المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
السبت 27 أبريل 2024

سعيد بن عامر العظمة تحت الأسمال

سعيد بن عامر العظمة تحت الأسمال

أيّنا سمع ھذا الاسم، وأيّنا سمع به من قبل؟

أغلب الظن أن أكثرنا، إن لم نكن جميعا، لم نسمع به قط. وكأني بكم إذ تطالعونه الآن تتساءلون: ومن يكون سعيد بن عامر ھذا؟

أجل سنعلم من ھذا السعيد. إنه واحد من كبار الصحابة رضي االله* عنھم، وإن لم يكن لاسمه ذلك الرنين المألوف لأسماء كبار الصحابة. إنه واحد من كبار الأتقياء الأخفياء. ولعل من نافلة القول وتكراره، أن ننوه بملازمته رسول الله* صلى الله* عليه وسلم في جميع مشاھده وغزواته.* فذلك كان نھج المسلمين جميعا. وما كان لمؤمن أن يتخلف عن رسول الله* صلى الله* عليه وسلم في سلم أو جھاد. أسلم سعيد قبيل فتح خيبر، ومنذ عانق الإسلام وبايع الرسول صلى الله* عليه وسلم، أعطاھما كل حياته، ووجوده ومصيره. فالطاعة، والزھد، والسمو.* والاخبات، والورع، والترفع. كل الفضائل العظيمة وجدت في ھذا الانسان الطيب الطاھر أخا وصديقا كبيرا. وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتھا، علينا أن نكون من الفطنة بحيث لا نخدع عن ھذه العظمة وندعھا تفلت منا وتتنكر. فحين تقع العين على سعيد في الزحام، لن ترى شيئا يدعوھا للتلبث والتأمل. ستجد العين واحدا من أفراد الكتيبة الانمية.* أشعث أغبر. ليس في ملبسه، ولا في شكله الخارجي ما يميزه عن فقراء المسلمين بشيء. فاذا جعلنا من ملبسه ومن شكله الخارجي دليلا على حقيقته، فلن نبصر شيئا، فان عظمة ھذا الرجل أكثر أصالة من أن تتبدى في أيّ من مظاھر البذخ والزخرف. إنھا ھناك كامنة مخبوءة وراء بساطته وأسماله. أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف الصدف؟ إنه شيء يشبه ھذا. عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولاية الشام، تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه. وأسلوب عمر في اختيار ولاته ومعاونيه، أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر، والدقة، والأناة.* ذلك أنه كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه وال في أقصى الأرض سيسأل عنه الله* اثنين ،عمر أولا.* وصاحب الخطأ ثانيا. ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولاة مرھفة، ومحيطة، وبصيرة، أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا. والشام يومئذ حاضرة كبيرة، والحياة فيھا قبل دخول الإسلام بقرون، تتقلب بين حضارات متساوقة. وھي مركز ھام لتجارة. ومرتع رحيب للنعمة. وھي بھذا، ولھذا درء إغراء. ولا يصلح لھا في رأي عمر الا قديس تفر كل شياطين الإغراء أمام عزوفه.* وزهده، عابد، قانت، أواب. وصاح عمر: قد وجدته، إليّ بسعيد بن عامر. وفيما بعد يجيء سعيد إلى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص. ولكن سعيدا يعتذر ويقول: "لا تفتنّي يا أمير المؤمنين". فيصيح به عمر: " والله* لا أدعك.* أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي.* ثم تتركوني". ؟؟!! واقتنع سعيد في لحظة، فقد كانت كلمات عمر حريّة بھذا الاقناع. أجل. ليس من العدل أن يقلدوه أمانتھم وخلافتھم، ثم يتركوه وحيدا. وإذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر، فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال؟ خرج سعيد إلى حمص ومعه زوجته، وكانا عروسين جديدين، وكانت عروسه منذ طفولتھا فائقة الجمال والنضرة.