المصدر - وكالة انباء اركان
يقول بوذا في الفصل المعنون بـ“اعتزال الشرور العشرة” من وصاياه الشهيرة “لا تقتل، بل احرص على الحياة”، لكن ما حدث ويحدث في ميانمار من قبل الرهبان البوذيين وأتباعهم يجعل الصورة النمطية التي سوّقها الغرب للديانة البوذية بمثابة لوحة مهشمة التفاصيل.
وعلى الرغم من تلك الفكرة العالقة في الذهن حول ابتعاد البوذية عن السياسة إلا أن الأحداث تثبت العكس تماما. وما الراهب الدموي آشين ويراثو إلا دليل دامغ على هذا التناقض وهذا التماهي بين السياسة والبوذية في زمن الحروب وتداعياتها الدموية.
“بن لادن البوذي” هكذا يُلقب ويراثو نفسه، وهو الذي أصبح رمزا للعنف والتطرف وخطاب الكراهية في ميانمار. وهو الذي ولد في العاشر من يوليو عام 1968 وفي منطقة ماندالاي في ميانمار. وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره ترك المدرسة، وأصبح راهبا بوذيا. وهنا لا بد من التوقف عند ملاحظة مهمة تتعلق بنشأة ويراثو، حيث أنه لم يتلق التعاليم البوذية منذ الطفولة، ومعروف لدى البورميين أن الرهبان الذين يبدؤون تعليمهم في سن متأخرة يكونون أكثر ليبرالية في ممارستهم وتعاليمهم وخطبهم وعظاتهم، إضافة إلى أنهم يحرصون على مشاركة فاعلة في القضايا الاجتماعية والسياسية، كما أنهم يتحولون في كثير من الأحيان إلى أفراد أكثر فوضوية تصعب السيطرة عليهم.
الراهب الخمسيني لم يبرز كوجه قبيح للكراهية والعنصرية إلا مع انضمامه لحركة 969 العنصرية قبل أن يصبح قياديا بارزا فيها، وبسبب دوره في التحريض على الكراهية ضد المسلمين حُكِمَ عليه عام 2003 بالسجن لمدة 25 عاما لكنه لم يكمل مدة سجنه، فخرج بعد تسع سنوات بعفو عن مجموعة من السجناء السياسيين مع صعود أول حكومة مدنية جديدة إلى السلطة بعد نصف قرن من حكم العسكر في ميانمار.
بعد خروجه من السجن عام 2012 أصبح ويراثو الوجه الأبرز في تصدير الكراهية مستفيدا من التوجه الليبرالي الذي سيطر على بلده وباتت الميديا ملعبا خصبا لخطاباته العنصرية وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخطبه النارية. وفي أحد الفيديوهات المصورة له على اليوتيوب عام 2013 يقول “إن ما تُنفقونه من أموال على البضائع المشتراة من محلاتهم سيستفيد منها العدو. فلتكن تجارتكم فقط مع المحلات التي تحمل الرمز 969؛ فرمز 969 هو الرمز الديني النقيض للشعار الإسلامي المشهور المستند إلى الرقم 786 الذي يستخدمه التجار المسلمون بانتظام”.
الحد من نمو المسلمين
أوامر ويراثو الحربية تتحول إلى تعاليم دينية لا تُناقش من طرف “الأتباع المؤمنين” الذين يُنفذون بوحشية مجازر رهيبة بحق مسلمي ميانمار، ويزرعون الرعب في قلوب مسلمي سائر دول جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية.
ذلك التحريض والعنف الموجَّه ضد المسلمين كان مدخلا لمزيد من العنف والتطرف وتمهيدا لإبادة جماعية أصبحت قائمة بالفعل في البلاد. ويبرر ويراثو أفعاله قائلا “تعرضنا للاغتصاب في كل مدينة، وتعرضنا للتحرش الجنسي في كل بلدة، وجرى تطويقنا من قبل عصابات وإرهابنا في كل مدينة. توجد في كل مدينة أغلبية مسلمة فجّة ومتوحشة”.
وأمام صورة ضخمة لقتلى بوذيين يعتبرهم ضحايا للمسلمين، يقف ويراثو فخورا بتعليمه للرهبان الشباب في دير ماسوي قائلا “هذا جزء من جيشي في حركة 969 نحمل أقلاما لا أسلحة، فحركتنا لا تدعو للعنف، لكنّ الرجال المسلمين يحاولون الزواج من النساء البوذيات لتحويلهن إلى الإسلام. المسلمون يتكاثرون بسرعة” .
