المصدر -
التقت «غرب» بأحد الكتاب الذين أوجدوا مشاركة فعالة للمكفوفين ضمن فعاليات على معرض جدة الدولي للكتاب لعام 2018م وقد سلطت «غرب» الضوء على قصة محمد توفيق بلو وكيف أصبح أحد أبرز المؤلفين المكفوفين العرب في الساحة الآن سيراً على خط الأديب الراحل رائد الأدب العربي الكفيف طه حسين.
نبذة عن كتاب "رحلتي عبر السنين"
أول ما تطلع على كتاب رحلتي عبر السنين يعطيك انطباع أنه من كتب السير والتراجم، الأقرب إلى أدب الرحلات، فهو لا يعبأ كثيرًا بالخيال، بقدر ما يعكسه من صور وأحداث واقعية، ذات قدر من الصدق والدقة، والأمانة في الوصف، فقد عنى بتوثيق أحداث العصر الذي عايشه المؤلف، فجعل منه ذا قيمة توثيقية ومرجعاً لا غنى عنه للباحثين لاستكشاف معالم ذلك العصر، والوقوف على ما خفي من مظاهر الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية في المجتمع الذي نشأ فيه المؤلف.
يوثق الكتاب ملامح تاريخية لمدينة جدة ومجتمعها في ستينات القرن العشرين والتطور التعليمي فيها وتقديم نبذة تاريخية عن حي الطندباوي بمكة المكرمة وباب التمار بالمدينة المنورة، ونظرة عامة عن العادات والتقاليد فيهما، بالإضافة إلى سرد جزء من سيرة أسرة الأديب السعودي الراحل "طاهر عبد الرحمن زمخشري" بصفته أحد أبرز أعلام تلك الحقبة وفي نفس الوقت جد المؤلف لأمه الذي كفله بعد وفاة والده.
كما لامس المؤلف جانب من جوانب تراجم المكفوفين بحكم تجربته الشخصية مع فقدان البصر، في ريعان شبابه، وتجربته الناجحة في تحقيق ذاته من خلال التميز والإصرار على النجاح، والتغلب على تلك المشكلة، فقد سطر ذكريات رحلته في الحياة حلوها ومرها، منطلقاً من قراءته لكتاب "نكت الهميان في نكت العميان" لمؤلفه خليل بن أيبك الصفدي، الذي وجد فيه – كما يذكر في مقدمته للكتاب - إضاءات وأنوار كان لها الأثر المباشر والفعال في رفع روحه المعنوية واكتساب العزيمة والإصرار للخروج من ذلك النفق المظلم.
والكتاب في جزئه الأول، يتحدث فيه المؤلف عن طفولته الحافلة بالأحداث المثيرة، عن حياة الطفولة والصبا، وقضاء السنوات الأولى من حياته في حي البغدادية بجدة ثم الإنتقال مع أسرته إلى سانت لويس بولاية «ميزوري» في وسط الولايات المتحدة الأمريكية، وعودتهم إلى حي الكندرة بجدة، واختلاف المزاج والحالة مما دفعته للصياح «أبغى أمريكا أبغى أمريكا»، ثم انتقالهم إلى حي الشرفية، فالبغدادية، وفاجعة وفاة والده وقيام جدة الأديب الشاعر "طاهر زمخشري" برعايته هو وإخوته.
لقد وضعته تلك الحياة في مواجهة قاسية منذ نعومة أظفاره، عندما فقد والده وذاق طعم اليتم والحرمان في تلك السنين المبكرة من حياته.
لكن بالرغم من ذلك، إستطاع أن يجد الكثير من الفرص السانحة والأوقات النادرة التي أتاحت له أن يحيا طفولة سعيدة في محصلتها، من خلال السفر والرحلات والأقارب والمعارف وأصدقاء والده الأوفياء الذين أحاطوه بالرعاية والحنان، وأضاءوا له الشموع على الطريق من أجل أن يحقق أحلامه في الإنطلاق إلى المستقبل الذي يليق به، يساعده في ذلك عدة عوامل، يأتي في مقدمتها طموحه، وإصراره على التفوق والنجاح، وأسرته (المترابطة)، والتشجيع الذي كان يتلقاه من جده الأديب طاهر زمخشري (بابا طاهر).
