حلميِ إمامه الناس في الحرم المكي
المصدر -
فاجئني إتصال من مدينة «فيستيروس Västerås» السويدية، تلك المدينة العريقة ذات الـ 150,000 نسمة الملقبة بـ «مدينة الخيار» الواقعة على ضفاف بحيرة «مالارين» بإقليم «فاستمانلاند» على بعد حوالي 100 كم عن العاصمة «ستوكهولم».
كان الاتصال من كفيف يافع عرفته منذ طفولته في «جمعية إبصار الخيرية» بجدة إبان عملي أميناً عاماً لها، إنه «إبراهيم علي الدميري» الذي حادثني بصوته المبتهج كما عهدته في صغره، متسائلاً عما إذا كنت لا أزال أذكره، فأجبته بالتأكيد، فقال وهو في غمرة البهجة والسرور أنه اشترى نسخة الكترونية من مؤلفي «رحلتي عبر السنين الجزء الأول»، فشعرت بالغبطة والسرور لسببين، الأول وفائه لي منذ أن عرفني وحتى الآن، والثاني متابعته لمقالاتي ولقاءاتي الصحفية وأنه أول كفيف يقتنى مؤلفي بنسخته الإلكترونية المتوافقة مع قارئات الشاشة التي يستخدمها المكفوفين في الحواسيب والأجهزة الذكية.
استمر في حديثه فحكى لي قصته منذ مغادرته للمملكة العربية السعودية مع أسرته حتى وصوله إلى السويد وبدء حياته الجديدة فيها، وكيف أجاد اللغة «السويدية والإنجليزية» بالإضافة الى «العربية» ولغته الأم «التقري» المتفرعة من العربية ويتحدثها نحو 65% من سكان ارتريا، وأنه منذ رمضان الماضي أصبح مؤذناً لصلاتي الفجر والعشاء بمسجد المدينة «السلام» فذكرني بالصحابي الكفيف عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤذن لصلاة الفجر.
أعجبت بقصته وتجربته ورأيت أنه من المفيد أن أرويها لقرائنا الاعزاء لما فيها من الالهام والتحفيز ليس للمكفوفين فحسب بل لعامة المبصرين خصوصاً الشباب المقبلين على خوض مسيرة حياتهم العلمية والعملية.
فقدان بصري
يقول الدميري "ولدت في مدينة جدة في 28/03/2000م من أبوين ارتريين الجنسية. هاجرا إلى جدة بسبب الحرب التي اندلعت في القرن الماضي بين ارتريا واثيوبيا، وكنت بكر والدتي، وولدت خديجاً بعد 6 أشهر من الحمل فوضعت في الحضانة لأسابيع فقدت فيها بصري، وأصبحت عيناي معتمتان ولم أر النور في حياتي على الأطلاق.
عانت والدتي في تربيتي وتنشئتي وهي تبحث عن أفضل الطرق والأساليب للتعامل مع حالتي إلى أن وصلت بي إلى جمعية الأطفال المعوقين وأنا في الخامسة من عمري طالبه تهيئتي للدخول للمدرسة فارشدوها الى معهد النور للكفيفات بجدة وبدورهم أبلغوها بأن ليس لديهم قسم للبنين وأشاروا عليها بتسجيلي في معهد النور للبنين بمكة المكرمة أو المدرسة النموذجية السادسة بجدة التي تضم برنامج دمج للمكفوفين، والحاقي بجمعية إبصار الخيرية التي تقدم خدمات للإعاقة البصرية وإعادة التأهيل، فسجلتني بجمعية إبصار وعندما بلغت السادسة من عمري التحقت بالمدرسة النموذجية السادسة الابتدائية وأنهيت فيها المرحلة الابتدائية، ثم درست الصف الأول متوسط بمتوسطة أبن كثير، بعدها انتقلت إلى متوسطة الثغر ومنها غادرت إلى مملكة السويد بعد الترم الأول من مرحلة ثالثة متوسط.