يشرح ويراثو فكره هكذا “إن فلسفتي هي رسالة سلام لكن قبل كل شيء علينا حماية ديننا وشعبنا وأمتنا من أولئك الذين يريدون احتلالنا. القومية أهم من الديمقراطية لمجتمعنا لذا لا ينبغي أن ننسخ أي نموذج غربي، فالديمقراطية ستأتي بعد تثقيف شعبنا في الفكر القومي”.
تلك المصطلحات التي يطلقها ويعمّمها الراهب الدموي تبدو بعيدة عن حقيقة البوذية التي يريد هو وأتباعه تحويلها إلى عرق وقومية وهوية، وبالتالي شرعنة التآخي بين الفاشية العسكرية والفاشية الدينية، وهكذا دخل البوذيون طواعية أو مرغمين “لا فرق” لعبة استخبارية دولية لحساب قوى كبرى تخلت عن المفهوم التقليدي للحرب منذ عام 1945 وتبنت جيلا جديدا من الحروب هي الحرب بالوكالة بواسطة مجتمعات وشعوب أخرى، وعبر استغلال الدين كسلاح أيديولوجي فتّاك في إذكاء نار الحروب الأهلية والصراعات السياسية والاقتصادية المتناقضة.
هذه الشخصية القلقة والمتناقضة لويراثو تجعله يطلق تصريحات غوغائية كاذبة في بلد تقطنه ما لا يقل عن 135 مجموعة عرقية لم يتم تصنيفها إلا منذ نصف قرن من الحكم العسكري، فهو يقول “أنا وصي على حقوق الإنسان وأدعم القانون الذي يقضي بأن الروهنغيا في راخين لا يمكن أن تنجب كل أسرة أكثر من طفلين. مثلي الأعلى الذي أحتذي به هما المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ”.
وعندما تحاول الصحافة البحث عن الأسباب التي دفعت بهذا الراهب البوذي للتطرف، فتقزّم الأسباب لحصرها بجانب شخصي في تاريخ عائلته، حيث أن والدته تركت الأسرة الفقيرة وتزوجت رجلا مسلما، لكن ويراثو يجيب من عمق الديانة البوذية بقوله “وفقا للايمان البوذي بالتناسخ فإن قوة حياتي الماضية هي التي منحتني القدرة على الدعوة لنشر العقيدة والقومية البوذية”.
خطورة توظيف الدين
دفاع رئيس ميانمار وين مينت عن راهبه الدموي بمواجهة مجلة التايم الأميركية التي عنونت غلافها بـ”وجه الإرهاب البوذي” يعكس رضا السياسيين في ميانمار على تطرف ويراثو وأصوليته.
ويختصر ويراثو خطاب كراهيته في تجمع كبير للرهبان الشباب، فيخطب فيهم قائلا “لدي خطة لكيفية حل المشكلات مع المسلمين في ماندالاي تماما مثل وكالة المخابرات الأميركية والموساد، لا ينبغي أن يكون لديهم ما يأكلونه، لا ينبغي أن يعيشوا في أي مكان. هل تتبعونني؟”، فتهدر أصوات الرهبان الشباب “نعم”.
هذه الكلمات التي تنضح بالتطرف تسببت بذبح عشرات الآلاف من المسلمين في قرى الروهنغيا في ميانمار بدم بارد، بالمناجل والسواطير والسيوف التقليدية إلى جانب الأسلحة الرشاشة الحديثة، وتم حرق بيوت المسلمين ومساجدهم ومدارسهم ومحلاتهم التجارية ومحاصيلهم الزراعية، وشرد عشرات الآلاف منهم.
وكان رهبان بوذيون أصوليون يقودون عمليات لميليشياتهم لاغتصاب النسوة المسلمات وبقر بطون الحوامل منهن وسحلهن وهن عاريات وحتى تقطيع أوصال أطفالهن، وذلك تحت شعار “استئصال شأفة المسلمين الذين يتزايدون بشكل سريع وكي لا تطغى أعدادهم في المستقبل على أعداد أتباع بوذا”.
