناة الأدب الحديث في المملكة ومن الشعراء المحدثين كالشاعر الأموي (عمر بن أبي ربيعة) في زمانه.
أحلام الربيع
صدرت الطبعة الأولى للديوان بمصر في النصف الثاني من عام 1946م - 1365هـ من96 صفحة مقاس 14 × 20سم وأعادت دار تهامة للنشر إصداره ضمن مجموعة النيل في العام 1984م -1404هـ. بإهداء إلى الأديب د. محمد حسين هيكل باشا، الذي وصفه الزمخشري بأديب العربية الأول وكاتبها العبقري الكبير، اعترفاً له بالجميل على فضله في تقديم آثار البلاد المقدسة للعالم العربي.
ويصنف الديوان ضمن الشعر العربي الفصيح ومعظم قصائده من الشعر الوجداني الغنائي الذي يمكن أن يتغنى به على حسب المناسبات. ويحوي بين دفتيه (44) قصيدة في المدح، والفخر، والغزل، والرثاء وغيرها من الألوان الشعرية. ومن تلك القصائد: في محراب الخيال، خاطرة قال وقلت، أغاني الربيع، القلب الطائف، حمامة السلم، ثورة نفس، حيرة، اين الصديق، عودة الصقر، بنود الإخاء، دعوة الحق، النصر للحق، مسرح الخيال أنا والطير، في روضها، مناغاة، نجوى، محاورة مع الطيف، حالان، وردة الحب، تغريدة، خاطرة في الترام، السينما، صوت القلب، دمعة حزينة.
والواقع بحسب رأي النقاد فإن الديوان يعتبر عقداً من الجواهر الثمينة فقد قال د. جبران بن سلمان سحّاري عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومؤسس مدرسة الميزان للنقد الأدبي في الرياض في دراسة تحليلية للديوان نشرها في مجلة فكر الثقافة (2018/02/11هـ) إن الديوان "كنز أدبي عظيم. وإنك لتعجب ـ أيها القارئ من جرس الألفاظ الذي قرع سمعَك لأول وهلة، ناهيك عن جمال الأسلوب، وجودة المضمون، وحسن السبك، والأصالة الشعريّة". وخلص فيها إلى أن "التحليلُ الحقيقي يحتاجُ إلى سِفْر ضخم تصعبُ الإحاطة به، ومن عجيبِ الموافقات أنه بدأه بالتحية الدالة على الحياة، وختمه بالرثاء الذي يدل على الموت!
تأمل في مطلع قصيدتِه الأولى (تحية الملكين) وانظر ماذا فيه:
في مـوكب اليُمنِ والإقبال تاجـانِ وفي سماء العلا والمجد شمسانِ
كذا فلتكن المطالع دائمًا حيث التألق في سماء الإبداع، وسمو التعبير. تأمل هذه الألفاظ (الإقبال) و(تاجان) و(سماء العلا) و(المجد) و(شمسان)! وهكذا كل القصيدة.
ثم ختم هذا الديوان العجيب بقصيدةٍ في رثاءِ والده عنوانها (رثاء) ومطلعها:
لـم يـعـدْ قـبره الـفـسـيـحُ ترابا بعد أن صار في ثراه وذابا
ضـمّ جـثمانـــه فـأصـبح كــنـزًا واستحالَ الترابُ تبراً مــذابا
صافحَ الموتَ باسـمًا وبشوشًا ودعــاه إلــهُـهُ فــأجــــابـا
وتأمل التصوير في قوله: (صافح الموت) واخر بيتٍ فيها وهو آخرُ بيتٍ كذلك في الديوان طابق فيه بين الموت والحياة فقال:
فـلــئن مـاتَ إنني سوفَ أحيي ذكـريـاتٍ عن الفـقيدِ عِذابا".