* وزوّده عمر بقدر طيّب من المال. ولما استقرّا في حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقھا كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر. وأشارت إليه بأن يشتري ما يلزمھما من لباس لائق، ومتاع وأثاث.* ثم يدخر الباقي. وقال لھا سعيد: "ألا أدلك على خير من ھذا؟ نحن في بلاد تجارتھا رابحة، وسوقھا رائجة، فلنعط المال من يتاجر لنا فيه وينمّيه. قالت: وان خسرت تجارته؟ قال سعيد: سأجعل ضمانا عليه. قالت: فنعم إذاً. وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات معيشة المتقشف، ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين. ومرّت الأيام.* وبين الحين والحين تسأله زوجته عن تجارتھما وأيّان بلغت من الأرباح. ويجيبھا سعيد: إنھا تجارة موفقة.* وأن الربح ينمو ويزيد. وذات يوم سألته نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة الأمر فابتسم. ثم ضحك ضحكة أوحت إلى روع الزوجة بالشك والريب، فألحت عليه أن يصارحھا الحديث، فقال لھا: لقد تصدق بماله جميعه من ذلك اليوم البعيد. فبكت زوجة سعيد، وآسفھا أنھا لم تذھب من ھذا المال بطائل فلا ھي ابتاعت لنفسھا ما تريد، ولا المال بقي. ونظر إليھا سعيد وقد زادتھا دموعھا الوديعة الآسية جمالا وروعة. وقبل أن ينال المشھد الفاتن من نفسه ضعفا، ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيھا أصحابه السابقين الراحلين فقال: " لقد كان لي أصحاب سبقوني الى الله. وما أحب أن أنحرف عن طريقھم ولو كانت لي الدنيا بما فيھا". وإذ خشي أن تتدلل عليه بجمالھا، وكأنه يوجه الحديث إلى نفسه معھا: " تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان، ما لو أطلت واحدة منھن على الأرض لأضاءتھا جميعا، ولقھر نورھا نور الشمس والقمر معا.* فلأن أضحي بك من أجلھن، أحرى وأولى من أن أضحي بھن من أجلك". وأنھى حديثه كما بدأه، ھادئا مبتسما راضيا. وسكنت زوجته، وأدركت أنه لا شيء أفضل لھما من السير في طريق سعيد، وحمل النفس على محاكاته في زھده وتقواه. كانت حمص أيامئذ، توصف بأنھا الكوفة الثانية وسبب ھذا الوصف، كثرة تمرّد أھلھا واختلافھم على ولاتھم. ولما كانت الكوفة في العراق صاحبة السبق في ھذا التمرد فقد أخذت حمص اسمھا لما شابھتھا. وعلى الرغم من ولع الحمصيين بالتمرّد كما ذكرنا، فقد ھدى الله* قلوبھم لعبده الصالح سعيد، فأحبوه وأطاعوه. ولقد سأله عمر يوما فقال: "إن أھل الشام يحبونك!" فأجابه سعيد قائلا: "لأني أعاونھم وأواسيھم"! بيد أن مھما يكن أھل حمص حب لسعيد، فلا مفر من أن يكون ھناك بعض التذمر والشكوى.* على الأقل لتثبت حمص أنھا لا تزال المنافس القوي لكوفة العراق. وتقدم البعض يشكون منه، وكانت شكوى مباركة، فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل، عجيب عجيب جدا. * طلب عمر من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواھا، واحدة واحدة. فنھض المتحدث بلسان ھذه المجموعة وقال: نشكو منه أربعا: " لا يخرج الينا حتى يتعالى النھار. ولا يجيب أحدا بليل. وله في الشھر يومان لا يخرج فيھما الينا ولا نراه، وأخرى لا حيلة له فيھا ولكنھا تضايقنا، وھي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين". وجلس الرجل: وأطرق عمر مليا، وابتھل إلى الله* ھمسا قال: " اللھم إني أعرفه من خير عبادك. اللھم لا تخيّب فيه فراستي".* ودعاه للدفاع عن نفسه، فقال سعيد: أما قولھم أني لا أخرج إليھم حتى يتعالى النھار. " فوالله* لقد كنت أكره ذكر السبب.