لقد كان لتلك المرحلة المبكرة من حياة المؤلف التي قضى جزءًا منها في تلال الوسط الغربي الأمريكي «سانت لويس» أثرها في تكوين شخصيته ورسم ملامح مستقبله كإنسان طموح محب للحياة، تواق إلى المعرفة، وصاحب رسالة في خدمة المجتمع.
والقارئ لهذا الكتاب في جزئه الأول، لابد وأن يلحظ فيها عنصر التشويق، وما يزخر به من معلومات قيمة عن مدن جدة، ومكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف، والتنوع العرقي والثقافي والبيئي في تلك المدن العريقة، بأحيائها التراثية، وتراثها الشعبي، وحواريها العتيقة، وأحيائها القديمة، وما كان يتميز به كل حي من تلك الأحياء.
واللافت إفاضته أيضًا في وصف مدينة "سانت لويس" الواقعة في ولاية " ميزوري" الأمريكية، بمعالمها الجغرافية، ومكانتها الإقتصادية والثقافية والإجتماعية المتميزة، إلى جانب تسامح أهلها ونبذهم للتفرقة العنصرية التي كانت في أوجها عندما أقامت أسرة المؤلف بين جنباتها بداية الستينيات من القرن الماضي، وحيث كان الكثير من الأفارقة الأمريكيين ينزحون إلى تلك المدينة "طلبًا للأمان والاستقرار".
ويأتي هذا السرد من الذكريات والأحداث من خلال أسلوب متميز لاحظته في كتابيه السابقين (حصاد الظلام، والماسة السمراء)، فأسلوبه يتسم بأبجدية جذابة وسلسة، كقوله في مستهل حديثه عن ذكرياته في الصف السادس الابتدائي: "فهي مغامرة كبيرة أن يتسلل إليك شعور الإنجاز وأنت في الطريق إليه"، وقوله في وصف حمام المسجد الحرام في مكة المكرمة :"وتحلق حول الكعبة وكأنها تطوف مع الناس"، وقوله في موضع آخر من الكتاب :"وعلى غير إدراك مني بدا وكأن المحيط الأطلسي كتب على سطح أمواجه أنني سأكون أحد عابريه مرارًا وتكرارًا".
ويصل هذا الأسلوب في أحيان كثيرة إلى مستوى "الفانتازيا"، كما في وصفه لأعراس وأفراح مكة والمدينة.
والكتاب حافل بمفردات فولكلورية لعادات وتقاليد الأهالي، والأسماء التي ترتبط ببعض المأكولات والمشروبات والمناسبات والألعاب الشعبية، كلمات وأسماء مثل: تيازير (حواجز قماشية مزخرفة تستخدم كسواتر لمكان الحفل) – ليلة الدبش (الليلة التي ينقل فيها أهل العروس ملابسها وأمتعتها إلى بيت الزوجية على وقع الطبول والدفوف وأصوات الأهازيج)- لعب المزمار والبرجون والكبت والدقة والكيرم- العلبة والنقرزان والمرد والمرجف (أنواع من الطبول)- الزومال (أهازيج تردد على إيقاع الطبول)- المعاشر(طاولات خشبية مشغولة ومزخرفة بالأصداف تحمل على الرأس ويوزع منها تشكيلة من المأكولات والحلوى المكية لإفطار أهل الفرح والحارة- الهريكاري والسيريه وآيس كريم التماتيك والدندرمة (مأكولات ومشروبات شعبية)، إضافة إلى الأساطير الشعبية كخرافة الدجيرة أو الدنجيرة، تلك الجِنِّية التي كان يخافها الأطفال كما في (أمنا الغولة).