سنواتي في إبصار
بدأت مشواري مع جمعية إبصار في العام 2005م، كانت جديدة ولم ينقضي عامين على تأسيسها ولديها برامج للأطفال والكبار فالتحقت ببرنامج التدخل المبكر وتنمية مهارات الأطفال ثم التحقت ببرنامج التقوية المدرسية لمذاكرة ومراجعة دروسي وتقوية مهارتي على القراءة والكتابة بطريقة برايل وحل الواجبات المدرسية، وحصلت على دورات متفرقة في الحاسب الآلي باستخدام قارئ الشاشة «نظام إبصار القارئ» ودورات في التوجه والتنقل الآمن باستخدام العصا البيضاء، وبرامج صيفية، وتعرفت على مكفوفين في عمري وأصبحنا أصدقاء أذكر منهم عبد العزيز فتيني، سعد عبد القدير، أحمد جلال، وكنت محظوظاً بالمشاركة في أول تقرير تلفزيوني لقناة العربية عن جمعية إبصار وأنشطتها.
ولن أنسى أبداً مدربي في طريقة برايل «الأستاذ سالم بادحمان» الذي لعب دوراً كبيرا في مشواري الدراسي فقد ساعدني كثيراً، ومكنني من اجتياز المراحل الدراسية سنة بسنة، واهم موقف لن انساه ابداً هو ما حدث لي مع مساعدة مدرب برايل «الأستاذة أروى حسن» ففي أحد الأيام كانت تغطي تدريب برايل وكنت في تلك الاثناء أتعلم حفظ القرآن الكريم وأقلد بعض المشايخ فطلبت مني أن أقلد أحد القراء (لا أذكره الآن) وقالت إن استطعت ذلك سأعطيك آلة بيركنز (آلة للكتابة بطريقة برايل قيمتها 4000ريال) تأخذها معك للبيت لمدة أسبوع فاستطعت أن أقلده بنجاح فوفت بوعدها وأعطتني الآلة ففرحت بها وكنت سعيدا جداً، ومن حينها أصبحت أحب النجاح وأثمن قيمته.
وكان أهم وامتع برنامج استفدت منه هو برنامج بناء الأمل الصيفي الذي شاركت فيه طيلة فترتي في إبصار ابتداء من عام 2008م كان عبارة عن رحلات يومية للشركات والمصانع والمراكز الترفيهية تعلمت منها الكثير، وتعرفت خلالها على المجتمع عن قرب والتقيت بعدد من الشخصيات الهامة منهم المهندس رامي أبو غزالة عندما زرنا مصنع أقوات التابع لمطعم البيك في عام 2011م، وصنعت علاقات صداقة مع المشاركين في البرنامج من المكفوفين والمبصرين منهم سامي بلو، وأهم سنة لبرنامج بناء الأمل كانت في العام 2010م فهو الأضخم نظم له حفل ختامي بفندق الشيراتون ضمن حملة دعم تعليم وتأهيل المكفوفين برعاية الأمير طلال بن عبد العزيز - رحمه الله- شاركت في افتتاحه بقراءة آية الكرسي على المسرح فكانت ذكرى جميلة لن أنساها.
وكانت أثمن وأغلى هدية حصلت عليها من الجمعية كرتون به 6 مجلدات لأجزاء القرآن الكريم بطريقة برايل أخذته وفرحت به كثيراً، فلقد كنت احتاجه للحفظ ومتابعة المنهج الدراسي في المدرسة لأني لم أكن أملك إلا جزء واحد، واستخدمته كثيراً، واحتفظت به كأغلى هدية ولا يزال بحوزتي إلى الآن.
حياتي في السويد
في 7 فبراير 2014م حصلنا على تأشيرة هجرة الى مملكة السويد أنا وأمي وأختي وبقي والدي يعمل في السعودية فسافرنا إليها، وأقمنا في مدينة «فيستيروس» ومنها بدئنا حياة جديدة، فالتحقنا بمدرسة لتعلم اللغة السويدية التي يُشترط تعلمها للحصول على الإقامة الدائمة، والتحقت بمركز الإعاقة «handikapp centrum» التابع لبلدية «فستيروس» حصلت فيه على برنامج تدريبي في استخدام الكمبيوتر وبرايل، ومهارات الطبخ واستخدام العصا البيضاء، وبعدما تعلمت اللغة السويدية سجلوني في مدرسة في المرحلة المتوسطة ومنحوني آلة بيركنز للكتابة بطريقة برايل وجهاز حاسب آلي مزود بسطر الكرتوني وقارئ شاشة وعصا بيضاء مجاناً، ووجبه غداء مجانية مع الطلاب في مطعم المدرسة.
