المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الجمعة 27 ديسمبر 2024
السفر إلى الشمس: كيف سينجو مسبار باركر الشمسي من الانصهار؟
د.رشا عُمر باشا- امريكا
بواسطة : د.رشا عُمر باشا- امريكا 09-08-2018 10:52 صباحاً 32.2K
المصدر -  
ستقوم وكالة ناسا في هذا الشهر بإطلاق مهمة مسبار باركر الشمسي parker solar probe إلى الغلاف الجوي الشمسي، حيث لم تصل أي مهمة إلى هذا القرب من الشمس من قبل، ولتقريب الصورة أكثر عن البعد الذي ستكون منه المهمة عن الشمس سنضرب مثالاً بسيطاً، لو وضعنا الأرض على نهاية عصا طولها ياردة واحدة (36 إنش) ووضعنا الشمس على النهاية الأخرى منها، فإن المركبة ستكون على بعد 4 إنش من الشمس. تقع منطقة تسمى الهالة Corona داخل الغلاف الجوي الشمسي حيث ستعمل المهمة على رصد غير مسبوقٍ لطبيعة القوى المسببة لدفع مجموعة واسعة من الجسميات والطاقة والحرارة نحو الفضاء الخارجي باتجاه المجموعة الشمسية وصولاً لأبعد كوكب فيها، ألا وهو نبتون. تتمتع منطقة الهالة بدرجة حرارة عالية بشكل لا يمكن تصديقه، ستحلق المركبة خلال مواد تزيد درجة حرارتها عن مليون درجة فهرنهايت وستتعرض لضوءٍ شمسي ساطعٍ جداً.

إذاً لماذا لن تنصهر المركبة؟

صُممت المركبة لمقاومة الظروف الشديدة ودرجات الحرارة المتقلبة للمهمة، يكمن السر في درعها الحراري الذي اختيْرَ بعناية إضافةً إلى نظام التحكم الذاتي الذي سيساعد على حماية المركبة من انبعاثات ضوء الشمس شديدة الحرارة، لكنها في الوقت نفسه ستسمح لمواد الهالة بملامسة المركبة. التفسير العلمي لعدم الانصهار سرٌّ واحد يمكّننا من فهم الأمر الذي سيُبقي المركبة آمنة، ألا وهو استيعاب فكرة الفرق بين الحرارة heat ودرجة الحرارة temperature. بشكل معاكسٍ للبديهة، لا يمكن ربط درجة الحرارة العالية بسخونة الجسم دائماً.


في الفضاء، قد تصل درجة الحرارة إلى آلاف الدرجات لكنها لا توفر حرارة كافية للجسم المتعرض لها، لماذا؟ يعود السبب إلى أن درجات الحرارة هي مقياس لسرعة الجسيمات المتحركة، ولكن الحرارة هي الكمية الكلية للطاقة التي تنقلها تلك الجسيمات. حيث يمكن للجسميات أن تتحرك بسرعة عالية (درجة حرارة عالية) لكن إذا كان عددها قليلاً، فإنها لن تنقل طاقة عالية (حرارة منخفضة). بما أنّ أغلب الفضاء فارغ، يوجد عدد قليل من الجسيمات التي تنقل الطاقة إلى المركبة. على سبيل المثال، تتمتع منطقة الهالة التي سوف تحلق خلالها المركبة بدرجة حرارة عالية جداً لكنها ذات كثافةٍ منخفضة جداً، تخيل الفرق بين وضع يدك في فرن حار دون المساس بسطحه مقارنةً بوضعها في ماء مغلي (لا تجرّب هذا في البيت). الهواء الساخن داخل الفرن يمتلك كثافة أقل من الماء المغلي وبالتالي فان يدك ستقاوم درجات الحرارة العالية في الفرن لمدة أطول مقارنةً بالماء المغلي لأنّ الماء ينقل كمية حرارة أكبر بواسطة جسيماته. ينطبق نفس المبدأ على الشمس، بمقارنة سطح الشمس مع الهالة، نجد أن الهالة ذات كثافة منخفضة جداً. ولذلك فان المركبة ستتعرض لعدد قليلٍ من الجسيمات الحارة ولن تكتسب كمية عالية من الحرارة. وبشكل أوضح، فبينما تحلق المركبة عبر درجة الحرارة العالية فان سطح درعها الحراري الذي يواجه الشمس سيكتسب حرارة تصل إلى 2500 فهرنهايت (1400 درجة مئوية) تقريباً. الدرع الحراري الذي يحمي المركبة ما زالت درجة الحرارة التي ستكتسبها المركبة حارةً بشكل كبير (آلاف الدرجات)، على سبيل المقارنة، تتراوح درجة حرارة الحمم البركانية المتطايرة من البركان بين 1200 و2200 فهرنهايت. ومن أجل مقاومة هذه الحرارة ستستخدم المركبة درعاً حراريّاً يُعرف باسم نظام الحماية الحراري Thermal Protection System، ذا قطر مقداره 2.4 متر وسماكة مقدارها 115 مليمتر، سيوفر هذا الدرع حماية للأجهزة الواقعة خلفه حيث ستبلغ درجة حرارتها 85 فهرنهايت (30 درجة مئوية) تقريباً. صمّم مختبرُ جوهان هوبكنس للفيزياء التطبيقية Hopkins Applied Physics Laboratory نظامَ الحماية الحراري، وصُنع في شركة كربون-كربون للتقنيات المتقدمة Carbon-Carbon Advanced Technologies، وذلك باستخدام رغوة كربونية محصورة بين صفيحتين من الكربون. هذا العازل ذو الوزن الخفيف مطليٌ بطلاءٍ سيرامكي أبيض اللون على وجهه المقابل للشمس لعكس أكبر قدرٍ ممكنٍ من الحرارة. صُمِّم الدرع لمقاومة درجة حرارة تصل إلى 3000 فهرنهايت (1650 درجة مئوية)، وبهذا يكون استطاعة نظام الحماية الحراري تحمّل أي حرارة سترسلها الشمس إليه مما يحافظ على أمان جميع الأجهزة تقريباً.