والكتاب غني أيضًا بالمعلومات التي ربما لم يسمع بها البعض من قبل، مثل تطرق المؤلف إلى مستشفى الجذام, الذي كان يقع على طريق مكة بعد بحرة، والذي كان معلمًا بارزًا من معالم مدينة جدة باعتباره المستشفى الأول والأوحد في الشرق الأوسط لمرضى الجذام، وكاللغات الإفريقية الشائعة في مكة المكرمة (الزبرماوية – الهوساوية – الفلاتة- البرناوية ..)، وكقوله إن مطار جدة هو أول مطار سعودي (أنشئ عام 1945), حيث انطلقت منه أول رحلة جوية إلى دمشق.
ولابد وأن يعجب القارئ بالذاكرة الخصبة للمؤلف وهو يصف بالتفصيل ذكرياته في الصفوف الإبتدائية الأولى في مدرسة العزيزية، ثم المدرسة النموذجية الإبتدائية، ويعدد أسماء كل من عرفهم خلال تلك الفترة المبكرة من حياته، مع وصفه الدقيق لكافة المشاهد والأحداث التي علقت بذاكرته خلال رحلاته المتعددة إلى الولايات المتحدة ومصر ومكة والمدينة والطائف، إضافة إلى الرحلات المدرسية وأنشطته المدرسية الرياضية والفنية وهواياته المتعددة التي سردها بمنتهى الدقة.
وأن يلفت النظر، ما تضمنه الكتاب من عشرات الأسماء لأعلام في الفكر والأدب والفن والإعلام, ممن التقاهم المؤلف في طفولته وصباه في مجالس جدة «بابا طاهر زمخشري» والأعمام، ممن كانت تربطه بهم علاقة صداقة، من داخل المملكة، ومن خارجها، خاصة من مصر وتونس اللتين كان «بابا طاهر» كثير التردد عليهما، ومن أبرز تلك الأسماء: شاعر الشباب أحمد رامي- المطرب الفنان محمد عبده - عتاب – ابتسام لطفي – أحمد قنديل- محمد حيدر مشيخ – محمد أحمد صبيح – عبد الرحمن يغمور، وغيرهم.
وقد ساهم احتكاك المؤلف بهؤلاء الأعلام منذ الصغر في نمو موهبة القراءة والكتابة لديه، وحيث يعود الفضل الأول في ذلك إلى جده "طاهر زمخشري" الذي كان المشجع الأول والأكبر له في هذا المضمار.
كما يلفت النظر ما يزخر به الكتاب من معلومات قيمة، كاستعانته بمعلومة للرحالة الفرنسي جول جرفيه كورتيلّمون (كتابه رحلتي إلى مكة في العام 1894)، حول الوباء الذي اجتاح مكة وأدى إلى وفاة العديد من سكانها وزوارها، وما أشيع آنذاك بأن السكان (الأفارقة) هم الذين جاءوا بالوباء، وكوصفه لفوائد نخيل الدوم الطبية، وغير ذلك كثير.
وهناك بعد سياسي في "الكتاب" تمثل بشكل خاص في الحديث عن "ريال فلسطين" الذي كان من أبرز ملامح الدعم العربي السعودي للقضية الفلسطينية على المستوى الشعبي، وزيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للمملكة، والرئيس اللبناني سليمان فرنجية في عهد الملك فيصل – يرحمه الله- وحيث كان الطلبة المتفوقين يشاركون في الإستقبال بالاصطفاف على جانبي الطريق للترحيب بضيوف المملكة.
كما تطرق المؤلف بإسهاب عن حرب أكتوبر (العاشر من رمضان، أو حرب أكتوبر 1973)، التي يعتبر قطع جلالة الفيصل – يرحمه الله- موارد النفط عن أمريكا من أبرز ملامحها التي سجلها التاريخ بأحرف من نور.