يمثل الإمبراطور الهندي آشوكا فارذانا الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، الأنموذج المثالي للحاكم الذي اعتنق البوذية، وكرَّس مبادئها المناهضة للعنف، وتنظيمها الرهباني أداة، ليس للتشريع وحسب، بل أيضا للهيمنة السياسية على إمبراطورية تسودها ثقافة السلام العميق، كما يسودها أتمَّ انسجام مع القوى المجاورة لها.
لكن لم تتمكن أي دولة من تبنّي البوذية كدين للدولة. فقد حاول رئيس وزراء سيريلانكا سولومون بندرانايك أواخر خمسينات القرن الماضي، ورئيس الوزراء البورمي يونو في الفترة ذاتها، ثم في مطالع الستينات، فرض هذه الديانة، لكنهما لم ينجحا حقيقة إلاّ بتأجيج حركات التمرد، استنادا إلى هويات دينية متضاربة، كالتاميل الهندوس في سيريلانكا، والكاشين المسيحيين، ومعهم الروهنغيا المسلمين في ميانمار، بيد أن هذا الواقع لم يمنع النظام السلطوي من مضاعفة مساعيه لتملّك البوذية.
حركة 969 أسسها راهب بوذي متعصّب يدعى كياو لوين في عام 1999، بهدف التحريض على سائر الأديان التي تعيش في الدول ذات الكثافة البوذية، والإسلام في الطليعة بينها.
ويجزم خبراء بالبوذية الدينية السياسية أن حركة 969، إنما نشأت لهدف واحد، هو محاربة الإسلام فقط، وطرد أتباعه من المناطق البوذية جميعها، وقد أسّس كبار البوذية لهذا الغرض معاهد دينية في قلب أديرتهم الكبرى لتنشئة أطفال بوذيين على أيديولوجية واحدة، هي كره المسلمين وبناء جيل بوذي جديد تكون مهمته الأولى والأخيرة تطهير البلاد من المسلمين.
وربما لذلك الغرض “المقدس”، حسب تفكيرهم، التحق ويراثو بحركة 969، واستطاع بسرعة قياسية أن يصير زعيمها الديني المُطاع، وتحوّلت أوامره الحربية إلى تعاليم دينية لا تُناقش من طرف “الأتباع المؤمنين”.
ومن هنا رأينا هؤلاء الأتباع يُنفذون بوحشية قلّ نظيرها المجازر الرهيبة بحق مسلمي ميانمار، خصوصا في ولاية أراكان التي تقع على الساحل الغربي للبلاد، باثّين الخوف والرعب، ليس في قلوب مسلمي الروهنغيا في ميانمار فقط، وإنما في قلوب مسلمي سائر دول جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية. وكانت شعارات حرب الإبادة البوذية التي نفذتها جماعة 969 مستمدّة من بعض أقوال الراهب ويراثو الآتية “اقتلوهم تنقذوا بلدكم”، “المسلمون أكلة لحوم البشر”، “المسلمون محتلون، حرروا بلادكم منهم”، “المسلمون هم الأعداء الدائمون للقومية البوذية”.
من بغداد إلى السند
ويراثو يختلف عن بقية الرهبان البوذيين بأنه لم يتلق التعاليم منذ الطفولة، ومعروف أن الرهبان من هذا النمط يصبحون فوضويين يصعب ضبطهم.
تقول المصنّفات البوذية القديمة إن تاريخها مع الإسلام كان إيجابيا بوجه عام، فلم تسمح المرجعيات البوذية الكبرى لنفسها بأن تنحرف عن تعاليم بوذا، لتغرق في ثقافة البغض والكره واستسقاء الدم بالدم، بل إن جُلّ عناوين تعاليمها الرئيسية التي التزمتها وعلّمتها لمريديها على مر الأيام والحقب “أحبب كل صنوف أعدائك، إياك وأن تتنفسك ريح البغض والحقد والنفار من الآخرين، إن فهم كل شيء يعني مسامحة كل شيء. أشفق على الجميع، الغني والفقير، فالكل يعانون بشكل أو بآخر، أنت الآخر والآخر هو أنت مهما غدر بك“.
لم يكن ذلك بعيدا عن تقاطعات التاريخ ما بين العرب المسلمين والبوذيين في تلك المنطقة، ففي بداية القرن الثامن فتح القائد الأموي محمد بن القاسم منطقة السند ذات الأغلبية البوذية، وهي ما يعرف الآن بجنوب باكستان.
