اسد الصحراء "عمر المختار "
السيّد عُمر بن مختار بن عُمر المنفي الهلالي (20 أغسطس 1858 - 16 سبتمبر 1931)، الشهير بعمر المُختار، المُلقب بشيخ الشهداء، وشيخ المجاهدين، وأسد الصحراء، هو قائد أدوار السنوسية في ليبيا، وأحد أشهر المقاومين العرب والمسلمين. ينتمي إلى بيت فرحات من قبيلة منفةالهلالية التي تنتقل في بادية برقة.
مُقاوم ليبي حارب قوات الغزو الإيطالية منذ دخولها أرض ليبيا إلى عام 1911. حارب الإيطاليين وهو يبلغ من العمر 53 عامًا لأكثر من عشرين عامًا في عدد كبير من المعارك، إلى أن قُبض عليه من قِبل الجنود الطليان، وأجريت له محاكمة صوريّة انتهت بإصدار حكم بإعدامه شنقًا، فنُفذت فيه العقوبة على الرغم من أنه كان كبيرًا عليلًا، فقد بلغ في حينها 73 عامًا وعانى من الحمّى. وكان الهدف من إعدام عمر المُختار إضعاف الروح المعنويَّة للمقاومين الليبيين والقضاء على الحركات المناهضة للحكم الإيطالي، لكن النتيجة جاءت عكسيَّة، فقد ارتفعت حدَّة الثورات، وانتهى الأمر بأن طُرد الطليان من البلاد.
حصد عمر المُختار إعجاب وتعاطف الكثير من الناس أثناء حياته، وأشخاص أكثر بعد إعدامه، فأخبار الشيخ الطاعن في السن الذي يُقاتل في سبيل بلاده ودينه استقطبت انتباه الكثير من المسلمين والعرب الذين كانوا يعانون من نير الاستعمار الأوروبي في حينها، وحثت المقاومين على التحرّك، وبعد وفاته حصدت صورته وهو مُعلّق على حبل المشنقة تعاطف أشخاص أكثر، من العالمين الشرقي والغربي على حد سواء، فكبر المختار في أذهان الناس وأصبح بطلًا شهيدًا. رثا عدد من الشعراء المختار بعد إعدامه، وظهرت شخصيَّته في فيلم من إخراج مصطفى العقَّاد من عام 1981حمل عنوان "أسد الصحراء"، وفيه جسَّد الممثل المكسيكي - الأمريكي أنطوني كوين دور عمر المختار.
نسبه:
هو عمر المختار محمد فرحات ابريدان امحمد مومن بوهديمه عبد الله – علم مناف بن محسن بن حسن بن عكرمه بن الوتاج بن سفيان بن خالد بن الجوشافي بن طاهر بن الأرقع بن سعيد بن عويده بن الجارح بن خافي (الموصوف بالعروه) بن هشام بن مناف الكبير.*من بيت فرحات من قبيلة بريدان وهي بطن من قبيلة المنفة أو المنيف والتي ترجع إلى عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أولى القبائل الهلالية التي دخلت برقة. أمه هي عائشة بنت محارب.
نشأته:
وُلد عمر المختار في البطنان ببرقة في الجبل الأخضر عام 1862، وقيل عام 1858،وكفله أبوه وعني بتربيته تربيةً إسلاميَّة حميدة مستمدة من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على القرآن والسنَّة النبويَّة. ولم يُعايش عمر المختار والده طويلًا، إذ حدث أن توفي والده وهو في طريقه إلى مدينة مكَّة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور) بأن يُبلّغ شقيقه بأنَّه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد.وبعد عودة أحمد الغرياني من الحج، توجه فوراً إلى شقيقه الشيخ حسين وأخبره بما حصل وبرغبة مختار بن عمر أن يتولّى شؤون ولديه، فوافق من غير تردد، وتولّى رعايتهما محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الأخوان والقبائل الأخرى.
حصد عمر المختار انتباه شيوخه في صباه، فهو اليتيم اليافع، الذي شجّع القرآن الناس وحثهم على العطف على أمثاله كي تُخفف عنهم مرارة العيش،*كما أظهر ذكاءً واضحًا، مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربين، الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدّوهم لحمل رسالة الإسلام، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وإفريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه.*مكث عمر المختار في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم: السيّد الزروالي المغربي، والسيّد الجوّاني، والعلّامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني، وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عمليَّة أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالًا مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم، وكان مخلصًا في عمله متفانيًا في أداء ما عليه، ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجَّل عمل يومه إلى غده.
وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعاً، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر الأخير في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من أخلاق عالية.*ومع مرور الزمن وبعد أن بلغ عمر المختار أشدَّه، اكتسب من العلوم الدينية الشيء الكثير ومن العلوم الدنيويَّة ما تيسَّر له، فأصبح على إلمام واسع بشئون البيئة التي تحيط به وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسَّع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلَّم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدويةومايتطلبه الموقف من آراء ونظريات، كما أنه أصبح خبيراً بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها.
علاقته بالسنوسيين:
خلال السنوات التي قضاها عمر المختار في الجغبوب حيث كان يكمل دراسته، تمكَّن من اكتساب سمعةٍ حسنةٍ وقوية عند شيوخ الحركة السنوسية. وقد بلغت تلك السمعة من القوة أن قرَّر محمد المهدي السنوسي- ثاني زعماء السنوسية - أخذ عمر المختار معه سنة 1895 برحلته من الجغبوب إلى الكفرة في جنوب شرق الصحراء الليبية،*وبعد هذه الرحلة اصطحبه مرة أخرى في رحلة من الكفرةإلى منطقة قرو في غرب السودان، فاصطحب معه عمر المختار، وعيَّنه هناك شيخاً لزاوية عين كلك.ويروى أنه في الطريق إلى السودان وبينما كانت تعبر قافلته الصحراء أشار أحد المرافقين للقافلة إلى وجود أسد مفترس بالجوار، واقترح تقديم إحدى الإبل كفدية لاتّقاء شره، إلا أن عمر المختار رفض وقال: «إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف قد أبطلت، فكيف يصحّ أن نعيدها لحيوان؟ والله إنها علامة ذلٍّ وهوان، والله إن خرج علينا لندفعه بسلاحنا»، ثم خرج الأسد فذهب إليه وقتله، وسلخ جلده وعلَّقه لتراه القوافل الأخرى،*وبعد ذلك كل ما ذُكِرَت القصة كان يقول: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾.*وقد مكث عمر المختار بالسودان سنواتٍ طويلة نائباً عن المهدي السنوسي، حتى بلغ من إعجاب السنوسي به أن أصبح يقول: «لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم».
عيَّنه المهدي السنوسي في سنة 1897 شيخاً لبلدة تسمى زاوية القصور تقع بمنطقة الجبل الأخضر شمال شرق برقة،*والتي تقع قريباً من مدينة المرج، وأحسن عمر المختار الأداء في هذا المنصب، رغم أن البلدة التي كُلِّف بإدارتها كانت تقطنها قبيلة العبيد التي اشتهرت بشدة البأس وصعوبة الانقياد. وقد أدَّت علاقته الوثيقة بالسنوسيّين إلى اكتسابه لقبسيدي عمر الذي لم يكن يحظى به إلا شيوخ السنوسية المعروفين.
عندما بدأ الاستعمار الفرنسي لتشاد في عام 1900 واجه الفرنسيون الحركة السنوسية بالعداء وأخذوا يحاربونها، فجيَّشت الحركة نفسها ضد الفرنسيين بدورها، وكان عمر المختار ممَّن اختيروا لقيادة كتائب الحركة ضدَّهم، كما وقد شارك خلال ذلك بالدَّعوة في تشاد.*وخلال قتاله في تشاد أصيبت إبل المقاتلين الأربعة آلاف بداء الجرب، ووُكِّل هو بعلاجهم، فأمر بأخذهم إلى عين كلك لأن مائها جيّد، فتعافت الإبل.