وحاليا أنا ادرس في المرحلة الثانوية بمدرسة «Carlforsska» في الصف الثاني ثانوي. وجميع الكتب ودراستنا بالحاسوب ولم أستخدم آلة بيركنز منذ أكثر من عام. واتقاضى مكافئة شهرية مقدارها 1260 كرونه سويدية وهي ما يعادل 487 ريال سعودي تصرف لعموم طلاب المرحلة الثانوية الذين بلغوا السن القانوني لذلك، ومستمتع في مدرستي ومنسجم مع الطلاب الذين يتعاملون معي بصورة طبيعية جداً دون أن تشغلهم إعاقتي البصرية وفي بعض الأحيان يستفسر بعضهم من باب الاستطلاع عن الآلية التي أكتب واقرأ بها والأجهزة التقنية التي استخدمها.
وأمارس لعب الكرة بمساعدة أصدقائي فأنا محب لكرة القدم منذ صغري واتابع الدوري السعودي عبر شبكة الإنترنت خصوصاً المباريات الرئيسية، وتنقلت في التشجيع ما بين عدة فرق، والطريف أنني في أحد الأيام وأنا صغير كنت أشاهد مباراة بين الهلال والإتحاد وفاز فيها الهلال فأصبحت أشجعه، وبعد فترة نال الإتحاد كاساً فبدأت أشجعه، وبعد فترة علمت أن والدي أهلاوي فتبعته وأصبحت من حينها مشجع أهلاوي، وأتابع مباريات الفرق الأوربية ومن عشاق نادي ليفربول ونجمه محمد صلاح.
وتعلمت المشي في الشوارع بمفردي دون أي خوف بالعصا البيضاء وإتباع الإرشادات التي تجعلك لا تظل الطريق، فالأرصفة ميسرة وخالية من أي عوائق، ولا أخاف أن تصدمني سيارة كما كنت أشعر في جدة عندما اضطر إلى النزول من على الرصيف إلى الأسفلت بسبب العوائق وتأتي السيارات من كل مكان وتملئني رعباً.
خدمات التأهيل بين إبصار ومركز الإعاقة بفيستيروس
إن التدريب في جمعية إبصار شبيه إلى حدى كبير بالتدريب في المركز بالسويد لكن جمعية إبصار تخدم ذوي الإعاقة البصرية فقط بينما المركز هنا يستقبل حالات الإعاقة البصرية والإعاقة الحركية والتوحد وغيرها من الاعاقات الأخرى، ويختلف تدريبهم في الحركة والتنقل عن إبصار فهم يأتونني الى المنزل ويدربونني على الذهاب والعودة بمفردي بإستخدام العصا من وإلى الأماكن المحددة التي أحتاجها يومياً ولو أنني في أحد الأيام أخطأت الطريق فان المدرب يجعلني أعاود الكرة مرة أخرى من جديد، كما أنهم يتواصلون مع المدرسة للتعرف على احتياجاتي المدرسية وتوفيرها ومساعدتي في أي صعوبات فنية أو تقنية قد تواجهني أو تواجه المدرسة معي، بإرسال موظف من المركز لتقديم الدعم والمساعدة، وهذه الخدمات لم تكن متوفرة لي في إبصار، وما يميز إبصار عنهم هو برنامج بناء الأمل الصيفي.
وأتمنى أن تطور إبصار خدماتها وأن تتطور خدمات المكفوفين في السعودية فأن لديها الإمكانيات والقدرة على ذلك، وأن تتعاون جمعية الأطفال المعوقين مع المركز في السويد لتطوير خدماتها، كما أتمنى على الناس في السعودية أن يغيروا نظرتهم تجاه المكفوفين فجملة كفيف مسكين.. ما يشوف.. كيف يقدر يعيش.. كيف يمشي كانت مستفزة لي وتشعرك بأنك إنسان منعزل عن المجتمع.