وطلب البوذيون والهندوس في براهمان آباد، وهي إحدى مدنها الرئيسية، السماح لهم بإعادة بناء معابدهم والتمتّع بالحرية الدينية. تشاور القائد بن القاسم مع الوالي الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي استشار بدوره علماء الدين، فقرروا اعتبار البوذيين والهندوس أيضا أهل كتاب.
كذلك فإن الخلفاء الأمويين ومن بعدهم العباسيون، الذين حكموا من قلب بغداد، واستطرادا الحكام المسلمون للهند في ما بعد، اتّبعوا السياسة عينها تجاه البوذيين، ولم تتراكم حينها ثقافة حقد وكره بوذية للمسلمين، بل تواءم الجميع، تاريخيا، مع هذه الرحابة السلطوية والمرونة السياسية التي قابلتهم بها الحضارة العربية الإسلامية بوجهيها السياسي والثقافي الحضاري العظيم.
ولذلك نرى الراهب البوذي جونغ دي كوهي يغرف من عمق تعاليم بوذا ويكتب هذه القصيدة التي يدين فيها ممارسات الرهبان الدمويين، عبر قصيدة بعنوان “القتلة” التي قال فيها “كل يوم تتعفّن وجوهكم وأرواحكم الخبيثة/يا رهبان الزئبق الحربائي/تُحلّقون بجناحين من نار ودم؟/ومع صخب قهقهاتكم لا شيء يردّكم عن/ قطع الرؤوس وفقء العيون وبقر البطون/أي صنف من القتلة أنتم؟”.
هكذا يحدث عندما تتحول الأديان عن مسار رسالاتها التي تدعو إلى المحبة والتسامح والإخاء وترتدي رداء سياسيا فضفاضا وتتبنى أجندات تغرقها في وحول الطائفية والإثنية والكراهية فتفقد نقاءها وتتلون تعاليمها بالدم. وما ويراثو إلا اسم من بين أسماء أساءت للأديان عبر اتفاقها المريب مع الفاشية السياسية والعسكرية، ولعل دفاع رئيس ميانمار وين مينت عن راهبه الدموي بمواجهة مجلة التايم الأميركية التي عنونت غلافها بـ“وجه الإرهاب البوذي“ إلا دليل على رضا كامل على تطرف ويراثو وأصوليته.
وعلى الرغم من تلك الفكرة العالقة في الذهن حول ابتعاد البوذية عن السياسة إلا أن الأحداث تثبت العكس تماما. وما الراهب الدموي آشين ويراثو إلا دليل دامغ على هذا التناقض وهذا التماهي بين السياسة والبوذية في زمن الحروب وتداعياتها الدموية.
“بن لادن البوذي” هكذا يُلقب ويراثو نفسه، وهو الذي أصبح رمزا للعنف والتطرف وخطاب الكراهية في ميانمار. وهو الذي ولد في العاشر من يوليو عام 1968 وفي منطقة ماندالاي في ميانمار. وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره ترك المدرسة، وأصبح راهبا بوذيا. وهنا لا بد من التوقف عند ملاحظة مهمة تتعلق بنشأة ويراثو، حيث أنه لم يتلق التعاليم البوذية منذ الطفولة، ومعروف لدى البورميين أن الرهبان الذين يبدؤون تعليمهم في سن متأخرة يكونون أكثر ليبرالية في ممارستهم وتعاليمهم وخطبهم وعظاتهم، إضافة إلى أنهم يحرصون على مشاركة فاعلة في القضايا الاجتماعية والسياسية، كما أنهم يتحولون في كثير من الأحيان إلى أفراد أكثر فوضوية تصعب السيطرة عليهم.
الراهب الخمسيني لم يبرز كوجه قبيح للكراهية والعنصرية إلا مع انضمامه لحركة 969 العنصرية قبل أن يصبح قياديا بارزا فيها، وبسبب دوره في التحريض على الكراهية ضد المسلمين حُكِمَ عليه عام 2003 بالسجن لمدة 25 عاما لكنه لم يكمل مدة سجنه، فخرج بعد تسع سنوات بعفو عن مجموعة من السجناء السياسيين مع صعود أول حكومة مدنية جديدة إلى السلطة بعد نصف قرن من حكم العسكر في ميانمار.