توفي محمد المهدي السنوسي في عام 1902 الموافق 1321 هـ، واستدعتهالقيادة السنوسية على إثر ذلك للعودة إلى برقة، وقيل في عام 1906. وهناك عُيِّن مجدداً وللمرة الثانية شيخاً لبلدة زاوية القصور،وأحسن إدارتها حتى أنَّ العثمانيين هنَّؤوه على تمكِّنه من جلب الهدوء والاستقرار إليها بعد أن أعياهم ذلك،وقد ظلَّ عمر المختار في هذا المنصب مدَّة ثماني سنوات، حتى عام 1911. وقد قاتل خلال هذه الفترة جيوش الانتداب البريطاني على الحدود المصرية الليبية، في مناطق البردية والسلوم ومساعد، خصوصاً معركة السلوم في عام 1908 التي انتهت بوقوع بلدة السلوم في أيدي البريطانيّين.
القتال ضد الطليان
في عام 1911 أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية،*وبدأت إنزال قوَّاتها بمدينة بنغازي الساحلية شمال برقة في 19 أكتوبر الموافق الرابع من شوال عام 1329 هـ*وفي تلك الأثناء كان عمر المختار في مدينة الكفرة بقلب الصَّحراء في زيارة إلى السنوسيين، وعندما كان عائداً من هناك مرَّ بطريقه بواحة جالو،*وعلم وهو فيها بخبر نزول الإيطاليين، فعاد مسرعاً إلى زاوية القصور لتجنيد أهلها من قبيلة العبيد لمقاومة الإيطاليّين، ونجح بجمع 1,000 مقاتل معه.*وأول الأمر أسَّس عمر المختار معسكراً خاصاً له في منطقة الخروبة، ثم انتقل منها إلى الرجمة*حيث التحق بالجيش العثماني،*وأخيراً إلى بنينة جنوب مدينة بنغازي بحوالي 20 كيلومتراً*وهناك انضمُّوا إلى الكثير من المقاتلين الآخرين، وأصبح المعسكر قاعدةً لهم يخرجون منها ويغيرون باستمرارٍ على القوات الإيطالية. وقد رافق عمر المختار في هذه المرحلة من حياته الشيخ محمد الأخضر العيساوي، الذي روى أنه في خلال معركة السلاوي عام 1911، نزل المقاتلون الليبيون - بينما كانوا يحاربون الإيطاليين - إلى حقل زراعي للتخفّي فيه، وما إن وصلوه حتى بدأ الجنود الإيطاليون بإطلاق الرصاص الكثيف اتّجاه الحقل لقتلهم، وبينما هم على هذه الحال وجدوا حفرةً منخفضةً في الحقل، فأشاروا على عمر المختار بدخولها ليحتميَ من الرَّصاص، إلا أنه رفض بشدة، فدفعوه رغماً عنه وأدخلوه إليها، وظلَّ طوال المعركة يحاول الخروج منها وهم يمنعونه بالقوة.
في عام 1912 اندلعت حروب البلقان، فأجبرت الدولة العثمانية على عقد صلحٍ مع إيطاليا وقَّعته في لوزان بشهر نوفمبر،واضطرَّ نتيجةً لذلك قائد القوات العثمانية التي تقاتل الإيطاليين - عزيز بك المصري - على الانسحاب إلىالأستانة،*وسحب معه العسكر العثمانيّين النظاميّين في برقة الذين بلغ عددهم نحو 400 جندي.وقد أثار هذا الانسحاب - على الرغم من ضرورته وفقاً لشروط الصلح - سخط المقاتلين، فأصرُّوا على الجند العثمانيين أن يعطوهم أسلحتهم (وهو ما يناقض شروط الصلح)، فرفضوا، وعندما يئس المقاتلون أطلقوا على العثمانيين النار، فنشبت معركة سقط فيها قتلى من الطرفين، وعندما تأزَّم الوضع أُرسِلَ عمر المختار لفضّ النزاع، فلحق بالمقاتلين ونجح بإقناعهم بالعودة والتخلّي عن فكرة قتال العثمانيين.ظلَّ عمر المختار في موقع قيادة القتال ضد الطليان بكامل برقة حتى وصول أحمد الشريف السنوسي إلى درنة في شهر مايو من عام 1913 الموافق جمادى الآخرة عام 1331 هـ، فاستلم هو القيادة وظلَّ عمر المختار عوناً كبيراً له.إلا أن أحمد الشريف هاجر وترك برقة، فاستلم القيادة منه الأمير محمد إدريس السنوسي.
*
وحدة مدفعيَّة إيطاليَّة على حدود طرابلس الغرب.