وكان الأديب المصري حسن كامل الصيرفي أحد مؤسسي جماعة أبولو الشعرية الذي قدم للديوان قد لفت لميزة الشاعر في اهتمامه بالصور الفنية الحية في شعره فجميع صوره تزخر بالحركة مستشهداً بقصيدته في «المحراب» التي يقول فيها
أشـعـلـــتْ جـــذوةَ الغــــرامِ وأروتْ ضمــأ النفــــسِ بالرضــابِ البــرودِ
وتهــــادَتْ فـــأيقظــــــتْ بفـــــؤادي ذكــريــاتٍ ثـــارتْ بـــه مــن جديــدِ
وتبــــدتْ فخـلتُـــــه فلــــقَ الصبـــــ ـــــــح تجلــــى بحسنـــه المشهـــودِ
عربد السحرُ في اللحاظِ وقام الحســ ــــــنُ يلهـــــو بــوجنـــــةٍ وبجيـــــدِ
سيد قطب وفكرة الديوان
وردت فكرة طباعة هذا الديوان خلال أول رحلة عمل للأديب «طاهر زمخشري» إلى جمهورية مصر العربية برفقة أمين العاصمة سعادة الشيخ عباس قطان رحمهما الله حينما كان يعمل سكرتيراً له في منتصف اربعينات القرن الماضي فقدمه لكبار الأدباء المصريين وعلى راسهم وزير الأوقاف المصرية آنذاك «دسوقي أباظة باشا» ورئيس رابطة الأدب الحديث في مصر، الذي كان راعياً للأدباء في مصر وله تاريخ مع الحركة الفكرية فيها. وعندما التقى به وبعدما تعارفا قال الزمخشري: "إني أقرأ كثير عن الأدب المصري، وأعرف الكثير من عادات المصريين وتقاليدهم من خلال قراءاتي للصحف والمجلات المصرية". فدعاه لزيارة رابطة الأدب الحديث.
وتصادف في تلك الفترة تواجدُ الأستاذ عبد القدوس الأنصاري والأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في مصر فاجتمعوا سوياً وقدموه لعمالقة الأدب والشعر في مصر وعن ذلك روى رحمه الله "كنت أهرب من الشيخ عباس، وأذهب للبحث عنهما.. وكان الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أكثرنا نشاطاً وحركة وقد كان دليلنا إلى معرفة كثير من الأدباء في مصر، وممَّن عرفنا من الأدباء المصريين آنذاك الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - قبل أن يتجه الاتجاه الديني.. وكان بيننا مناقشات حادة نحاول فيها بشتى الطرق والأدلة أن نقنعه بصحة المسائل الدينية، وبمعرفته استطعنا أن نتعرَّف على الأطياف الأربعة كما يسمّيهم، والأطياف الأربعة هم: السيد قطب، وأخوه محمد، وأختاه. وقد صدر أول أثر أدبي لهم بعنوان "الأطياف الأربعة". - توثَّقت علاقتنا بالأستاذ سيد قطب، واصطحبناه معنا إلى الإِسكندرية وذكر لنا أن هذه هي الزيارة الأولى التي يقوم بها إلى الإِسكندرية. وبعد عودتنا إلى القاهرة، أطلعته على ديواني "أحلام الربيع" وبعدما قرأه، قال: - هذا جيد لماذا لا تطبعه؟ فأشعل بذلك الحماس في نفسي للقيام بطبعه، وبدأت المفاوضات مع أصحاب المطابع للاتفاق، غير أن النقود التي معي قليلة.. وكنت أحتاج لبعض النقود لعلاج عيني، ووقعت بين خيارين إما طبع الديوان، أو علاج عيني، ففضلت أن أطبع الديوان على أن أعالج عيني، ونفدت النقود التي معي قبل الانتهاء من طبع الديوان، ...وأشار علي الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أن أقترض من الأستاذ إبراهيم شاكر الذي كان موجوداً في ذلك الوقت بالقاهرة بعضاً من المال لأكمل طبع الديوان، ترددت بادئ الأمر لكنه ألحَّ عليَّ كثيراً حتى اقتنعت وكتبت رسالة للأستاذ إبراهيم شاكر أوضحت فيها أنني شاب سعودي أفكر في طبع ديواني، وأني في حاجة إلى مبلغ خمسين جنيهاً تكملة تكلفة طبع الديوان.. أرجو التكرم وإقراضي المبلغ، وسأعيده لك عندما أعود إلى الوطن. وطلب الأستاذ إبراهيم شاكر مقابلتي، وحين تشرَّفت بمقابلته، سألني عن الشخص الذي كتب الرسالة بقوله: - هل أنت صاحب هذه الرسالة؟
- فأجبته بالإِيجاب، فسألني قائلاً: وأين ديوانك؟ فأجبته: في المطبعة، امتنع المسؤولون بها عن إكمال طباعته إلاًّ إذا أحضرت لهم نقودهم. فأعطاني الخمسين، وقال لي: إياك أن تضيِّعها. شكرته وانصرفت وأنا أحدِّث نفسي متسائلاً: كيف أضيّعها، وأنا الذي فضَّلت طبع الديوان على علاج عيني؟.