كتاب رحلتي عبر السنين
عرفت عن كتاب رحلتي عبر السنين من خلال قراءتي للقاء صحفي بصحيفة غرب الإخبارية بعنوان «بلو من طاهي في السحاب إلى كفيف في عالم الكتاب» تناول الكتاب وأنه سيرة ذاتيه فتحمست لقراءته ودخلت على متجر سيبويه وسجلت ولكن واجهت صعوبة في طريقة الدفع فطلبت مساعدة من أحد أصدقائي فدخلنا على موقع جوجل بوك وسجلت حساباً به واشتريت نسخة إلكترونية من الكتاب بطريقة سهلة وميسرة وبدئت قراءته، فوجدته مليء بالمواقف الطريفة والمحزنة أحيان والمعلومات والأحداث التاريخية، وهو مفيد ومهم لكل مهتم بالتاريخ وأنصح بقراءته، وأهم ما استفدته من الكتاب هو معرفة طبيعة الحياة في جدة في فترة الستينات والسبعينات والنظام التعليمي وطريقة التعليم فلم أكن عرف ذلك، ومن طريف ما أعجبني واضحكني كثيراً قصة بيع البليلة المحروقة في ليالي رمضان في الحارة، وأجمل ما في الكتاب أن كل المعلومات مذكور مصادرها ومراجعها العلمية وهي موثقه وهذا مهم جدا بالنسبة لي.
في مسجد السلام
لفت الدميري انتباه إمام وخطيب مسجد السلام بالمدينة الشيخ «خالد النجماوي» ونال على إعجابه لمحافظته على حضور صلاتي الفجر والعشاء جماعة برفقة جاره الكردستاني «صدر الدين» فتعرف عليه وأعجب بفطنته وقدرته على تلاوة القرآن وأداء الأذان بمحاكاة أئمة ومؤذني الحرم المكي، فمنحه شرف أذان الفجر والعشاء يومياً في المسجد منذ رمضان الماضي، واستضافه في لقاء بالمسجد يوم الأربعاء 30 أكتوبر 2019م، بحضور المصلين وقدمه لهم بأنه من المشائين في الظُلم (حضور الفجر والعشاء جماعة) وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «بشِّرِ المشَّائين في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ»، وحاوره بطرح مجموعة من الأسئلة أجاب عليها الدميري قائلاً: تعلمت الأذان على طريقة الحرم المكي من استماعي له في التلفاز منذ صغري وتقليدي للمؤذن إلى أن أجدت الأذان مثلهم، وأحب قراء أئمة الحرم المكي فداومت الإستماع إليهم وتقليدهم خصوصاً الشيخ الشريم، وحفظت من القرآن الكريم حتى الآن 5 أجزاء من خلال الإستماع وقراءته بطريقة برايل، وأحب الأناشيد والمنشدين وأفضل منشد احببته واجيد تقليده المنشد الكويتي مشاري العفاسي، وخلال الإجابات قراء عليهم سورة الفاتحة وآيات من سورة الأنعام محاكاة لقراءة الشيخ الشريم، ورفع صوت الأذان محاكاة لأذان الحرم المكي، وأنشد عليهم من أناشيد الشيخ مشاري العفاسي، وختم كلامه بقوله إن حلمي وغايتي أن أئم في أحد الأيام المصلين في الحرم المكي الشريف، فعقب الشيخ النجماوي قائلاً يا له من حلم وغاية سامية، وذكر الحديث القدسي الشريف عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ اللَّه قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ، يُريدُ عينيْه».
وخلاصة قصة الدميري من وجهة نظري أنها جعلت لفقدان البصر قيمة ومعنى وعكست مدى الأثر الإيجابي الذي يحدثه التدريب وإعادة التأهيل على المعوقين بصرياً، وأملي أن أرى يوماً مراكز لإعادة تأهيل المعوقين بصرياً منتشرة في بلادنا لتمكينهم من اكتساب مهارة الاعتماد الذاتي لمواصلة حياتهم اليومية (التعليمية، الإجتماعية ، الوظيفية) بصورة طبيعية، استناداً على فلسفة ومنهجية حديثة تنفذها كوادر متخصصة مدعومة بخدمات اجتماعية وإنسانية.