بعد خروجه من السجن عام 2012 أصبح ويراثو الوجه الأبرز في تصدير الكراهية مستفيدا من التوجه الليبرالي الذي سيطر على بلده وباتت الميديا ملعبا خصبا لخطاباته العنصرية وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخطبه النارية. وفي أحد الفيديوهات المصورة له على اليوتيوب عام 2013 يقول “إن ما تُنفقونه من أموال على البضائع المشتراة من محلاتهم سيستفيد منها العدو. فلتكن تجارتكم فقط مع المحلات التي تحمل الرمز 969؛ فرمز 969 هو الرمز الديني النقيض للشعار الإسلامي المشهور المستند إلى الرقم 786 الذي يستخدمه التجار المسلمون بانتظام”.
الحد من نمو المسلمين
أوامر ويراثو الحربية تتحول إلى تعاليم دينية لا تُناقش من طرف “الأتباع المؤمنين” الذين يُنفذون بوحشية مجازر رهيبة بحق مسلمي ميانمار، ويزرعون الرعب في قلوب مسلمي سائر دول جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية.
ذلك التحريض والعنف الموجَّه ضد المسلمين كان مدخلا لمزيد من العنف والتطرف وتمهيدا لإبادة جماعية أصبحت قائمة بالفعل في البلاد. ويبرر ويراثو أفعاله قائلا “تعرضنا للاغتصاب في كل مدينة، وتعرضنا للتحرش الجنسي في كل بلدة، وجرى تطويقنا من قبل عصابات وإرهابنا في كل مدينة. توجد في كل مدينة أغلبية مسلمة فجّة ومتوحشة”.
وأمام صورة ضخمة لقتلى بوذيين يعتبرهم ضحايا للمسلمين، يقف ويراثو فخورا بتعليمه للرهبان الشباب في دير ماسوي قائلا “هذا جزء من جيشي في حركة 969 نحمل أقلاما لا أسلحة، فحركتنا لا تدعو للعنف، لكنّ الرجال المسلمين يحاولون الزواج من النساء البوذيات لتحويلهن إلى الإسلام. المسلمون يتكاثرون بسرعة” .
يشرح ويراثو فكره هكذا “إن فلسفتي هي رسالة سلام لكن قبل كل شيء علينا حماية ديننا وشعبنا وأمتنا من أولئك الذين يريدون احتلالنا. القومية أهم من الديمقراطية لمجتمعنا لذا لا ينبغي أن ننسخ أي نموذج غربي، فالديمقراطية ستأتي بعد تثقيف شعبنا في الفكر القومي”.
تلك المصطلحات التي يطلقها ويعمّمها الراهب الدموي تبدو بعيدة عن حقيقة البوذية التي يريد هو وأتباعه تحويلها إلى عرق وقومية وهوية، وبالتالي شرعنة التآخي بين الفاشية العسكرية والفاشية الدينية، وهكذا دخل البوذيون طواعية أو مرغمين “لا فرق” لعبة استخبارية دولية لحساب قوى كبرى تخلت عن المفهوم التقليدي للحرب منذ عام 1945 وتبنت جيلا جديدا من الحروب هي الحرب بالوكالة بواسطة مجتمعات وشعوب أخرى، وعبر استغلال الدين كسلاح أيديولوجي فتّاك في إذكاء نار الحروب الأهلية والصراعات السياسية والاقتصادية المتناقضة.
هذه الشخصية القلقة والمتناقضة لويراثو تجعله يطلق تصريحات غوغائية كاذبة في بلد تقطنه ما لا يقل عن 135 مجموعة عرقية لم يتم تصنيفها إلا منذ نصف قرن من الحكم العسكري، فهو يقول “أنا وصي على حقوق الإنسان وأدعم القانون الذي يقضي بأن الروهنغيا في راخين لا يمكن أن تنجب كل أسرة أكثر من طفلين. مثلي الأعلى الذي أحتذي به هما المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ”.
وعندما تحاول الصحافة البحث عن الأسباب التي دفعت بهذا الراهب البوذي للتطرف، فتقزّم الأسباب لحصرها بجانب شخصي في تاريخ عائلته، حيث أن والدته تركت الأسرة الفقيرة وتزوجت رجلا مسلما، لكن ويراثو يجيب من عمق الديانة البوذية بقوله “وفقا للايمان البوذي بالتناسخ فإن قوة حياتي الماضية هي التي منحتني القدرة على الدعوة لنشر العقيدة والقومية البوذية”.