ومن الطرائف التي صادفتها في تلك الرحلة أنني ذات يوم، وأنا في طريق عودتي من المطبعة إلى مقر سكني، وقفت عند أحد المحلات لتناول كأس من عصير القصب، وكنت أحمل بعض كراريسي من الديوان في طبعتها الأولى لإِجراء التصحيحات اللازمة، وجلست على إحدى المناضد وطلبت من صاحب المحل كأساً من عصير القصب، وعندما قدَّم لي كأس العصير أبصر في يدي الديوان، وأنا منهمك في قراءته، ونظر إلى الديوان. فقال لي: هل تسمح لي بما في يدك لأرى ما به؟ فأعطيته إياه، وقلت له متسائلاً: هل تقرأ الشعر؟ فلم يجبني، وأخذ يقرأ في الديوان، ثم قال: لمن هذا الشعر؟ قلت له: هذا شعري، فقال: إن هذا الشعر جيد، ثم دعاني داخل المحل خلف ستارة تفصل بين مرتادي المحل واستراحة صاحبه.
فما أن دخلت حتى رأيت مكتبة كبيرة، تحتوي على مجموعة كبيرة من الكتب. وقال لي بائع القصب: إنني أعد في الوقت الحاضر بحثاً علمياً لأنال به درجة الدكتوراة في الحقوق.. لقد توفي والدي فجأة وترك هذا المحل، وأنا أعمل به لأرعى إخوتي، وفي نفس الوقت أعد البحوث اللازمة لرسالة الدكتوراة. كلما أبصرت إلى ذلك سبيلاً. لقد أعطتني قصة هذا الرجل عبراً جمة، وبعثت في نفسي الثقة والطموح وحب العمل في سبيل الحصول على بلوغ المرام، وقامت بيني وبينه صداقة دامت وقتاً طويلاً، وكنا نتبادل الرسائل".
العطار وتأكيد أولية الديوان
يعتبر ديوان «أحلام الربيع» أول ديوان شعر يطبع في تاريخ المملكة العربية السعودية وبه انطلقت حركة الأدب الحديث وعن ذلك قال الأديب أحمد عبد الغفور عطار رحمه الله في كلمته بمقدمة الديوان "إن أحلام الربيع كما قلت أول ديوان شعر حجازي يطبع في عصرنا الحاضر، ولهذا انتظر له رواجاً أدبياً يتيح لهذا البلد الذي نشأ فيه شعر الغزل واستقام على سوقه يعجب الشعراء أن يأخذ مكانه في تاريخ الأدب الجديد كما أخذ مكانه في التاريخ القديم، وقد رأيت احتفاء زعماء الأدب في مصر بالشعر الحجازي الجديد ممثلاً في أحلام الربيع وتقديرهم إياه ما طمأنني على أنه شعر رفيع ومكان الزمخشري في الطليعة ولا شك، وهو يعد أحد بناة الأدب الحديث في الحجاز. والغزل كل ما يطَّبيك في أحلام الربيع وغير أحلام الربيع من دواوين هذا الشاعر المطبوع الصادق في شعوره وهو غزل عف فيه حلاوة وخفة وجرس وموسيقى هادئة رفيقة".