شهدت هذه الفترة أعنف مراحل الصّراع ضد الطليان،وقد تركَّزت غارات وهجمات عمر المختار فيها على منطقة درنة. ومن أمثلة هذه الغارات معركة هامة نشبت في يوم الجمعة 16 مايو عام 1913 دامت لمدّة يومين، وانتهت بمقتل 70 جندي إيطالي وإصابة نحو 400 آخرين.كما دارت في 6 أكتوبر من العام نفسه معركة بو شمال في منطقة عين مارة، وفي شهر فبراير عام 1914 معارك أم شخنب وشلظيمة والزويتينة.وكان عمر المختار يتنقَّل أثناء غاراته على الطليان بين منطقتي زاوية القصور وتكنس حتى وقوعهما في أيدي الإيطاليّين بشهر سبتمبر عام 1913، حيث انتقل إلى معسكرات جبل العبيد كما كان يتواصل كثيراً مع قبائل منطقة دفنا.*وفي هذه الفترة انتكست المقاومة الليبية نتيجة القحط الذي أصاب البلاد في عامي 1913 إلى 1915، ثم استيلاء الطليان على أغلب المناطق الحيوية في وسط وشمال برقة بشهر يوليو عام 1914.عندما بدأ أحمد الشريف السنوسيالإغارة على البريطانيّين في مصر عبر الحدود سنة 1915 انضمَّ إليه عمر المختار، ثم عاد لاحقاً إلى ليبيا لاستئناف معاونته لإدريس السنوسي في حربه ضد الطليان.
في مطلع صيف عام 1916 كلَّفَ إدريس السنوسي - الذي كان يستلم زمام الأمور في برقة نيابةً عن أحمد - عمر المختار بالذهاب مع خالد الحمري وإبراهيم المصراتي إلى البطنان، لمقابلة نوري باشا (نائب أحمد الشريف وممثل الحكومة العثمانية في برقة) وتنبيهه إلى وجوب إيقاف كافة هجماته على الإنكليز في مصر، بل وكان عليهم أيضاً مراقبته لضمان عدم انتهاكه تلك الأوامر. وقد أزعج هذا نوري باشا، فقرَّر الذهاب بصحبة كبار معاونيه مثل عبد الرحمن عزام إلى أجدابيا للتَّفاهم مع إدريس، بينما بقي عمر المختار مع باقي المبعوثين في معسكر البطنان بانتظار التعليمات.*في أجدابيا، رفض إدريس رفضاً قاطعاً العدول عن قراره، على الرُّغم من إصرار نوري باشا الكبير، وبينما الحال هكذا وصل إلى المدينة وفدٌ من الطليان والإنكليز، فالتقوا مع إدريس في منطقة الزويتينة، وأخذوا يفاوضون على عقد السلم وإيقاف هجمات المقاومين على الإنكليز في مصر من جهة والطليان في برقة من جهةٍ أخرى. وقد مال الشيخ إدريس إلى السلم، فوافق على العرض، وكان أن وُقِّعت معاهدة الزويتينة، التي أثرت بشكل أساسي على جميع المعاهدات اللاحقة في الحرب الليبية. وكان من نتائجها رحيل نوري باشا إلى مصراتة لاستئناف المقاومة وتشتُّت معظم رجاله في أنحاء البلاد.
اضطرَّ محمد إدريس هو الآخر للهجرة إلى مصر في شهر يناير عام 1923بعد سقوط العاصمة طرابلس في أيدي الطليان،فعاد عمر المختار قائداً للمقاتلين في برقة. تابع عمر المختار دعوة أهالي الجبل الأخضر للقتال وتجييشهم ضدَّ الطليان، وفتح باب التطوُّع للانضمام إلى الكفاح ضدهم، وأصبحت معه لجنةٌ فيها أعيانٌ من مختلف قبائل الجبل.واتَّبع أسلوب الغارات وحرب العصابات، فكان يصطحب معه 100 إلى 300 رجل في كل غارةٍ ويهجم ثم ينسحب بسرعة، ولم يزد أبداً مجموع رجاله عن نحو 1,000 رجل، مسلَّحين ببنادق خفيفةٍ عددها لا يتعدَّى 6,000،*وقد شكَّل هذا بداية الحرب الضروس بين عمر المُختار والطليان، تلك الحرب التي استمرت 22 عامًا ولم تنتهي إلّا بأسر المختار وإعدامه.