ويبدو البعد التربوي واضحًا في الكتاب، ويمكن الاستدلال عليه من خلال انتقاد الكاتب للأسلوب التربوي الخاطئ الذي كان متبعًا من قبل بعض معلميه، خاصة في مدرسة العزيزية الإبتدائية في جدة، كاستخدام (الكرباج) و (الفلكة) في معاقبة الطلاب المخالفين، بما يشبه التعذيب.
ويرى المؤلف أن أساليب تلك العقوبات التي كانت شائعة في المدارس آنذاك، تولد الشعور بالرهبة من المدرسين القساة، وعقدًا دراسية من المواد التي يدرسونها، بما يؤثر سلبًا على إبداعات الطلبة، إلى جانب الشعور بالإهانة أمام زملائهم.
ولا عجب إذا حظي هذا الكتاب بأرقى وأعلى التقديرات الأدبية فمن خلال تلك القراءة الممتعة لسيرة حياة المؤلف في جزئها الأول، نجد أن محمد بلو يحمل أولاً وقبل أي شيء لقب إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معاني السمو والنبل والإحساس المفرط بالألم والفرح والحزن والرضى، والإصرار على التميز والنجاح مهما عظمت التحديات وتعثرت مسيرة الإنجاز ,مع سلسلة الفقد الذي طالت حلقاته خلال تلك المسيرة الشاقة بدءًا من فقدان والده، وجده (بابا طاهر)، وحتى فقدانه عمله مرتين عبر صدمتين موجعتين، مرورًا بفقدانه بصره. لكن ظلت الإبتسامة ، بالرغم من هذه السلسلة المؤلمة - لا تفارق محياه.
ويكفي محمد توفيق بِلُّو فخرًا، أنه مؤسس جمعية (إبصار) التي تعتبر منجزاً وطنياً وإنسانياً وحضارياً بامتياز.
رحلة "بِلُّو" ما زالت تبحر في البحر الأحمر الذي يعشقه، ولابد وأن يسطر المزيد من الصفحات المضيئة في مسيرة حياته المثمرة إن شاء الله.
لتعريف عن المؤلف أكثر يمكن مشاهدة الرابط التالي: كتاب الأديب طاهر زمخشري في سطور أحد سلسلة الكاتب الأديب محمد بلو - غرب الإخبــارية https://garbnews.net/news/s/121152
نبذة عن كتاب "رحلتي عبر السنين"
أول ما تطلع على كتاب رحلتي عبر السنين يعطيك انطباع أنه من كتب السير والتراجم، الأقرب إلى أدب الرحلات، فهو لا يعبأ كثيرًا بالخيال، بقدر ما يعكسه من صور وأحداث واقعية، ذات قدر من الصدق والدقة، والأمانة في الوصف، فقد عنى بتوثيق أحداث العصر الذي عايشه المؤلف، فجعل منه ذا قيمة توثيقية ومرجعاً لا غنى عنه للباحثين لاستكشاف معالم ذلك العصر، والوقوف على ما خفي من مظاهر الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية في المجتمع الذي نشأ فيه المؤلف.
يوثق الكتاب ملامح تاريخية لمدينة جدة ومجتمعها في ستينات القرن العشرين والتطور التعليمي فيها وتقديم نبذة تاريخية عن حي الطندباوي بمكة المكرمة وباب التمار بالمدينة المنورة، ونظرة عامة عن العادات والتقاليد فيهما، بالإضافة إلى سرد جزء من سيرة أسرة الأديب السعودي الراحل "طاهر عبد الرحمن زمخشري" بصفته أحد أبرز أعلام تلك الحقبة وفي نفس الوقت جد المؤلف لأمه الذي كفله بعد وفاة والده.
كما لامس المؤلف جانب من جوانب تراجم المكفوفين بحكم تجربته الشخصية مع فقدان البصر، في ريعان شبابه، وتجربته الناجحة في تحقيق ذاته من خلال التميز والإصرار على النجاح، والتغلب على تلك المشكلة، فقد سطر ذكريات رحلته في الحياة حلوها ومرها، منطلقاً من قراءته لكتاب "نكت الهميان في نكت العميان" لمؤلفه خليل بن أيبك الصفدي، الذي وجد فيه – كما يذكر في مقدمته للكتاب - إضاءات وأنوار كان لها الأثر المباشر والفعال في رفع روحه المعنوية واكتساب العزيمة والإصرار للخروج من ذلك النفق المظلم.
