الإنسان أكثر شيء جدلا...!!
*خلق الله تعالى البشر وجعل التعارف فطرة في الجبلة البشرية،فالإنسان الطبيعي ينفر من الوحدة ،ويقبل على الاصطفاف في منظومته الاجتماعية بحسب ظروفه ومكوناته من الجوانب المختلفة كافة. أما ميل البشر لتنشيط هذا الجانب الاجتماعي ففيه تباين واضح في كميته وكيفيته. حيث تتحكم عوامل عدة في جعل الفرد مفرطا حد التدفق في تواصلاته الاجتماعية،أو يكون الفرد معتدلا ومتوفرا في أغلب وقته،أو يكون الفرد* شحيحا في تواصله الاجتماعي لمسببات معينة حدا يصل بالبعض إلى أن يكون منطويا على نفسه شديد الإنزواء . والحق أن التواصل البشري والعلاقات الإنسانية هي المدرسة الأم التي تتكفل بنوع من التعليم للذات الإنسانية لا يتوفر في بطون الكتب ولا على* رفوف المكتبات. فالتواصل مع الناس والاحتكاك بهم لا شك في أنه نهر جاري من التجارب الإنسانية العميقة التي عند ذهاب زبدها يبقى في جوفها دروس وعبر نافعة لكل ذي بصيرة. ولاعجب في أن العلاقات الإنسانية عندما تحيد في أحد جوانبها عن الصواب ؛ فهي بدون مبالغة من أهم موارد الألم الإنساني منذ ندم قابيل على ماجنته يداه في حق أخيه مرورا بصرخة الخيانة الموثقة "حتى أنت يا بروتوس" التي اطلقها يوليوس قيصر* وهو يرى يد صديقه المقرب تهوي بخنجر الغدر على صدر ه، وقد نسى بروتس أن هذا الصدر لطالما احتضنه وقربه وكرمه،وصولا إلى* الجروح والآلام التي يكشف عنها أصحابها و تفيض بها صدور وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها. فالعلاقات الإنسانية والنجاح في خوض عبابها والعبور إلى بر الأمان فيها هو فن حقيقي* نجح به قلة، لأن أمر أجادته يعتمد على درجة كبيرة من الذكاء الاجتماعي الفطري " الفراسة" و المكتسب. كما أن له أصولا أو* خطوطا عريضة تشكل في مجملها رؤية وتصورا ، وقد يكون* في قول ابن المقفع الكاتب الذي عاصر الخلافة الأموية والعباسية* (* ١٠٦ - ١٤٢ هجري ) مايصلح أن يكون شبه خارطة طريق قادرة أن تمكن من يتمعن بها ويستدل بضوءها من السير الصحيح في بعض نواحي الغابة المتشابكة التي نسميها العلاقات* الإنسانية. وابن المقفع و بشهادة الزمن عقلية عظيمة ولاسيما في استخلاص العبر المفيدة والدروس الجامعة،فقد كان ذا لب راجح وبصيرة نافذة. حيث يقول ابن المقفع في جمل موجزة :"* ابذل لصديقك دمك ومالك ولمعرفتك رفدك ومحضرك وللعامة بشرك وتحيتك ولعدوك عدلك وإنصافك واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد.". فقد جعل* العلاقات الإنسانية أشبه ما تكون بالدوائر المنفصلة، وجعل لكل دائرة مايصلح لها من الأخلاق. فأولى الدوائر هي دائرة العامة وهم من توجب شؤون الحياة أن تختلط بهم* بدون معرفة أو بمعرفة بسيطة وقد جعل لهم* حق طلاقة الوجه والتحية إما بسلام أو بتبسم. والدائرة الثانية هي دائرة معارفك إما بزمالة أو اجتماع تحت منظومة ما، فلهم عليك حق الحضور والمشاركة والإكرام والتقدير. والدائرة الثالثة* هي دائرة الصديق وحقه عظيم* تجود له بدمك ومالك . وتبقى دائرة الأصدقاء هي أخطر الدوائر* وأهمها ؛ لأن أهل هذه الدائرة* أنت من يختارهم،* وأنت وبكامل إرادتك من يمكنهم من حمى القلب