وجد عمر المُختار نفسه قد تحوَّل من مُعلّم للقرآن إلى مُجاهد يُقاتل في سبيل بلاده ودينه لدفع الاحتلال عنها. وكان قد اكتسب خبرة كبيرة في أساليب وتكتيكات الحروب الصحراويَّة أثناء قتاله الفرنسيين في تشاد، وكان له معرفة سابقة بجغرافيَّة الصحراء وبدروبها ومسالكها وكل ما يتعلَّق بها، فاستغل هذه المعرفة وتلك الخبرة ليحصل على الأفضليَّة دومًا عند مجابهته الجنود الإيطاليون غير العارفين بحروب الصحراء وغير المعتادين على قيظها وجفافها. أخذ المختار يقود رجاله في حملاتٍ سريعة على الكتائب العسكرية الإيطاليَّة، فيضربوهم ضرباتٍ موجعة ثمَّ ينسحبون بسرعة إلى قلب الصحراء. عمل المجاهدون الليبيّون على مهاجمة الثكنات العسكريَّة الواقعة على أطراف الصحراء، وإيقاع الرتل وراء الرتل في كمين، وقطع طرق المواصلات والإمدادات على الجيش الإيطالي، وقد أصابت هذه الهجومات المسؤولين العسكريين الإيطاليين بالذهول في غير مرَّة، وأُحرج الجيش الإيطالي أمام الرأي العام في بلاده بعد أن لم يتمكن من إخماد حركة بعض الثوَّار البدو غير المدربين عسكريًّا.
في عام 1922 عقد شيخ وقائد الحركة السنوسية إدريس السنوسي صلحاً مع إيطاليا، وقد غضب عمر المختار وباقي شيوخ القبائل وقادة الحركة عند علمهم بذلك، فقدَّموا إليه وثيقة يبايعونه فيها زعيماً لهم، شريطة أن يكون ذلك للجهاد ضد الطليان فقط. ولم يكن لدى إدريس خيار سوى قبول البيعة، إلا أنَّه شد الرحال إلى مصر في اليوم التالي مباشرةً مدعياً المرض والحاجة للعلاج، وقد تبيَّن فيما بعد عند زيارة عمر المختار له هناك أنه كان بصحَّة جيدة. لكن بعد رحيل إدريس ومع اندلاع الحرب مجدداً في المنطقة أصبحت مسؤولية القيادة كلّها ملقاةً على عاتق عمر المختار، فأصبح هو زعيم الحركة الجهادية في منطقة الجبل الأخضر، وبات يجمع المال والسلاح ويحرّض القبائل ويترأس الغارات والهجمات ضد الطليان في برقة.
سفره إلى مصر
سافر عمر المختار في شهر مارس سنة 1923 إلى مصر بصحبة علي باشا العبيدي ليعرض على الأمير محمد إدريس نتيجة عمله ويتلقى منه التوجيهات اللازمة.واستطاع اجتياز الحدود المصرية وتمكن من مقابلة الأمير إدريس بمصر الجديدة. وفي مصر جاءته جماعة من قبيلة المنفة وهي قبيلته التي ينتمي إليها، وكانوا قد أقاموا بمصر، لغرض الترحيب به، فاستفسر المختار قبل أن يأذن لهم بذلك عما إذا كانوا قد سعوا لمقابلة الأمير عند حضوره إلى مصر، فلما أجاب هؤلاء بالنفي معتذرين بأن أسبابًا عائليَّة قهرية منعتهم من تأدية هذا الواجب رفض المختار مقابلتهم وقال أنَّه لن يُقابل أناسٌ تركوا شيخه الذي هو ولي نعمته وسبب خيره، وهددهم بالقطيعة.