والكتاب في جزئه الأول، يتحدث فيه المؤلف عن طفولته الحافلة بالأحداث المثيرة، عن حياة الطفولة والصبا، وقضاء السنوات الأولى من حياته في حي البغدادية بجدة ثم الإنتقال مع أسرته إلى سانت لويس بولاية «ميزوري» في وسط الولايات المتحدة الأمريكية، وعودتهم إلى حي الكندرة بجدة، واختلاف المزاج والحالة مما دفعته للصياح «أبغى أمريكا أبغى أمريكا»، ثم انتقالهم إلى حي الشرفية، فالبغدادية، وفاجعة وفاة والده وقيام جدة الأديب الشاعر "طاهر زمخشري" برعايته هو وإخوته.
لقد وضعته تلك الحياة في مواجهة قاسية منذ نعومة أظفاره، عندما فقد والده وذاق طعم اليتم والحرمان في تلك السنين المبكرة من حياته.
لكن بالرغم من ذلك، إستطاع أن يجد الكثير من الفرص السانحة والأوقات النادرة التي أتاحت له أن يحيا طفولة سعيدة في محصلتها، من خلال السفر والرحلات والأقارب والمعارف وأصدقاء والده الأوفياء الذين أحاطوه بالرعاية والحنان، وأضاءوا له الشموع على الطريق من أجل أن يحقق أحلامه في الإنطلاق إلى المستقبل الذي يليق به، يساعده في ذلك عدة عوامل، يأتي في مقدمتها طموحه، وإصراره على التفوق والنجاح، وأسرته (المترابطة)، والتشجيع الذي كان يتلقاه من جده الأديب طاهر زمخشري (بابا طاهر).
لقد كان لتلك المرحلة المبكرة من حياة المؤلف التي قضى جزءًا منها في تلال الوسط الغربي الأمريكي «سانت لويس» أثرها في تكوين شخصيته ورسم ملامح مستقبله كإنسان طموح محب للحياة، تواق إلى المعرفة، وصاحب رسالة في خدمة المجتمع.
والقارئ لهذا الكتاب في جزئه الأول، لابد وأن يلحظ فيها عنصر التشويق، وما يزخر به من معلومات قيمة عن مدن جدة، ومكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف، والتنوع العرقي والثقافي والبيئي في تلك المدن العريقة، بأحيائها التراثية، وتراثها الشعبي، وحواريها العتيقة، وأحيائها القديمة، وما كان يتميز به كل حي من تلك الأحياء.
واللافت إفاضته أيضًا في وصف مدينة "سانت لويس" الواقعة في ولاية " ميزوري" الأمريكية، بمعالمها الجغرافية، ومكانتها الإقتصادية والثقافية والإجتماعية المتميزة، إلى جانب تسامح أهلها ونبذهم للتفرقة العنصرية التي كانت في أوجها عندما أقامت أسرة المؤلف بين جنباتها بداية الستينيات من القرن الماضي، وحيث كان الكثير من الأفارقة الأمريكيين ينزحون إلى تلك المدينة "طلبًا للأمان والاستقرار".
ويأتي هذا السرد من الذكريات والأحداث من خلال أسلوب متميز لاحظته في كتابيه السابقين (حصاد الظلام، والماسة السمراء)، فأسلوبه يتسم بأبجدية جذابة وسلسة، كقوله في مستهل حديثه عن ذكرياته في الصف السادس الابتدائي: "فهي مغامرة كبيرة أن يتسلل إليك شعور الإنجاز وأنت في الطريق إليه"، وقوله في وصف حمام المسجد الحرام في مكة المكرمة :"وتحلق حول الكعبة وكأنها تطوف مع الناس"، وقوله في موضع آخر من الكتاب :"وعلى غير إدراك مني بدا وكأن المحيط الأطلسي كتب على سطح أمواجه أنني سأكون أحد عابريه مرارًا وتكرارًا".