كان الاتصال من كفيف يافع عرفته منذ طفولته في «جمعية إبصار الخيرية» بجدة إبان عملي أميناً عاماً لها، إنه «إبراهيم علي الدميري» الذي حادثني بصوته المبتهج كما عهدته في صغره، متسائلاً عما إذا كنت لا أزال أذكره، فأجبته بالتأكيد، فقال وهو في غمرة البهجة والسرور أنه اشترى نسخة الكترونية من مؤلفي «رحلتي عبر السنين الجزء الأول»، فشعرت بالغبطة والسرور لسببين، الأول وفائه لي منذ أن عرفني وحتى الآن، والثاني متابعته لمقالاتي ولقاءاتي الصحفية وأنه أول كفيف يقتنى مؤلفي بنسخته الإلكترونية المتوافقة مع قارئات الشاشة التي يستخدمها المكفوفين في الحواسيب والأجهزة الذكية.
استمر في حديثه فحكى لي قصته منذ مغادرته للمملكة العربية السعودية مع أسرته حتى وصوله إلى السويد وبدء حياته الجديدة فيها، وكيف أجاد اللغة «السويدية والإنجليزية» بالإضافة الى «العربية» ولغته الأم «التقري» المتفرعة من العربية ويتحدثها نحو 65% من سكان ارتريا، وأنه منذ رمضان الماضي أصبح مؤذناً لصلاتي الفجر والعشاء بمسجد المدينة «السلام» فذكرني بالصحابي الكفيف عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤذن لصلاة الفجر.
أعجبت بقصته وتجربته ورأيت أنه من المفيد أن أرويها لقرائنا الاعزاء لما فيها من الالهام والتحفيز ليس للمكفوفين فحسب بل لعامة المبصرين خصوصاً الشباب المقبلين على خوض مسيرة حياتهم العلمية والعملية.
فقدان بصري
يقول الدميري "ولدت في مدينة جدة في 28/03/2000م من أبوين ارتريين الجنسية. هاجرا إلى جدة بسبب الحرب التي اندلعت في القرن الماضي بين ارتريا واثيوبيا، وكنت بكر والدتي، وولدت خديجاً بعد 6 أشهر من الحمل فوضعت في الحضانة لأسابيع فقدت فيها بصري، وأصبحت عيناي معتمتان ولم أر النور في حياتي على الأطلاق.
عانت والدتي في تربيتي وتنشئتي وهي تبحث عن أفضل الطرق والأساليب للتعامل مع حالتي إلى أن وصلت بي إلى جمعية الأطفال المعوقين وأنا في الخامسة من عمري طالبه تهيئتي للدخول للمدرسة فارشدوها الى معهد النور للكفيفات بجدة وبدورهم أبلغوها بأن ليس لديهم قسم للبنين وأشاروا عليها بتسجيلي في معهد النور للبنين بمكة المكرمة أو المدرسة النموذجية السادسة بجدة التي تضم برنامج دمج للمكفوفين، والحاقي بجمعية إبصار الخيرية التي تقدم خدمات للإعاقة البصرية وإعادة التأهيل، فسجلتني بجمعية إبصار وعندما بلغت السادسة من عمري التحقت بالمدرسة النموذجية السادسة الابتدائية وأنهيت فيها المرحلة الابتدائية، ثم درست الصف الأول متوسط بمتوسطة أبن كثير، بعدها انتقلت إلى متوسطة الثغر ومنها غادرت إلى مملكة السويد بعد الترم الأول من مرحلة ثالثة متوسط.