*فما إن بلغ الأمير إدريس مافعله عمر المختار مع من جاء إليه من أبناء قبيلته حتى أصدر امره بمقابلتهم فامتثل المختار لأمره.حاولت إيطاليا بواسطة عملائها بمصر الاتصال بعمر المختار وعرضت عليه بأنها سوف تقدم له مساعدة إذا ما تعهد باتخاذ سكنه في مدينة بنغازي أو المرج، وملازمة بيته تحت رعاية وعطف إيطاليا، وأن حكومة روما مستعدة بأن تجعل من عمر المختار الشخصية الأولى في ليبيا كلها وتتلاشى أمامه جميع الشخصيات الكبيرة التي تتمتع بمكانتها عند إيطاليا في طرابلس الغرب وبنغازي، وإذا ما أراد البقاء في مصر فما عليه إلا أن يتعهد بأن يكون لاجئًا ويقطع علاقته بإدريس السنوسي، وفي هذه الحالة تتعهد حكومة روما بان توفر له راتبًا ضخمًا يمكنهّ من حياة رغدة، وهي على استعداد أن يكون الاتفاق بصورة سرية وتوفير الضمانات لعمر المختار ويتم كل شيء بدون ضجيج تطمينًا لعمر المختار وقد طلبت منه نصح الأهالي بالإقلاع عن فكرة القيام في وجه إيطاليا.وقد كرر الإيطاليون عرضهم على عمر المختار عدَّة مرّات حتى بعد خروجه من مصر وعودته إلى برقة لكنه كان يرفض في كل مرة ويُصرّ على الجهاد وقتال المحتل الأجنبي. كان المختار قد اتفق مع الأمير إدريس أثناء وجوده في مصر على تفاصيل الخطة التي يجب أن يتبعها المجاهدون في قتالهم الطليان على أساس تشكيل المعسكرات، واختيار القيادة الصالحة لهذه الأدوار، وأن تظل القيادة العليا من نصيب عمر المختار نفسه، وزوده الأمير بكتاب يتضمَّن هذا المعنى، وتمَّ الاتفاق على بقاء الأمير في مصر ليقود العمل السياسي، ويهتم بأمر المهاجرين ويضغط على الحكومة المصريَّة والبريطانيَّة بالسماح للمجاهدين بالالتجاء إلى مصر، ويشرف على إمداد المجاهدين بكل المساعدات الممكنة من مصر، ويرسل الإرشادات والتعليمات اللازمة إلى عمر المختار في الجبل، واتُفق على أن يكون الحاج التواتي البرعصي حلقة الوصل بين الأمير وقائد الجهاد، وبعد ذلك الاتفاق غادر عمر المختار القاهرة إلى السلّوم فبرقة.
في عام 1923 وبعد أن عاشت مستعمرة ليبيا الإيطالية لعدّة سنواتٍ في هدوء نسبيّ مع ضعف في سيطرة الطليان، قرَّرت الحكومة الإيطالية تغيير سياستها اتّجاه ليبيا جذرياً، فقرَّرت قلب سياستها مع الحركة السنوسية من الحوار والتفاهم إلى الحرب والإخضاع بالقوة، وألغت جميع الاتفاقيات السابقة التي كانت قد أبرمتها مع الليبيّين وبدأت هجوماً شاملاً على معاقل الجهاد، ممَّا أدى إلى تفجُّر حرب عنيفة في أنحاء الجبل الأخضر بعد هدوءٍ كان قد دام لعدّة سنوات. واستمرَّت الحرب في الأعوام التالية، لتزداد شدة وعنفاً عاماً بعد عام.