خطورة توظيف الدين
دفاع رئيس ميانمار وين مينت عن راهبه الدموي بمواجهة مجلة التايم الأميركية التي عنونت غلافها بـ”وجه الإرهاب البوذي” يعكس رضا السياسيين في ميانمار على تطرف ويراثو وأصوليته.
ويختصر ويراثو خطاب كراهيته في تجمع كبير للرهبان الشباب، فيخطب فيهم قائلا “لدي خطة لكيفية حل المشكلات مع المسلمين في ماندالاي تماما مثل وكالة المخابرات الأميركية والموساد، لا ينبغي أن يكون لديهم ما يأكلونه، لا ينبغي أن يعيشوا في أي مكان. هل تتبعونني؟”، فتهدر أصوات الرهبان الشباب “نعم”.
هذه الكلمات التي تنضح بالتطرف تسببت بذبح عشرات الآلاف من المسلمين في قرى الروهنغيا في ميانمار بدم بارد، بالمناجل والسواطير والسيوف التقليدية إلى جانب الأسلحة الرشاشة الحديثة، وتم حرق بيوت المسلمين ومساجدهم ومدارسهم ومحلاتهم التجارية ومحاصيلهم الزراعية، وشرد عشرات الآلاف منهم.
وكان رهبان بوذيون أصوليون يقودون عمليات لميليشياتهم لاغتصاب النسوة المسلمات وبقر بطون الحوامل منهن وسحلهن وهن عاريات وحتى تقطيع أوصال أطفالهن، وذلك تحت شعار “استئصال شأفة المسلمين الذين يتزايدون بشكل سريع وكي لا تطغى أعدادهم في المستقبل على أعداد أتباع بوذا”.
يمثل الإمبراطور الهندي آشوكا فارذانا الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، الأنموذج المثالي للحاكم الذي اعتنق البوذية، وكرَّس مبادئها المناهضة للعنف، وتنظيمها الرهباني أداة، ليس للتشريع وحسب، بل أيضا للهيمنة السياسية على إمبراطورية تسودها ثقافة السلام العميق، كما يسودها أتمَّ انسجام مع القوى المجاورة لها.
لكن لم تتمكن أي دولة من تبنّي البوذية كدين للدولة. فقد حاول رئيس وزراء سيريلانكا سولومون بندرانايك أواخر خمسينات القرن الماضي، ورئيس الوزراء البورمي يونو في الفترة ذاتها، ثم في مطالع الستينات، فرض هذه الديانة، لكنهما لم ينجحا حقيقة إلاّ بتأجيج حركات التمرد، استنادا إلى هويات دينية متضاربة، كالتاميل الهندوس في سيريلانكا، والكاشين المسيحيين، ومعهم الروهنغيا المسلمين في ميانمار، بيد أن هذا الواقع لم يمنع النظام السلطوي من مضاعفة مساعيه لتملّك البوذية.
حركة 969 أسسها راهب بوذي متعصّب يدعى كياو لوين في عام 1999، بهدف التحريض على سائر الأديان التي تعيش في الدول ذات الكثافة البوذية، والإسلام في الطليعة بينها.
ويجزم خبراء بالبوذية الدينية السياسية أن حركة 969، إنما نشأت لهدف واحد، هو محاربة الإسلام فقط، وطرد أتباعه من المناطق البوذية جميعها، وقد أسّس كبار البوذية لهذا الغرض معاهد دينية في قلب أديرتهم الكبرى لتنشئة أطفال بوذيين على أيديولوجية واحدة، هي كره المسلمين وبناء جيل بوذي جديد تكون مهمته الأولى والأخيرة تطهير البلاد من المسلمين.
وربما لذلك الغرض “المقدس”، حسب تفكيرهم، التحق ويراثو بحركة 969، واستطاع بسرعة قياسية أن يصير زعيمها الديني المُطاع، وتحوّلت أوامره الحربية إلى تعاليم دينية لا تُناقش من طرف “الأتباع المؤمنين”.