ولهذه الكلمة ذكرى لطيفة رواها الأديب الزمخشري في معرض ذكرياته عن الديوان "بينما كان ديواني تحت الطبع كنت أعتقد أنه أول ديوان سعودي ينشر لكني فوجئت بعزم الأستاذ أحمد عبد الغفور على طبع ديوانه "الهوى والشباب"، وأحسست حينئذٍ أنه سيخطف مني الأضواء، فهو لا يعاني من قلة الفلوس، وسينتهي من طبع ديوانه قبل أن أنتهي من طبع ديواني. فقلت له: ما رأيك يا أستاذ أحمد أن تكتب لي مقدمة الديوان؟ فضحك ساخراً وقال: من أنا حتى أقوم بكتابة مقدمة ديوانك؟ ولكنني حاولت إقناعه حتى وافق على كتابتها وألمحت له أن يذكر فيها أن هذا الديوان هو أول ديوان يصدر في الحجاز في العصر الحاضر.". وبالفعل كتب المقدمة".. و"عندما عدنا إلى أرض الوطن، أخبرت الزملاء أني طبعت ديواني، ولكنهم لم يصدقوني. وكان الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار قد انتهى من طبع ديوانه ونشره، كتب بعض الأدباء بالمملكة عنه أنه أول ديوان شعر يصدر بالمملكة. فقلت لهم: هذا غير صحيح، لأن ديواني هو أول ديوان، والدليل هو ما خطه الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار بيده في مقدمة ديواني. فقال الأستاذ أحمد: والله غلبتني، فقد سجلت عليَّ هذه الكلمة ولا أستطيع إنكارها".
الاحتفاء عربياً ومحلياً بالديوان
عندما صدر الديوان لقي صدًا واسعًا وحظي وصاحبه باهتمام بالغ وحفاوة من قبل كبار الأدباء والشعراء العرب فقد روى الأديب العطار رحمه الله في معرض ذكرياته "عندما التقينا في مصر في رحلته الأولى، وصدر له ديوان (أحلام الربيع)، بعد ديواني، وكتبت له مقدمته وعرفته على أندية الأدب والصحافة، وعلى أساطين الأدب الحديث مثل طه حسين، والعقاد، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم. أقامت لي أنا والأستاذ طاهر رابطة الأدب الحديث حفل تكريم، أبان رئاسة الشاعر الموهوب الدكتور إبراهيم ناجي حضر أكثر أعضائه من الرجال والنساء، وافتتح الحفل الدكتور إبراهيم ناجي الذي وصف الأستاذ الزمخشري بأنه (عمر بن أبي ربيعة)، لا في الحجاز فحسب، بل هو ابن ربيعة المعاصر في أدبنا الحديث، وتناول الناقد المعروف مصطفى عبد اللطيف السوني وكيل الرابطة، والأستاذ محمد عبد المنعم خفاجة سكرتير الرابطة في إيجاز كل منهما، شعر الزمخشري وشعري، وأشادا به، وصعدت إلى المنبر أشكر الرابطة على هذا التكريم، وقدمت صديقي الزمخشري الذي جاء بعدي إلى المنبر وواجه المحتفين بتلاوة بعض شعره، كما تلوت بعض قصائدي، وكان نجم الحفل الأستاذ الزمخشري الذي جعل طابع الحفل خفيفاً وظريفاً ومرحاً، وكان الصف الأول خاصاً بالأديبات اللاتي اهتممن به كثيراً. وألقى الزمخشري بهذه المناسبة قصيدة بلادي".
