على مائدة العلا*
******** محافظة العلا فاتنة حسناء تستكين بدلال في حضن جبال شامخة وكأنها موكلة بحراسة هذه الوسيمة القسيمة التي لا تزال في بسماتها التفاتات لماضي اجتماعي شديد الألفة،وفي قسماتها انعكاسات الأصالة و تاريخ ضارب في الجذور.
وكأني بجميل بثينة الشاعر العذري فوق راحلته يترنم بشوق : ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة***** بوادي القُـرى إني إذن لسعيد و وادي القرى هو احد أسماء الفاتنة العلا ، وصدق شاعر الحب أن الشعور بالسعادة وطبيعة هذه الفاتنة هما صنوان، أحدهما سبب وهو طبيعة هذه الفاتنة ، والثاني نتيجة وهو شعور السعادة* الذي عرفه كل من عاش في أكناف هذه الفاتنة وسار بين بساتينها ، و أفانين مزارعها ،وخالط أهلها ببشرهم ،وودهم ،وبالغ كرمهم في احتضان الضيف . ولا فرصة أجمل* لرؤية هذه الفاتنة بأصدق حالتها وأبهى حللها من إطلالة من نوافذ الروح فتتبصر مستشعرا نسائم الفرح برمضان* التي تحرك أفئدة أهل الفاتنة ، وتلون أحاديثهم، وتلقي الضوء على منشور مشاعرهم ، فتجد في العيون نظرات من شغف تشبه نظرات الطفولة *عند المتابعة لطائرات الورق الملونة ،وهي تغازل الغيوم بأناشيد المطر. ومن نوافذ الروح تتبصر بالفاتنة في رمضان وقد أسبلت يدها تستثير ركب التطور، فَـيُـتخذ من صدر شوارعها مراكزٌ تجارية حديثة ،و مطاعم* لكل ما لذ وطاب، وبعضها لماركات عالمية معروفة،و مقاهي للمشروبات العصرية. وتنثر على جيدها المرمري شواهد للحداثة تنبئ عن المكانة المستقبلية السامقة التي ستطولها هذه الفاتنة وعن جدارة واستحقاق. ومن نوافذ الروح تتبصر بالفاتنة في رمضان وقد احتضنت يدها الأخرى بحب أحاديث السمر لزمن مضى، وحكايات العمر لأجيال غادرها ريعان الشباب ، فأبقت لهم الفاتنة ذكرياتهم الجميلة دافئة معطرة بالوفاء. أبقت الفاتنة في بسطة راحتيها مشهد " الدكة"[1] المفروشة بالسجاد، وقد اجتمع على مستراحها أبطال البناء لزمن مضى يتجاذبون ذكرياتهم عن رمضان، و قصص تفني الملل، ولا تفنى في استحضار مواقف النخوة، وشيم الوحدة، وروح اليد الواحدة لأهل الفاتنة ؛عندما كانت منازلهم متداخلة متشابكة في حالة احتضان اجتماعي* حتى تحققت فيهم صورة الجسد الواحد الذي* إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر *الجسد بالسهر والحمى، وإذا فرح أحد منهم توزعت الفرحة بين القلوب وبين العيون، وعلى أنغامها تجود الأيدي بسخاء النفوس . والحق لازالت الفاتنة تحتفظ بهذا النفس الاجتماعي الراقي ،ولم يتشتت بين الشوارع رغم أنها اتسعت، وتعددت ،ولم توهنه المساكن التي غادرت حضن الديرة القديمة[2] وبقيت الشيم هي هي لم تتغير في المساكن الفخمة والفلل الحديثة. ومن نوافذ الروح إن تطاولت بالتبصر لسمعت خطوات خفيفة ،وضحكات مجلجلة ،وطرقات ناعمة لأكف صغيرة،* تطرق أبواب الجيران، وهي تحمل طبق أعدته الأم ليهدى للجارة التي تفتح لهم الباب،* وتأخذ* بفرح ما يقدمونه وبالمقابل تمنحهم طبق أعدته ليحملوه للأم ،وهكذا تدور عجلة تهادي المشاركة برمضان في ديار الفاتنة العامرة. ومن نوافذ الروح تتنسم نسمات مشهد آخر لازال حضوره متوهج وهو اتفاق عددا من الجيران على أن يكون إفطار رمضان بالتزاور بينهم ،فيمضي رمضان وهم شركاء الدعوة *الصالحة،واللقمة المباركة، والضحكة الحقيقية، والعمل الصالح. ومن نوافذ الروح تتسلل رائحة شربة أهل العلا ؛ وبما أن طبق الشربة سيد أطباق رمضان فإن أهل الفاتنة أولوه عنايتهم فكانت ولازالت لهم شربة خاصة بهم، يقومون من أجلها *بزراعة نوعيين من القمح،نوع يحصدونه بعد أربعة أشهر،ونوع بعد ستة أشهر، فيكون أشد صلابة ويباع أغلى من النوع* الأول ،حيث تقوم النساء بشؤون القمح بعد حصاده،فيتم شوائه على النار،ثم يتم درسه،ويسمون هذا النوع" بشربة الشواء"،وعند عمل هذه الشربة الخاصة تتم إضافة كمية قليلة من شعير تم درسه مسبقا خصيصا لشربة الشواء،فيمنحها درجة ممتازة من التماسك،ويضيف لها نكهة فريدة،فتكون لمن تناولها تجربة لا تنسى على مائدة العلا. [1]: الدكة : هي مرتفع من الأسمنت في الغالب يُنشئ أمام البيت ويفرش لاجتماع كبار السن عليه للاستئناس . [2]: الديرة القديمة مكان تجمع بيوت أهل العلا لسنين خلت.