المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الإثنين 25 نوفمبر 2024

معاذ بن جبل أعلمھم بالحلال والحرام

معاذ بن جبل أعلمھم بالحلال والحرام

عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منھم وفدھم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا.* يبھر الأبصار بھائه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبھارا!* ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه. ھو إذا رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين. ورجل له مثل اسبقيته، ومثل إيمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشھد ولا في غزاة. وھكذا صنع معاذ. على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقھه. بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أھلا لقول الرسول عنه: " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل". وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سأله الرسول حين وجھه إلى اليمن: " بما تقضي يا معاذ؟"

فأجابه قائلا: " بكتاب الله". قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب االله". ؟ قال: "أقضي بسنة رسوله". قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله". ؟ قال معاذ: " أجتھد رأيي، ولا آلوا". فتھلل وجه الرسول وقال: "الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله". الحمد لله فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الھائلة المستترّة، التي تنتظر من يكتشفھا ويواجھھا. ولعل ھذه القدرة على الاجتھاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، ھما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقھي الذي فاق به أقرانه وإخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام". وإن الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور. فھذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا أنه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر. قال: " فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلھم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وھو أشبّ القوم سنا، فإذا اشتبه عليھم من الحديث شيء ردّوه إليه فأفتاھم، ولا يحدثھم إلا حين يسألونه، ولما قضي مجلسھم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل". وھذا أبو مسلم الخولاني يقول: دخلت مسجد حمص فإذا جماعة من الكھول يتوسطھم شاب برّاق الثنايا، صامت لا يتكلم. فإذا امترى القوم في شيء توجھوا إليه يسألونه. فقلت لجليس لي: من ھذا. ؟ قال: معاذ بن جبل.* فوقع في نفسي حبه". وھذا شھر بن حوشب يقول: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيھم معاذ بن جبل، نظروا اليه ھيبة له". ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستشيره كثيرا. وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين بھا برأي معاذ وفقھه: " لولا معاذ بن جبل لھلك عكر". ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في ھدوء وإحاطة. فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد. فھو دائما جالس والناس حوله.* وھو صموت، لا يتحدث إلا على شوق الجالسين إلى حديثه.* وإذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه إلى معاذ لبفصل فيه. فإذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه: " كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ". * ولقد بلغ كل ھذه المنزلة في علمه، وفي إجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وھو شاب.* فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة! وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق. فلا يسأل عن شيء إلا أعطاه جزلان مغتبطا. ولقد ذھب جوده وسخاؤه بكل ماله. ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجھه النبي اليھا يعلم المسلمين ويفقھھم في الدين. * وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.* فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله! ولم ينتظر عمر، بل نھض مسرعا إلى دار معاذ وألقى عليه مقالته. كان معاذ ظاھر الكف، طاھر الذمة، ولئن كان قد أثري، فإنه لم يكتسب إثما، ولم يقترف شبھة، ومن ثم فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه. وتركه عمر وانصرف. وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر. ولا يكاد يلقاه.* حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول: "لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.* حتى جئت وخلصتني يا عمر". وذھبا معا إلى أبي بكر.* وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر: " لا آخذ منك شيئا". فنظر عمر إلى معاذ وقال: " الآن حلّ وطاب". ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درھما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق. وما كان عمر متجنيا على معاذ بتھمة أو ظن. وإنما ھو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون إلى ذرى الكمال الميسور، فمنھم الطائر المحلق، ومنھم المھرول، ومنھم المقتصد.* ولكنھم جميعا في قافلة الخير سائرون. ويھاجر معاذ إلى الشام، حيث يعيش بين أھلھا والوافدين عليھا معلما وفقيھا، فإذا مات أميرھا أبوعبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في الإمارة سوى بضعة أشھر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا. وكان عمر رضي الله عنه يقول: " لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعن نبيك يقول: إن العلماء إذا حضروا ربھم عز وجل ، كان معاذ بين أيديھم". والاستخلاف الذي يعنيه عمر ھنا، ھو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية. فلقد سئل عمر قبل موته: لو عھدت الينا؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه. لأجاب قائلا: " لو كان معاذ بن جبل حيا، لوليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد، لقلت: ولّيت عليھم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل إمام العلماء يوم القيامة". قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما: " يا معاذ.* والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللھم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". أجل اللھم أعنّي.* فقد كان الرسول دائب الإلحاح بھذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لھم ولا قوة، ولا سند ولا عون إلا بالله العلي العظيم" ولقد حذق معاذ للدرس وأجاد تطبيقه. * لقيه الرسول ذات صباح فسأله: "كيف أصبحت يامعاذ؟" قال: " أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله". قال النبي: "إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟" قال معاذ: " ما أصبحت قط، إلا ظننت أني لا أمسي.* ولا أمسيت مساء إلا ظننت أني لا أصبح. ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعھا غيرھا. وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابھا. وكأني أرى أھل الجنة في الجنة ينعمون. وأھل النار في النار يعذبون. " فقال له الرسول: " عرفت فالزم". ، فلم يعد يبصر شيئا سواه. أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال: "حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بإبراھيم عليه السلام. إن معاذا كان أمّة، قانتا. وكان معاذ دائب الدعوة إلى العلم، وإلى ذكر الله. وكان يدعو الناس إلى التماس العلم الصحيح النافع ويقول: "احذروا زيغ الحكيم.* واعرفوا الحق بالحق، فان الحق نورا"! وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا. قال له يوما أحد المسلمين: علمني. قال معاذ: وھل أنت مطيعي إذا علمتك؟ قال الرجل: إني على طاعتك لحريص. فقال له معاذ: " صم وافطر. وصلّ ونم. واكتسب ولا تأثم. ولا تموتنّ إلا مسلما. وإياك ودعوة المظلوم". وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول: "تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تعملوا". يقول الأسود بن ھلال: "كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: "اجلسوا بنا نؤمن ساعة". ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا إلى عملية التأمل والتفكر التي لا تھدأ ولا تكف داخل نفسه.* ھذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعھا بأخرى.* وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه. وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله. وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،إن استطاع الحديث، كلمات تلخص أمره وحياته. وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم. فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم: " الھم إني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللھم إنك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنھار، ولا لغرس الأشجار. ولكن لظمأ الھواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والإيمان والطاعة". وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول: " مرحبا بالموت. حبيب جاء على فاقه". وسافر معاذ إلى الله

بواسطة : زائر
 0  0  24.8K