شهدت الفترة الممتدة بين عاميّ 1924 و1925 مناوشات عديدة ومعارك دامية بين الثوَّار والقوَّات الإيطاليَّة، ووسَّع المجاهدون نشاطهم العسكري في الجبل الأخضر ولمع اسم عمر المختار كقائدٍ بارع يُتقن أساليب الكر والفر ويتمتع بنفوذ عظيم بين القبائل. وأخذ البدو من أبناء القبائل ينضمّون إلى صفوف المجاهدين، وبادرت القبائل بإمداد هؤلاء بما يحتاجون من مؤنٍ وعتادٍ وأسلحة. كان معسكر البراغيث هو مركز الرياسة العامة ومقر القائد العام عمر المختار، وكان النواة الأولى وحجر الأساس لمعسكرات الجبل الأخضر الثلاثة، وكان عمر المختار يُلقَّب بنائب الوكيل العام. وكان هناك مجلس أعلى استشاري في المعسكر يترأَّسه عمر المختار ويضم مختلف شيوخ وأعيان القبائل، كما كان هناك نظام رتب عسكرية يماثل ذاك العثماني ويشمل ترقياتٍ لأصحاب الإنجازات والأعمال البارزة. وقد أقرَّ حاكم برقة الإيطالي إتيليو تروتسي في مذكّراته المنشورة بعنوان "برقة الخضراء"، بأنَّ تكتيك ملاحقة الثوار وضربهم المستمرّ بالجبل الأخضر الذي اتبع منذ استلام الجنرال مومبيللي القيادة عام 1926 قد أدَّى إلى إنهاك القوة الإيطالية واستنفاذ قواها بقدر ما أنهك قوات الثوار، مما جعله أسلوباً غير مجدٍ. كما وأقر تروتسي بالطريقة نفسها بالأثر المعنويّ السيء الذي خلَّفته ضربات الثوار المتلاحقة على القوات الإيطالية بتلك الفترة، والتي لم تستطع ردَّ هذه الضربات أو إيقافها. (ص29-30).
خلال تلك الفترة كانت إيطاليا تصب اهتمامها على مدينة برقة التي لم تستطع احتلالها منذ أن زحفت جيوشها على أجدابيا سنة 1923، وانحصرت مجهوداتها على معسكرات عمر المختار الذي لم يخرج يومًا من معركة إلَّا ليدخل في معركة أخرى. وقد قام عمر المختار بتأسيس معسكرٍ للمجاهدين في الجبل الأخضر، وأصبح يتولَّى بنفسه إدارته والإشراف على تدريب المقاتلين وتنظيم هجماتهم. ثم اتَّخذ لاحقاً منطقة شحات قاعدة عسكرية له ولرجاله. وفي عام 1927 تبدَّلت قيادة الجيش الإيطالي في برقة، وتولّى أمرها القائد العام "ميزتي"، وأخذ على عاتقه تنفيذ الخطة الهادفة إلى ضرب الحصار على حركة الجهاد في الجبل الأخضر، كما استبدل حاكم بنغازي الإيطالي "مومبيلي" بخلفه الفريق أوَّل "تيروتس"، وهو من زعماء الحزب الفاشي، وزوِّد القائد ميزتي بعدد كبير من كبار الضبَّاط وأركان الحرب لمساعدته. وفي نفس السنة تقدمت القوات الإيطاليَّة من طرابلس الغرب بقيادة الفريق أوَّلرودولفو غراتسياني، فاحتلت واحة الجفرة والقسم الأكبر من فزان واشتبكت مع القبائل المحليَّة في عدَّة وقعات كانت الغلبة فيها للجيش الإيطالي. وقد ضاعفت الحكومة الإيطاليَّة من جهودها غير العسكريَّة أيضًا، فبذلت الأموال الطائلة والوعود لزعماء القبائل حتى يكفوا عن القتال، فأصابت في ذلك نجاحًا كبيرًا كان من نتيجته أن سقطت الجغبوب ومرادة وزلة وجالو وأوجلة ومرادة في أيديهم. وقد حاول عمر المختار مراراً إقناعهم بعدم التفاوض مع الإيطاليين والاستمرار في المقاومة. لكن بعد بدء الرضا السنوسي الدخول هو الآخر في المفاوضات مع الإيطاليين بأواخر عام 1937، متّجهاً في ذلك إلى عقد السلم معهم، أصدر أوامره إلى عمر المختار من جالو بضرورة وقف العمليات العسكرية، وقبل عمر المختار بنقل هذه الأوامر إلى رجاله، فخفَّت وتيرة القتال في أنحاء الجبل الأخضر بانتظار تجلّي الموقف. وكان احتلال تلك الواحات الصحراوية التي استسلم زعماؤها قد جعل عمر المختار في عزلة تامَّة في الجبل الأخضر ومع هذا ظلَّ المختار يشن الغارات على درنة وما حولها حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته، فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين كان النصر فيها حليفه، وفرّ الطليان تاركين عددًا من السيَّارات والمدافع الجبليَّة وصناديق الذخيرة والجمال، ودواب النقل.
08-03-2015 04:38 صباحاً
0
0
45.5K