يتنقلون فيه حيث شاؤ ؛لذا فأنت المسؤول الأول عن مايلحق بقلبك ومشاعرك من أثارهم . فإن أحسنوا فأحمد الله وأشكره ،فهم قلة نادرة تمسك بعرى صداقتهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا . وإن أساؤا فلا تبرئ ساحتك وتحملهم وزر الإساءة كاملة، وحاسب نفسك على إسائتهم لقلبك أشد ماتحسابهم،وتفكر في الأسباب التي مكنتهم من* إلحاق الألم بقلبك ومشاعرك، وأجعل من ذلك أسلوب حياة في كل ما يلحق بك من ألم أو خيبة أو فشل،تفكر دوما في دورك في ذلك كله ،فهذا من أنجع الطرق في تطوير الذات،وسد الفجاوات التي ينفذ من خلالها من أراد أذيتك. مهما كانت الأذية كبيرة* ممن اخترته ليكون لك صديقا،فأنت المسؤول الأول لأنك أنت من فتحت له باب قلبك،ولم يقتحمه عليك اقتحاما. فكن شجاعا في مواجهة نفسك، وأنظر بمصداقية وموضوعية إلى ألمك مهما كان كبيرا ،ولا تخادع نفسك تحت وطئه الألم ويتلبسك دور الضحية، فهو دور مغري جدا لكل نفس مجروحة. في كل ألم يتسبب لك به من سلمته مفاتيح قلبك كن على قدر المسؤولية وحاسب نفسك بشجاعة، فأذيتك لنفسك بسوء اختيارك هي أشد من أذيته لك مهما كانت . وكل ما كانت علاقاتك الشخصية قائمة على هيئة دوائر منفصلة تتدرج من العامة للمعارف للأصدقاء ،وكنت واضحا في تعاملك مع كل دائرة ومحددا بدقة لأهل كل دائرة ومانحا لحقوقهم ،لاسيما دائرة الأعداء فعدلك وإنصافك معهم هو طريق سلامتك ومأمن نجاتك. كلما حافظت على عدم تداخل هذه الدوائر ،وحافظت على وضوحها بالنسبة لعقلك وفكرك كنت أقدر على إدارة علاقاتك بتوازن أكبر. وأعلم أن التأني والتريث في الصداقة أمرا محمودا ،والزمن وإن طال ليس دائما أيجابيا في ترجيح كفة فلان واستحقاقه وسام صداقتك. فمن أعدل المقاييس في تحديد صلاحية معدن فلان من الناس هو مقياس الغضب. لإن الغضب يخرج حقيقة الشخص التي قد تكون مستترة بستار المدنية، أو بغلالة من ثقافة متصنعة ،فعند الغضب يخرج ليقابلك من صديقك شخصا لست تعرفه في السوء والأذاء . وقد يخرج لك الغضب من* باطن صديقك جوهرة أكثر نفاسة من التي كنت تعرفها في خلق هذا الصديق. فإن رأيت أن هذا الشخص لم يخرجه غضبه عن العدل والإنصاف معك ، فأعلم أن هذه سجيته،وهنئ نفسك بهذا الصديق. ولا تستثقل المجهود الذي تبذله في تفحص خلق من تريد أن يكون لك صديقا، فهو مجهود مردود عليك بالربح. فهو أما أن يكشف لك صفات أجمل مختبئة فيه،مما يجعلك أحرص في أمر* الحفاظ عليه، أو أن تقف بنفسك على ما يصرفك عن هذا الاختيار. فتمعن يا رعاك الله في أمر من تريد أن تجعله للعمر صديقا،ومن تريد أن يكون للقلب حبيبا. ولا تفتأ أن تهمس لقلبك دوما أن لا ينقطع إلى الأرض وأهل الأرض،وأن يمدد إلى السماء بأسباب الوصال. وليستبقي* دوما لنفسه بقية من ماء الحب،فيسكبه في خلواته في سجدة شكر للمنعم المتفضل ، أو دمعة خشية للواحد الأحد،أو دعاء تضرع لمن بيديه ملكوت السموات والأرض إن شاء أمرا يقول له كن فيكون ،أو تسبيحة تأمل وتفكر* في قدرة الله وواسع رحمته؛ فتجدد مافتر من عزم،وتبلسم ما تشعر به من ألم، فتجد ضيق قلبك وقد تحول سعة وانشراحا ، وصار أكثر إقبالا وتفاؤلا بأهل الحياة والحياة بأسرها