سنواتي في إبصار
بدأت مشواري مع جمعية إبصار في العام 2005م، كانت جديدة ولم ينقضي عامين على تأسيسها ولديها برامج للأطفال والكبار فالتحقت ببرنامج التدخل المبكر وتنمية مهارات الأطفال ثم التحقت ببرنامج التقوية المدرسية لمذاكرة ومراجعة دروسي وتقوية مهارتي على القراءة والكتابة بطريقة برايل وحل الواجبات المدرسية، وحصلت على دورات متفرقة في الحاسب الآلي باستخدام قارئ الشاشة «نظام إبصار القارئ» ودورات في التوجه والتنقل الآمن باستخدام العصا البيضاء، وبرامج صيفية، وتعرفت على مكفوفين في عمري وأصبحنا أصدقاء أذكر منهم عبد العزيز فتيني، سعد عبد القدير، أحمد جلال، وكنت محظوظاً بالمشاركة في أول تقرير تلفزيوني لقناة العربية عن جمعية إبصار وأنشطتها.
ولن أنسى أبداً مدربي في طريقة برايل «الأستاذ سالم بادحمان» الذي لعب دوراً كبيرا في مشواري الدراسي فقد ساعدني كثيراً، ومكنني من اجتياز المراحل الدراسية سنة بسنة، واهم موقف لن انساه ابداً هو ما حدث لي مع مساعدة مدرب برايل «الأستاذة أروى حسن» ففي أحد الأيام كانت تغطي تدريب برايل وكنت في تلك الاثناء أتعلم حفظ القرآن الكريم وأقلد بعض المشايخ فطلبت مني أن أقلد أحد القراء (لا أذكره الآن) وقالت إن استطعت ذلك سأعطيك آلة بيركنز (آلة للكتابة بطريقة برايل قيمتها 4000ريال) تأخذها معك للبيت لمدة أسبوع فاستطعت أن أقلده بنجاح فوفت بوعدها وأعطتني الآلة ففرحت بها وكنت سعيدا جداً، ومن حينها أصبحت أحب النجاح وأثمن قيمته.
وكان أهم وامتع برنامج استفدت منه هو برنامج بناء الأمل الصيفي الذي شاركت فيه طيلة فترتي في إبصار ابتداء من عام 2008م كان عبارة عن رحلات يومية للشركات والمصانع والمراكز الترفيهية تعلمت منها الكثير، وتعرفت خلالها على المجتمع عن قرب والتقيت بعدد من الشخصيات الهامة منهم المهندس رامي أبو غزالة عندما زرنا مصنع أقوات التابع لمطعم البيك في عام 2011م، وصنعت علاقات صداقة مع المشاركين في البرنامج من المكفوفين والمبصرين منهم سامي بلو، وأهم سنة لبرنامج بناء الأمل كانت في العام 2010م فهو الأضخم نظم له حفل ختامي بفندق الشيراتون ضمن حملة دعم تعليم وتأهيل المكفوفين برعاية الأمير طلال بن عبد العزيز - رحمه الله- شاركت في افتتاحه بقراءة آية الكرسي على المسرح فكانت ذكرى جميلة لن أنساها.
وكانت أثمن وأغلى هدية حصلت عليها من الجمعية كرتون به 6 مجلدات لأجزاء القرآن الكريم بطريقة برايل أخذته وفرحت به كثيراً، فلقد كنت احتاجه للحفظ ومتابعة المنهج الدراسي في المدرسة لأني لم أكن أملك إلا جزء واحد، واستخدمته كثيراً، واحتفظت به كأغلى هدية ولا يزال بحوزتي إلى الآن.
حياتي في السويد
في 7 فبراير 2014م حصلنا على تأشيرة هجرة الى مملكة السويد أنا وأمي وأختي وبقي والدي يعمل في السعودية فسافرنا إليها، وأقمنا في مدينة «فيستيروس» ومنها بدئنا حياة جديدة، فالتحقنا بمدرسة لتعلم اللغة السويدية التي يُشترط تعلمها للحصول على الإقامة الدائمة، والتحقت بمركز الإعاقة «handikapp centrum» التابع لبلدية «فستيروس» حصلت فيه على برنامج تدريبي في استخدام الكمبيوتر وبرايل، ومهارات الطبخ واستخدام العصا البيضاء، وبعدما تعلمت اللغة السويدية سجلوني في مدرسة في المرحلة المتوسطة ومنحوني آلة بيركنز للكتابة بطريقة برايل وجهاز حاسب آلي مزود بسطر الكرتوني وقارئ شاشة وعصا بيضاء مجاناً، ووجبه غداء مجانية مع الطلاب في مطعم المدرسة.
