صحابيات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "خديجة بنت خويلد"
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيرُ النَّاسِ قَرني، ثمَّ الَّذينَ يلونَهُم، ثمَّ الَّذينَ يلونَهُم، ثمَّ الَّذينَ يلونَهُم ثلاثًا ثمَّ يجيءُ قُومٌ مِن بعدِهِم يتسَمَّنونَ ويحبُّونَ السِّمنَ يعطونَ الشَّهادةَ قبلَ أن يُسْألوها) الترمذي، 2302، هكذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن جيل الصحابة والصحابيات، الجيل الأول الذي زُرعت فيه عقيدة الإسلام، وقِيَمه، ومبادئه، ورافقوا ولازموا الرسول عليه السلام حتى استطاعوا نشر الإسلام في كافة المعمورة.
لعبت الصحابيات دور البطولة في جميع مراحل نشر الدعوة الإسلامية، بدءاً من تلقّي الأوامر والأسس عن الرسول عليه السلام، وتطبيق ونشر هذا الدين، والحفاظ عليه، والدفاع عنه، والتصديق لصاحب هذه الرسالة العظيمة. لم يقتصر دورهنّ على ذلك، بل شاركن في الغزوات جنباً إلى جنب مع الرسول في مواقف مضيئة يشهد لهنّ التاريخ بذلك، حتى ظهرت أول ممرضة في التاريخ إلى جانب الرسول عليه السلام في إحدى الغزوات. ولا ننسى فضل باقي الصحابيات اللواتي قدّمن لنا أفضل مُثُلٍ عُليا نهتدي بنهجهنّ، وليكنَّ نبراساً لنا في هذا الطريق.
سوف أعد كل يوم سيرة لإحدى الصحابيات الجليلات كان لهنّ بصمةً واضحة، ونموذجاً مُضيئاً في التضحية والثبات. لمعت أسماؤهنّ في تاريخنا، نذكر منهنّ:
(1) خديجة بنت خويلد هي الزوجة الأولى للنبي -عليه السلام-، وهي أم المؤمنين، فهي أول من اعتنق الإسلام بإجماع علماء المسلمين. كانت السيدة خديجة من أعرق بيوت قريش نسباً، وحَسَباً، وشرفاً. نشأت على التخلّق بالأخلاق الحميدة، وتميّزت بقوة العقل، والحزم، والحكمة، والعفة، والطهارة. كانت السيدة خديجة ذات مال وتجارة رابحة، حيث كانت تستأجر الرّجال وترسلهم إلى بلاد الشام يتولّون مالها، حتى وصل إلى مسامعها ذِكر (محمد بن عبد الله) كريم الأخلاق، الصادق الأمين، فعرضت عليه تجارتها في الشام، وأعطته أفضل مما أُعطي التّجار، فكان يعود لها بالأرباح أضعاف التجار السابقين. تزوجت السيدة خديجة بالرّسول عليه السلام في سن الأربعين بينما كان هو في الخامسة والعشرين من عمره، ويُعدّ زواجه من خديجة أطول فترة زواج أمضاها الرسول عليه السلام مع زوجاته، ولم يتزوج بأُخرى طيلة زواجهما بالرغم من أنها كانت أكبر عمراً منه، إلا أنّها استطاعت أن تكون أقرب زوجاته إليه، وكانت تُثير غيرة زوجاته الأخريات حتى بعد وفاتها. أنجبت القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقيّة، وأم كلثوم، وفاطمة. كانت السيدة خديجة أول من آزرت ونصرت الرسول عليه السلام حين نزل عليه الوحي، فقد تمكّنت من خلال قوة عقلها وحكمتها أن تعرف أن هذا وحي وليس بأوهام حين أتاها الرسول عليه السلام من غار حراء وهو يرجف ويقول: (زملوني زملوني )، فقالت له: (فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرّحم، وتَصدُق الحديث، وتَحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، وكأن الله اختصّها مع الرسول عليه السلام لتكون رفيقة دربه في بداية نشر الدعوة الإسلامية. انطلقت خديجة رضي الله عنها بالرسول عليه السلام حتى أتت به ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها وكان شيخاً كبيراً قد عُمِيَ وكان يكتب العربية، فأخبره النبي عليه السلام خبر ما رأى، فأعلمه ورقة أن هذا هو الناموس الذي أُنزل على موسى عليه السلام، وبهذا كانت السيدة خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدّقته، ولهذا لُقّبت بنصير رسول الله، فقد تركت حياة الراحة والاستقرار وخرجت مع الرسول عليه السلام في عام المقاطعة إلى شعاب مكة مدّة ثلاث سنوات تتحمّل معه أعباء الرّسالة بالرغم من كِبَر سنّها صابرة مجاهدة. لُقّبت السيدة خديجة بخير نساء الجنة، كيف لا وهي السيدة التي رافقت ونصرت الرسول عليه السلام في أحلك أوقاته، فها هو الرسول يُعلن في أكثر من مناسبة بأنّها خير نساء الجنة، فقد رُوِيَ عن أنس بن مالك أن النّبي عليه السلام قال: (حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون) الألباني، 6141. ليس هذا فحسب، بل يُقرِئُها المولى السلام من فوق سبع سماوات، ويُبشّرها ببيت من قصب في الجنة. لقد أوفى الرسول عليه السلام للسيدة خديجة بعد وفاتها، وكان حبّه لها ظاهراً للعيان، وغرّة على جبين التاريخ الإسلامي، ونموذجاً للعلاقات الأُسريّة الخاصة، حتى بعد وفاتها كان يُكثر من ذكرها، ويتصدّق عنها، ويصل صديقاتها. توفّيت السيدة خديجة رضي الله عنها عن عمر يناهز الخامسة والستين، قبل الهجرة بثلاث سنوات، وأنزلها الرسول عليه السلام بنفسه إلى قبرها، وأغشي عليه بعدها كثيراً، ومكث فترة طويلة بعدها بلا زواج، وسُمّي العام الذي توفّيت فيه بعام الحزن.
*
*
منطقة المرفقات