الكأس التي ستقيس الرياح الشمسية ليست كل الأجهزة واقعة خلف الدرع الحراري، فبعضها مثل كأس المسبار الشمسي لن يكون محمياً خلف الدرع. هذا الجهاز المعروف باسم كأس فراداي هو عبارة عن حساسٍ يقيس تدفقات الأيونات والإلكترونات وزوايا الجريان القادمة من الرياح الشمسية. وعند الأخذ بعين الاعتبار شدة حرارة الغلاف الجوي الشمسي، تمت هندسة تقنيات فريدة للتأكد ليس فقط من نجاة هذه الأداة وإنما أيضاً من قدرتها على إرسال القراءات الدقيقة إلى الأرض. صُنِّعت الكأس من صفائح من التيتانيوم والزركونيوم والموليبدينوم، تتمتع سبيكة الموليبدنيوم بدرجة انصهار تساوي 4260 فهرنهايت (2349 درجة مئوية)، كما صُنعت الرقاقات التي تُنتج مجالاً كهربائياً للكأس من معدن التنغستين الذي يمتلك أعلى درجة انصهار بين جميع المعادن: 6192 فهرنهايت (3422 درجة مئوية.) عادةً ما تُستخدم أشعة الليزر لحفر خطوط الشبكة في الرقاقات لكن لهذا المعدن وبسبب ارتفاع درجة انصهاره فقد استخدم الحامض كبديل. ثم جاء تحدٍ آخر في تصنيع الأسلاك الإلكترونية، حيث ستنصهر أغلب الأسلاك إثر تعرضها لإشعاع الحرارة نتيجة قربها من الشمس. ولحل هذه المشكلة، نُميَّت أنابيب من الياقوت الأزرق الكريستالية لدعم الأسلاك، كما صُنعت الأسلاك من النيوبيوم. للتأكد من أنّ الأداة مستعدة للبيئة القاسية هنالك، احتاج العلماء لمحاكاة الإشعاع الحراري الشديد للشمس في المختبر، حيث استخدم الباحثون مسرّع جسيمات وأجهزة عرض أيماكس لزيادة الحرارة. عملت أجهزة العرض على محاكاة حرارة الشمس، أما مسرع الجسيمات، فقد عرّض الكأس للإشعاع للتأكد من قدرة الكأس على قياس الجسيمات المتسارعة تحت الظروف الشديدة. وللتأكد من مقاومة كأس المسبار الشمسي للبيئة القاسية، استخدم فرن أوديلا الشمسي الذي يجمع حرارة الشمس بواسطة 10,000 مرآة قابلة للتعديل.
image