ويصل هذا الأسلوب في أحيان كثيرة إلى مستوى "الفانتازيا"، كما في وصفه لأعراس وأفراح مكة والمدينة.
والكتاب حافل بمفردات فولكلورية لعادات وتقاليد الأهالي، والأسماء التي ترتبط ببعض المأكولات والمشروبات والمناسبات والألعاب الشعبية، كلمات وأسماء مثل: تيازير (حواجز قماشية مزخرفة تستخدم كسواتر لمكان الحفل) – ليلة الدبش (الليلة التي ينقل فيها أهل العروس ملابسها وأمتعتها إلى بيت الزوجية على وقع الطبول والدفوف وأصوات الأهازيج)- لعب المزمار والبرجون والكبت والدقة والكيرم- العلبة والنقرزان والمرد والمرجف (أنواع من الطبول)- الزومال (أهازيج تردد على إيقاع الطبول)- المعاشر(طاولات خشبية مشغولة ومزخرفة بالأصداف تحمل على الرأس ويوزع منها تشكيلة من المأكولات والحلوى المكية لإفطار أهل الفرح والحارة- الهريكاري والسيريه وآيس كريم التماتيك والدندرمة (مأكولات ومشروبات شعبية)، إضافة إلى الأساطير الشعبية كخرافة الدجيرة أو الدنجيرة، تلك الجِنِّية التي كان يخافها الأطفال كما في (أمنا الغولة).
والكتاب غني أيضًا بالمعلومات التي ربما لم يسمع بها البعض من قبل، مثل تطرق المؤلف إلى مستشفى الجذام, الذي كان يقع على طريق مكة بعد بحرة، والذي كان معلمًا بارزًا من معالم مدينة جدة باعتباره المستشفى الأول والأوحد في الشرق الأوسط لمرضى الجذام، وكاللغات الإفريقية الشائعة في مكة المكرمة (الزبرماوية – الهوساوية – الفلاتة- البرناوية ..)، وكقوله إن مطار جدة هو أول مطار سعودي (أنشئ عام 1945), حيث انطلقت منه أول رحلة جوية إلى دمشق.
ولابد وأن يعجب القارئ بالذاكرة الخصبة للمؤلف وهو يصف بالتفصيل ذكرياته في الصفوف الإبتدائية الأولى في مدرسة العزيزية، ثم المدرسة النموذجية الإبتدائية، ويعدد أسماء كل من عرفهم خلال تلك الفترة المبكرة من حياته، مع وصفه الدقيق لكافة المشاهد والأحداث التي علقت بذاكرته خلال رحلاته المتعددة إلى الولايات المتحدة ومصر ومكة والمدينة والطائف، إضافة إلى الرحلات المدرسية وأنشطته المدرسية الرياضية والفنية وهواياته المتعددة التي سردها بمنتهى الدقة.
وأن يلفت النظر، ما تضمنه الكتاب من عشرات الأسماء لأعلام في الفكر والأدب والفن والإعلام, ممن التقاهم المؤلف في طفولته وصباه في مجالس جدة «بابا طاهر زمخشري» والأعمام، ممن كانت تربطه بهم علاقة صداقة، من داخل المملكة، ومن خارجها، خاصة من مصر وتونس اللتين كان «بابا طاهر» كثير التردد عليهما، ومن أبرز تلك الأسماء: شاعر الشباب أحمد رامي- المطرب الفنان محمد عبده - عتاب – ابتسام لطفي – أحمد قنديل- محمد حيدر مشيخ – محمد أحمد صبيح – عبد الرحمن يغمور، وغيرهم.