ومن هنا رأينا هؤلاء الأتباع يُنفذون بوحشية قلّ نظيرها المجازر الرهيبة بحق مسلمي ميانمار، خصوصا في ولاية أراكان التي تقع على الساحل الغربي للبلاد، باثّين الخوف والرعب، ليس في قلوب مسلمي الروهنغيا في ميانمار فقط، وإنما في قلوب مسلمي سائر دول جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية. وكانت شعارات حرب الإبادة البوذية التي نفذتها جماعة 969 مستمدّة من بعض أقوال الراهب ويراثو الآتية “اقتلوهم تنقذوا بلدكم”، “المسلمون أكلة لحوم البشر”، “المسلمون محتلون، حرروا بلادكم منهم”، “المسلمون هم الأعداء الدائمون للقومية البوذية”.
من بغداد إلى السند
ويراثو يختلف عن بقية الرهبان البوذيين بأنه لم يتلق التعاليم منذ الطفولة، ومعروف أن الرهبان من هذا النمط يصبحون فوضويين يصعب ضبطهم.
تقول المصنّفات البوذية القديمة إن تاريخها مع الإسلام كان إيجابيا بوجه عام، فلم تسمح المرجعيات البوذية الكبرى لنفسها بأن تنحرف عن تعاليم بوذا، لتغرق في ثقافة البغض والكره واستسقاء الدم بالدم، بل إن جُلّ عناوين تعاليمها الرئيسية التي التزمتها وعلّمتها لمريديها على مر الأيام والحقب “أحبب كل صنوف أعدائك، إياك وأن تتنفسك ريح البغض والحقد والنفار من الآخرين، إن فهم كل شيء يعني مسامحة كل شيء. أشفق على الجميع، الغني والفقير، فالكل يعانون بشكل أو بآخر، أنت الآخر والآخر هو أنت مهما غدر بك“.
لم يكن ذلك بعيدا عن تقاطعات التاريخ ما بين العرب المسلمين والبوذيين في تلك المنطقة، ففي بداية القرن الثامن فتح القائد الأموي محمد بن القاسم منطقة السند ذات الأغلبية البوذية، وهي ما يعرف الآن بجنوب باكستان.
وطلب البوذيون والهندوس في براهمان آباد، وهي إحدى مدنها الرئيسية، السماح لهم بإعادة بناء معابدهم والتمتّع بالحرية الدينية. تشاور القائد بن القاسم مع الوالي الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي استشار بدوره علماء الدين، فقرروا اعتبار البوذيين والهندوس أيضا أهل كتاب.
كذلك فإن الخلفاء الأمويين ومن بعدهم العباسيون، الذين حكموا من قلب بغداد، واستطرادا الحكام المسلمون للهند في ما بعد، اتّبعوا السياسة عينها تجاه البوذيين، ولم تتراكم حينها ثقافة حقد وكره بوذية للمسلمين، بل تواءم الجميع، تاريخيا، مع هذه الرحابة السلطوية والمرونة السياسية التي قابلتهم بها الحضارة العربية الإسلامية بوجهيها السياسي والثقافي الحضاري العظيم.
ولذلك نرى الراهب البوذي جونغ دي كوهي يغرف من عمق تعاليم بوذا ويكتب هذه القصيدة التي يدين فيها ممارسات الرهبان الدمويين، عبر قصيدة بعنوان “القتلة” التي قال فيها “كل يوم تتعفّن وجوهكم وأرواحكم الخبيثة/يا رهبان الزئبق الحربائي/تُحلّقون بجناحين من نار ودم؟/ومع صخب قهقهاتكم لا شيء يردّكم عن/ قطع الرؤوس وفقء العيون وبقر البطون/أي صنف من القتلة أنتم؟”.
هكذا يحدث عندما تتحول الأديان عن مسار رسالاتها التي تدعو إلى المحبة والتسامح والإخاء وترتدي رداء سياسيا فضفاضا وتتبنى أجندات تغرقها في وحول الطائفية والإثنية والكراهية فتفقد نقاءها وتتلون تعاليمها بالدم. وما ويراثو إلا اسم من بين أسماء أساءت للأديان عبر اتفاقها المريب مع الفاشية السياسية والعسكرية، ولعل دفاع رئيس ميانمار وين مينت عن راهبه الدموي بمواجهة مجلة التايم الأميركية التي عنونت غلافها بـ“وجه الإرهاب البوذي“ إلا دليل على رضا كامل على تطرف ويراثو وأصوليته.