وبعد عودته إلى مكة حظي بحفاوة وتكريم الأدباء والمثقفين وكان أول من احتفى به جماعة "المسامرات الأدبية" التي كانت تقيمها مدرسة تحضير البعثات كل خميس بجبل هندي، الذين استحدثوا من خلالها فكرة تكريم الأدباء وكان الزمخشري من أوائل من كرموا في تلك الأمسية في حفل متميز روى عنه رحمه الله "من أجمل الذكريات التي أرويها بصفة مستمرة أنني جئت يوم تكريمي في المسامرات الأدبية بمناسبة إصدار ديوان أحلام الربيع فوجدت سبورة كتب عليها: الأستاذ الشاعر طاهر زمخشري، من هو؟ ولما اكتمل عقد الحضور ألقى الأستاذ معالي الشيخ حسن مشاري محاضرة عني بدأها بعبارة ما زلت أعتز بها وأذكرها وأرويها كطرفة هي: طاهر الزمخشري كومة من الفحم السوداء، تلبس ثياباً بيضاء، تقول شعراً قصائدُه حمراء وخضراء وصفراء يعيش على جداول البلدية، وتحت الفانوس "وهذه العبارة الأخيرة إشارة لما كنت أكتبه في تلك الفترة من انتقادات اجتماعية، وملاحظات على جهاز البلدية". ثم تحدَّث بعد هذا التقديم اللطيف عن ديواني وباكورة إنتاجي "أحلام الربيع" وقدَّم دراسة مستفيضة عنه".
وهكذا كان صدور ديوان أحلام الربيع بمثابة انطلاقة ناجحة للأديب تبوء بها أرقى المراتب الأدبية في عالمنا العربي ليصبح رائداً للأدب الحديث في بلادنا.
مقتطفات تحليلية للديوان
أحلام الربيع للشاعر طاهر زمخشري دراسة وتحليل - د. جبران بن سلمان سحّاري – مجلة فكر الثقافة
في قصيدته الثانية (أنشودة الملاح) الغوص على المعاني مباشرةً، دون مقدمات؛ حيث التشبيهات البليغة، واسترعاء الانتباه:
الدجى بحرٌ وقلبي سابحٌ وإلى أين سيمضي؟ لستُ أدري!
ثم القصيدة الخامسة (يا ويلاه!) يكفيك المطلع، حلاوةَ مقطع، ونفاسةَ منزع، وعذوبةَ مشرع، حيث يقول فيه:
قضيتُ العمرَ أحلمُ بالمحالِ وأدأب في مجالدة الليالي
ويقول في مطلع قصيدتِه السابعة (القلب الطائر):
قــد أطــلــت بـشـكلــهــا الــخـلاّبِ من جـــوار ِ الـسـمـاءِ عند السحابِ
غـــادةٌ أشــــرقـــت فكانت كـنـجــمٍ ينفث الـسـحـرَ في الضياءِ المذابِ
رفــرف الحبُّ حـولـهـا وســقــاهــا من فـتـونِ الصبا وغـضِّ الشبابِ
تأمل قوله: (أطلت بشكلها) و(الضياء المذاب) و(رفرف الحب) و(غض الشباب) تجد الصور الرائعة، والأسلوب البليغ، والذوق الرفيع.
وفي قصيدتِه الثامنة (صوت الصحراء) التي مطلعها:
يا صاحبَ التاجِ فيك اليُمنُ وضّاءُ وفـيـك من ســمـةِ التوفـيق لألاءُ
تجد جزالةَ الألفاظ مع سهولة النظم.
بعد ذلك القصيدة العاشرة (جارة العَلَم) وهي من أجمل قصائده يقول في مطلعها:
عرفتُ ذلَّ الــهـوى لم أدرِ عـزّتَه وذقتُ عسف الجوى في ثورةِ الألمِ
تأمل الطباق بين قوله (عرفت) و(لم أدر) وقوله (ذل الهوى) و(عزته) مما يعطي الشعر قوةً ويزيده جمالاً ورونقًا وبهاءً، وذلك دون تكلف للمحسنات البديعية.
وننتقل إلى قصيدة (زفرة) التي يقول في مطلعها:
أغـالك الـيـأسُ أم أودى بك الألـمُ حتى أذابك هذا الحزنُ والسقم؟
فـصرتَ كالظلِّ أضواك الأنينُ وما بين الجوانح إلا النار تضـطرمُ
فما أجملَه من تشبيه! (فصرتَ كالظل أضواك الأنين) وهذا أقصى درجات التعبير عن النحول والذوبان.