وقد ساهم احتكاك المؤلف بهؤلاء الأعلام منذ الصغر في نمو موهبة القراءة والكتابة لديه، وحيث يعود الفضل الأول في ذلك إلى جده "طاهر زمخشري" الذي كان المشجع الأول والأكبر له في هذا المضمار.
كما يلفت النظر ما يزخر به الكتاب من معلومات قيمة، كاستعانته بمعلومة للرحالة الفرنسي جول جرفيه كورتيلّمون (كتابه رحلتي إلى مكة في العام 1894)، حول الوباء الذي اجتاح مكة وأدى إلى وفاة العديد من سكانها وزوارها، وما أشيع آنذاك بأن السكان (الأفارقة) هم الذين جاءوا بالوباء، وكوصفه لفوائد نخيل الدوم الطبية، وغير ذلك كثير.
وهناك بعد سياسي في "الكتاب" تمثل بشكل خاص في الحديث عن "ريال فلسطين" الذي كان من أبرز ملامح الدعم العربي السعودي للقضية الفلسطينية على المستوى الشعبي، وزيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للمملكة، والرئيس اللبناني سليمان فرنجية في عهد الملك فيصل – يرحمه الله- وحيث كان الطلبة المتفوقين يشاركون في الإستقبال بالاصطفاف على جانبي الطريق للترحيب بضيوف المملكة.
كما تطرق المؤلف بإسهاب عن حرب أكتوبر (العاشر من رمضان، أو حرب أكتوبر 1973)، التي يعتبر قطع جلالة الفيصل – يرحمه الله- موارد النفط عن أمريكا من أبرز ملامحها التي سجلها التاريخ بأحرف من نور.
ويبدو البعد التربوي واضحًا في الكتاب، ويمكن الاستدلال عليه من خلال انتقاد الكاتب للأسلوب التربوي الخاطئ الذي كان متبعًا من قبل بعض معلميه، خاصة في مدرسة العزيزية الإبتدائية في جدة، كاستخدام (الكرباج) و (الفلكة) في معاقبة الطلاب المخالفين، بما يشبه التعذيب.
ويرى المؤلف أن أساليب تلك العقوبات التي كانت شائعة في المدارس آنذاك، تولد الشعور بالرهبة من المدرسين القساة، وعقدًا دراسية من المواد التي يدرسونها، بما يؤثر سلبًا على إبداعات الطلبة، إلى جانب الشعور بالإهانة أمام زملائهم.
ولا عجب إذا حظي هذا الكتاب بأرقى وأعلى التقديرات الأدبية فمن خلال تلك القراءة الممتعة لسيرة حياة المؤلف في جزئها الأول، نجد أن محمد بلو يحمل أولاً وقبل أي شيء لقب إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معاني السمو والنبل والإحساس المفرط بالألم والفرح والحزن والرضى، والإصرار على التميز والنجاح مهما عظمت التحديات وتعثرت مسيرة الإنجاز ,مع سلسلة الفقد الذي طالت حلقاته خلال تلك المسيرة الشاقة بدءًا من فقدان والده، وجده (بابا طاهر)، وحتى فقدانه عمله مرتين عبر صدمتين موجعتين، مرورًا بفقدانه بصره. لكن ظلت الإبتسامة ، بالرغم من هذه السلسلة المؤلمة - لا تفارق محياه.
ويكفي محمد توفيق بِلُّو فخرًا، أنه مؤسس جمعية (إبصار) التي تعتبر منجزاً وطنياً وإنسانياً وحضارياً بامتياز.
رحلة "بِلُّو" ما زالت تبحر في البحر الأحمر الذي يعشقه، ولابد وأن يسطر المزيد من الصفحات المضيئة في مسيرة حياته المثمرة إن شاء الله.
لتعريف عن المؤلف أكثر يمكن مشاهدة الرابط التالي: كتاب الأديب طاهر زمخشري في سطور أحد سلسلة الكاتب الأديب محمد بلو - غرب الإخبــارية https://garbnews.net/news/s/121152