وحاليا أنا ادرس في المرحلة الثانوية بمدرسة «Carlforsska» في الصف الثاني ثانوي. وجميع الكتب ودراستنا بالحاسوب ولم أستخدم آلة بيركنز منذ أكثر من عام. واتقاضى مكافئة شهرية مقدارها 1260 كرونه سويدية وهي ما يعادل 487 ريال سعودي تصرف لعموم طلاب المرحلة الثانوية الذين بلغوا السن القانوني لذلك، ومستمتع في مدرستي ومنسجم مع الطلاب الذين يتعاملون معي بصورة طبيعية جداً دون أن تشغلهم إعاقتي البصرية وفي بعض الأحيان يستفسر بعضهم من باب الاستطلاع عن الآلية التي أكتب واقرأ بها والأجهزة التقنية التي استخدمها.
وأمارس لعب الكرة بمساعدة أصدقائي فأنا محب لكرة القدم منذ صغري واتابع الدوري السعودي عبر شبكة الإنترنت خصوصاً المباريات الرئيسية، وتنقلت في التشجيع ما بين عدة فرق، والطريف أنني في أحد الأيام وأنا صغير كنت أشاهد مباراة بين الهلال والإتحاد وفاز فيها الهلال فأصبحت أشجعه، وبعد فترة نال الإتحاد كاساً فبدأت أشجعه، وبعد فترة علمت أن والدي أهلاوي فتبعته وأصبحت من حينها مشجع أهلاوي، وأتابع مباريات الفرق الأوربية ومن عشاق نادي ليفربول ونجمه محمد صلاح.
وتعلمت المشي في الشوارع بمفردي دون أي خوف بالعصا البيضاء وإتباع الإرشادات التي تجعلك لا تظل الطريق، فالأرصفة ميسرة وخالية من أي عوائق، ولا أخاف أن تصدمني سيارة كما كنت أشعر في جدة عندما اضطر إلى النزول من على الرصيف إلى الأسفلت بسبب العوائق وتأتي السيارات من كل مكان وتملئني رعباً.
خدمات التأهيل بين إبصار ومركز الإعاقة بفيستيروس
إن التدريب في جمعية إبصار شبيه إلى حدى كبير بالتدريب في المركز بالسويد لكن جمعية إبصار تخدم ذوي الإعاقة البصرية فقط بينما المركز هنا يستقبل حالات الإعاقة البصرية والإعاقة الحركية والتوحد وغيرها من الاعاقات الأخرى، ويختلف تدريبهم في الحركة والتنقل عن إبصار فهم يأتونني الى المنزل ويدربونني على الذهاب والعودة بمفردي بإستخدام العصا من وإلى الأماكن المحددة التي أحتاجها يومياً ولو أنني في أحد الأيام أخطأت الطريق فان المدرب يجعلني أعاود الكرة مرة أخرى من جديد، كما أنهم يتواصلون مع المدرسة للتعرف على احتياجاتي المدرسية وتوفيرها ومساعدتي في أي صعوبات فنية أو تقنية قد تواجهني أو تواجه المدرسة معي، بإرسال موظف من المركز لتقديم الدعم والمساعدة، وهذه الخدمات لم تكن متوفرة لي في إبصار، وما يميز إبصار عنهم هو برنامج بناء الأمل الصيفي.
وأتمنى أن تطور إبصار خدماتها وأن تتطور خدمات المكفوفين في السعودية فأن لديها الإمكانيات والقدرة على ذلك، وأن تتعاون جمعية الأطفال المعوقين مع المركز في السويد لتطوير خدماتها، كما أتمنى على الناس في السعودية أن يغيروا نظرتهم تجاه المكفوفين فجملة كفيف مسكين.. ما يشوف.. كيف يقدر يعيش.. كيف يمشي كانت مستفزة لي وتشعرك بأنك إنسان منعزل عن المجتمع.