في النهاية اجتاز الكأس جميع اختباراته. واستمر بأدائه الجيد وأعطى نتائج واضحة كلما زادت فترة بقائه في بيئات الاختبار. وعلق جاستن كاسبر Justin Kasper، الباحث الرئيسي لأدوات SWEAP في جامعة ميشيغان في آن أربور قائلاً: "نحن نعتقد بأن الإشعاع المسلط على المسبار أزال جميع الملوثات المحتمل وجودها على الكأس. ببساطة إنه ينظف نفسه بنفسه". المركبة الفضائية تُبقي نفسها باردة تحمي العديد من التصاميم الأخرى على المركبة الفضائية باركر سولار بروب من الحرارة، حيث قد تزداد حرارة الألواح الشمسية التي ستزود المركبة الفضائية بالطاقة من الشمس إذا لم تكن محمية بشكل جيد. عند كل تقارب من الشمس يحدث للمركبة تتراجع المصفوفات الشمسية خلف ظل الدرع الحراري تاركة خلفها جزءاً صغيراً منها معرضاً لإشعاع الشمس الشديد. ولكن مع هذا القرب من الشمس فهنالك حاجة ماسة لمزيد من الحماية، حيث تمتلك المصفوفات الشمسية نظام تبريد بسيط بشكل مدهش، يتكون من خزان دافئ سيحمي مادة التبريد من التجمد أثناء الانطلاق، ومُشّعَين سيحافظان على مادة التبريد من التجمد، وزعانف من الألمنيوم ستعمل على زيادة سطح التبريد، ومضخات لتدوير مادة التبريد. نظام التبريد هذا قوي بما يكفي لتبريد غرفة معيشة متوسطة الحجم، حيث سيُبقي المصفوفات والأجهزة الشمسية باردةً وعاملةً أثناء تعرضها لحرارة الشمس. ما هي مادة التبريد المستخدمة في نظام التبريد؟ غالون من الماء منزوع الأيونات. وبما أنّ درجة الحرارة التي ستتعرض لها المركبة ستتراوح ما بين 50 فهرنهايت (10 درجة مئوية) إلى 257 فهرنهايت (125 درجة مئوية)، وبالرغم من وجود سوائل أخرى للتبريد غير الماء لكن سوائل قليلة تتمكن من تحمل هذه التباينات في درجة الحرارة مثل الماء. ومن أجل منع هذا الماء من الغليان، سيُضغَط حتى تتجاوز نقطة غليانه درجة 257 فهرنهايت (125 درجة مئوية). قضية أخرى متعلقة بالحماية، وهي كيفية التحكم بالمركبة عن بعد. سيكون مسبار باركر الشمسي بمفرده لفترةٍ طويلة، فإذا أراد المهندسون التحكم به من الأرض سيحتاج الأمر لثماني دقائق لوصول الإشارة للمركبة. فإذا حدث خطأ سيفوت الأوان لإصلاحه.
وبالتالي، صُمّمت المركبة الفضائية لتحافظ على نفسها بشكل مستقل لتبقى آمنة. حيث وُضعت العديد من الحسّاسات بحجم يقارب نصف حجم هاتف خلوي على طول حواف الدرع الحراري من جهة الظل. وفي حال تعرض أي حسّاسٍ لضوء الشمس فإنه سيعطي تنبيه للحاسوب المركزي لكي يُصحح وضعية المركبة للحفاظ على الحسّاسات وبقية الأجهزة آمنة. ستحدث كل هذه الأمور بشكل مستقل دون التدخل البشري، لذلك تمت برمجة برنامج الحاسوب المركزي واختباره على نطاق واسع للتأكد من إمكانيته على عمل جميع التصحيحات أثناء تحليقه في الفضاء. الانطلاق نحو الشمس بعد الإطلاق، سيعمل مسبار باركر الشمسي على تحديد موضع الشمس، ثم ستُعدّل وضعية درع الحرارة وتجعله بمحاذاة الشمس وسيستمر في رحلته في الفضاء للأشهر الثلاثة القادمة معانقاً حرارة الشمس وحامياً نفسه من الفراغ البارد في الفضاء. على مدى السبع سنوات الخاصة بالمهمة المخطط لها. ستنجز المركبة 24 دورةً حول نجمنا. وفي كل مرة تقترب فيها من الشمس، ستأخذ عينةً من الرياح الشمسية، وستدرس هالة الشمس موفرةً بذلك عمليات رصدٍ لم يسبق لها مثيل حول نجمنا، وبتسليحها بجميع هذه التقنيات المبتكرة، فإننا متأكدون من أنها ستبقى باردةً طول فترة المهمة.