* إنه ليس لأھلي خادم، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج اليھم". وتھلل وجه عمر وقال: الحمد لله .* والثانية. ؟! وتابع سعيد حديثه: "وأما قولھم: لا أجيب أحدا بليل. فوالله ، لقد كنت أكره ذكر السبب.* أني جعلت النھار لھم، والليل لربي". أما قولھم:* "ان لي يومين في الشھر لا أخرج فيھما. فليس لي خادم يغسل ثوبي، وليس بي ثياب أبدّلھا، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين. وفي آخر النھار أخرج اليھم ". وأما قولھم: أن الغشية تأخذني بين الحين والحين. " فقد شھدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، وحملوه على جذعه، وھم يقولون له: أحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى؟ فيجيبھم قائلا: والله* ما أحب أني في أھلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمھا، ويصاب رسول الله* صلى الله* عليه وسلم بشوكة. فكلما ذكرت ذلك المشھد الذي رأيته أنا يومئذ من المشركين، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومھا، أرتجف خوفا من عذاب الله ، ويغشاني الذي يغشاني". وانتھت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاھرة. ولم يمالك عمر نفسه ونشوه، فصاح من فرط حبوره. " الحمد لله* الذي لم يخيّب فراستي".! وعانق سعيدا، وقبّل جبھته المضيئة العالية. أي حظ من الھدى ناله ھذا الطراز من الخلق؟ أي معلم كان رسول الله؟ أي نور نافذ، كان كتاب الله؟ وأي مدرسة ملھمة ومعلمة، كان الاسلام؟ ولكن، ھل تستطيع الأرض أن تحمل فوق ظھرھا عددا كثيرا من ھذا الطراز؟ إنه لو حدث ھذا، لما بقيت أرضا، إنھا تصير فردوسا. أجل تصير الفردوس الموعود. ولما كان الفردوس لم يأت زمانه بعد فان الذين يمرون بالحياة ويعبرون الأرض من ھذا الطراز المجيد الجليل. قليلون دائما ونادرون. وسعيد بن عامر واحد منھم. كان عطاؤه وراتبه بحكم عمله ووظيفته، ولكنه كان يأخذ منه ما يكفيه وزوجه.* ثم يوزع باقيه على بيوت أخرى فقيرة. ولقد قيل له يوما: " توسّع بھذا الفائض على أھلك وأصھارك". فأجاب قائلا: " ولماذا أھلي وأصھاري. ؟ لا والله* ما أنا ببائع رضا الله* بقرابة". وطالما كان يقال له: " توسّع وأھل بيتك في النفقة. خذ من طيّبات الحياة". ولكنه كان يجيب دائما، ويردد أبدا كلماته العظيمة ھذه: " ما أنا بالمتخلف عن الرعيل الأول، بعد أن سمعت رسول الله* صلى الله* عليه وسلم يقول: يجمع الله عز وجل الناس للحساب، فيحيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحمام، فيقال لھم: قفوا للحساب، فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه.* فيقول الله: صدق عبادي.* فيدخلون الجنة قبل الناس". وفي العام العشرين من الھجرة، لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة، وأتقى ما يكون قلبا، وأنضر ما يكون سيرة. لقد طال شوقه إلى الرعيل الأول الذي نذر حياته لحفظه وعھده، وتتبع خطاه. أجل لقد طال شوقه إلى رسوله ومعلمه.* وإلى رفاقه الأوّابين المتطھرين. واليوم يلاقيھم قرير العين، مطمئن النفس، خفيف الظھر. ليس معه ولا وراءه من أحمال الدنيا ومتاعھا ما يثقل ظھره وكاھله، ليس معه إلا ورعه، وزھده، وتقاه، وعظمة نفسه وسلوكه. وفضائل تثقل الميزان، ولكنھا لا تثقل الظھور. ومزايا ھز بھا صاحبھا الدنيا، ولم يھزھا غرور. سلام على سعيد بن عامر. سلام عليه في محياه، وأخراه. وسلام.* ثم سلام على سيرته وذكراه. وسلام على الكرام البررة.* أصحاب رسول الله* صلى الله* عليه وسلم

بواسطة : زائر
 0  0  30.2K