كتاب رحلتي عبر السنين
عرفت عن كتاب رحلتي عبر السنين من خلال قراءتي للقاء صحفي بصحيفة غرب الإخبارية بعنوان «بلو من طاهي في السحاب إلى كفيف في عالم الكتاب» تناول الكتاب وأنه سيرة ذاتيه فتحمست لقراءته ودخلت على متجر سيبويه وسجلت ولكن واجهت صعوبة في طريقة الدفع فطلبت مساعدة من أحد أصدقائي فدخلنا على موقع جوجل بوك وسجلت حساباً به واشتريت نسخة إلكترونية من الكتاب بطريقة سهلة وميسرة وبدئت قراءته، فوجدته مليء بالمواقف الطريفة والمحزنة أحيان والمعلومات والأحداث التاريخية، وهو مفيد ومهم لكل مهتم بالتاريخ وأنصح بقراءته، وأهم ما استفدته من الكتاب هو معرفة طبيعة الحياة في جدة في فترة الستينات والسبعينات والنظام التعليمي وطريقة التعليم فلم أكن عرف ذلك، ومن طريف ما أعجبني واضحكني كثيراً قصة بيع البليلة المحروقة في ليالي رمضان في الحارة، وأجمل ما في الكتاب أن كل المعلومات مذكور مصادرها ومراجعها العلمية وهي موثقه وهذا مهم جدا بالنسبة لي.
في مسجد السلام
لفت الدميري انتباه إمام وخطيب مسجد السلام بالمدينة الشيخ «خالد النجماوي» ونال على إعجابه لمحافظته على حضور صلاتي الفجر والعشاء جماعة برفقة جاره الكردستاني «صدر الدين» فتعرف عليه وأعجب بفطنته وقدرته على تلاوة القرآن وأداء الأذان بمحاكاة أئمة ومؤذني الحرم المكي، فمنحه شرف أذان الفجر والعشاء يومياً في المسجد منذ رمضان الماضي، واستضافه في لقاء بالمسجد يوم الأربعاء 30 أكتوبر 2019م، بحضور المصلين وقدمه لهم بأنه من المشائين في الظُلم (حضور الفجر والعشاء جماعة) وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «بشِّرِ المشَّائين في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ»، وحاوره بطرح مجموعة من الأسئلة أجاب عليها الدميري قائلاً: تعلمت الأذان على طريقة الحرم المكي من استماعي له في التلفاز منذ صغري وتقليدي للمؤذن إلى أن أجدت الأذان مثلهم، وأحب قراء أئمة الحرم المكي فداومت الإستماع إليهم وتقليدهم خصوصاً الشيخ الشريم، وحفظت من القرآن الكريم حتى الآن 5 أجزاء من خلال الإستماع وقراءته بطريقة برايل، وأحب الأناشيد والمنشدين وأفضل منشد احببته واجيد تقليده المنشد الكويتي مشاري العفاسي، وخلال الإجابات قراء عليهم سورة الفاتحة وآيات من سورة الأنعام محاكاة لقراءة الشيخ الشريم، ورفع صوت الأذان محاكاة لأذان الحرم المكي، وأنشد عليهم من أناشيد الشيخ مشاري العفاسي، وختم كلامه بقوله إن حلمي وغايتي أن أئم في أحد الأيام المصلين في الحرم المكي الشريف، فعقب الشيخ النجماوي قائلاً يا له من حلم وغاية سامية، وذكر الحديث القدسي الشريف عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ اللَّه قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ، يُريدُ عينيْه».
وخلاصة قصة الدميري من وجهة نظري أنها جعلت لفقدان البصر قيمة ومعنى وعكست مدى الأثر الإيجابي الذي يحدثه التدريب وإعادة التأهيل على المعوقين بصرياً، وأملي أن أرى يوماً مراكز لإعادة تأهيل المعوقين بصرياً منتشرة في بلادنا لتمكينهم من اكتساب مهارة الاعتماد الذاتي لمواصلة حياتهم اليومية (التعليمية، الإجتماعية ، الوظيفية) بصورة طبيعية، استناداً على فلسفة ومنهجية حديثة تنفذها كوادر متخصصة مدعومة بخدمات اجتماعية وإنسانية.