بعد ذلك قصيدة بعنوان (شكوى) وهي مملوءةٌ بالحكم يقول في مطلعها:
حـنـانـيـك يا قلبي فـحـسبي مكايدُ وحسبي شبابٌ من مآسيك راكدُ
وما أجمل قوله فيها:
وما تضع الأحداث في قلب شاعرٍ تذوبه الآلامُ والحظ قاعدُ
وقوله:
وإن رام من دنياه فوزًا بمطلبٍ تنكرت الــدنيـا وعــز المـسـاعــدُ
بعد ذلك تطالع في ديوانه قصيدتين شارك بهما في المسابقة الشعرية التي أقامتها محطة الإذاعة بـ(لندن) عام 1363هـ فنسخ ما تقدَّمه من القصائد!.
القصيدة الأولى بعنوان (الجندي في ميدان القتال) ومطلعها:
بالــــدم الـقـاني وبالجـــســــــم المــــذابِ وبأعــضــاءٍ تلاشـــت في الـتـرابِ
هــتــف الجــنــديُّ في ســـــاح الــوغـى أفــتــدي الحــقَّ بروحــي وشـبـابــي
والثانية بعنوان (دنيا الغد) ومطلعها:
أيقَــظُــوهــا وأشــعَـلُـوهـــا ضِــرامـــــــــا فـمــشــى الـهـولُ صـاخــبـًا يـتـرامـى
فهو دائمًا لا يخلي شعره من الصور الفنية الجميلة، وتلك عادة الشاعر البارع المتألق.
وبعد ذلك قصيدةٌ حبلى بالمعجزات بعنوان (ذكريات الصبا) ويكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق؛ يقول في مطلعها:
ذكرياتُ الصبا خطرن ببالي حالماتِ الرؤى كطيفِ الخيالِ
مــشــرقـــــاتٍ كأنــهـن نــجــومٌ قد أضاءت بأوْجِـهــا المتعالي
راقــصــاتٍ كأنــهـن الأمـاني نـاصعــاتٍ كأنــهــن اللآلـــي
فلله دره تأمل قوله (حالمات الرؤى كطيف الخيال) ما أرقه وأجمله وأعذبه!
كما نجدُ في هذا الديوان (مداعبات) لخصها في ثلاث وقفات في الوقفة الأولى يقول:
وقـائـلــةٍ: مـا بـالُ عينِك لـــم يبنْ عليها الهوى حتى تُسِيلَ دموعَها
فـقـلـتُ لها: سحرٌ وحسنٌ وفتنةٌ تجلَّتْ لعيني فهي تُبدي خشوعَها
وهذا يسمى في البلاغة (سرعة الجواب بحسن الإطناب) وهو من الأساليب الراقية في (علم المعاني)
ثم بعد ذلك كله تأتي (أحلام الشاعر) استهلّها بقصيدةٍ أهداها إلى صديقٍ له وفيٍّ ومطلعها:
هو هذا الليلُ مـمـدودُ الــرِّواقِ وجحيمُ الحبِّ يُذكيه اشتياقي
وسـكونُ الكـــون حــولي شبـحٌ لفَّ أحــلاميَ في شـبهِ نطاقِ
وفــؤادي بين نيـرانِ الـــجــوى يتلظى في اضـطـرابٍ واحتراقِ
ولك أن تتأملَ قوله: (جحيم الحب) و(لفَّ أحلامي) و(فؤادي يتلظى) كلها صورٌ بالغة الحسن.
ثم له بعد ذلك قصيدة رائعة أرى أن تُقرَّرَ على (طلابِ المراحل الأولى) ففيها تربية عظيمة قدمَ لها بقوله: (لماذا لا نحارب التقاليد والعقائد الفاسدة؟) وقال عنها: (هذا فصلٌ من قصةٍ خيالية صغتها وصورتُ فيها كيف تُسلبُ الأموال على حساب بعض الناس؟) وعنوانها (الدجالون) قسمها إلى أربعة عشر مقطعًا وهي محزنة يقولُ في المقطع الأول:
قـالـت الأمُّ: ألا يا ولدي هذهِ زوجكَ أضنتْ جسدي
وأذابتْ من بكاها جلدي وإلى أدوائِـهــا لــم نهـتدِ
فهذه أشد وقعًا في نفوس الطلاب من تلك القصائد التي تذكر القصصَ على ألسنةِ الطيور والحيوانات.