النهضة اليوسفية (٣)
نزار رمضان
حفز وللماضي لا تلوح وبالحاضر لا تلوث وبالمستقبل لا تشأم "قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين (91) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".والمتأمل في قصة يوسف يجد أن كل الابتلاءات التي عانى منها يوسف عليه السلام إنما هي بسبب تآمر إخوته. ومع ذلك، عندما تعرفوا عليه قالوا إنك لأنت يوسف؟ قال أنا يوسف ولم يرجع بذاكرته إلى ما فعلوه به أو فتح كتاب الماضي. بل من لطفه وأدبه أسند كل تلك الفتن إلى الشيطان :"من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي". فقد أراد أن يفتح صفحة جديدة ، وهذه شخصية المربي مع من يخطئ، فالأمر قد انتهى ولا لزوم للعتاب "لا تثريب عليكم اليوم". أي لا توبيخ ولا تقريع. حينها جاءت اعترافات الإخوة بجرمهم وذنبهم. .ما أحلى كلام الفقيه الراشد لماذا التعاتب المكفهر لأبنائنا؟ كلٌ منا يطلب من ابنه أن يكون معصوماً ومن موظفه نبياً .أليس التغافر والتغافل أولى وأطهر وأبرد للقلب ؟!أليس جمال الحياة بأن تقول لابنك كلما صافحته : " رب اغفر له" ؟!أو ليس عبوس التعاتب تعكيراً للحياة ؟
من اليوم تعارفنا *** ونطوي ماجرى منا
فلا كان ولا صار *** ولا قلتم ولا قلنا
وإن كان ولا بد *** من العتب بالحسنى
ثم يأبى إلا أن يزيد مرحه ، فيبدل نغمته :
تعالوا نطوي الحديث الذي جرى *** ولا سمع الواشي بذاك ولا درى
لقد طال شرح القال والقيل بيننا *** وماطال ذاك الشرح إلا ليقصرا
من اليوم تاريخ المحبـة بيننــا *** عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى
ثم يبدّل نغمته ثالثة ، ويتملق *ليديم محبة *لذيذة قد ذاق طعمها الفريد ، فيقول :
تعالوا نخل العتب عنا ونصطلح *** وعودوا بنا للوصل والعود أحمد
ولا تخدشوا بالعتب وجه محبة *** له بهجة أنوارهــا تتوقــد
فلا تخدش أيها الأب أيها القائد *– بالله عليك – وجه محبة منيرة لا زلت فذاً فيها والناس من حولك تستهلكهم العداوات ، وإلا وضعت نفسك على شفير الاستهلاك .. إن التغافر والتغافل خيرولعل كره شخص معين بصفة عامة يأخذ التفكير والنوم ويحرم من لذة العيش، في الوقت الذي ينعم فيه الآخر بوقته وحياته.
يوجه النقد للأشياء بعيدا عن الأشخاص انبهرت سابقاً بتدريب خدمة العملاء حيث سأل الحارس متى تغلق الشركة ؟ فأجاب نحن نفتح حتى العاشرة هكذا مدربون على المعاني الراقية ( الغلق سلبي والفتح إيجابي).والقرآن بسورة يوسف معجز بكلمات الإيجابية الرقيقة الرقراقة إن للكلمات اللطيفة الطيبة أثر مهم في الحفاظ على كرامة الإنسان خاصة إذا تم التركيز على سلوك الفرد لا على شخصيته. فالنقد الموجه للسلوك يدفع الاخر الى الثقة في نفسه وتعديل مساره .
لننظر إلى سيدنا يوسف عليه السلام كيف عزا عدم ارتياحه في ذهاب يوسف مع إخوته إلى الذئب ولم يصفهم باللامسؤولية أو التآمر عليه أو بغيرها من الأمور التي توجه إلى ذواتهم "إني ليحزنني أن تذهبوا به ويأكله الذئب وأنتم عنه غافلون" قيل: قال يعقوب هذا تخوفا عليه منهم ، فكنى عن ذلك بالذئب.قال يعقوب عليه السلام: "قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون" إنه التلطف في القول فلم يصف أولاده بالكذب وإنما قال "بل سولت لكم أنفسكم" ذات الوقع الأفضل والأقل ضررا على نفسية الأولاد. وقوله تعالى"على ما تصفون" فلم يقل على كذبكم، وكأنه عزا الكذب إلى قولهم لا إلى شخصهم. ويقول ابن عاشور وهذا في غاية البلاغة لأنه كان واثقا بأنهم كاذبون في الصفة.وعندما فسر سيدنا يوسف رؤيا الملك وقال اتوني به قال:"فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم" فقد ذكر قطع الأيدي ولم يذكر مراودتهن له، تنزها منه عن نسبة ذلك إليهن، ولم ينسب المراودة إلى امرأة العزيز إلا حين رمته بدائها وانسلت. وقد اكتفى هنا بالإشارة الاجمالية "إن ربي بكيدهن عليم" فيجعل علم الله تعالى بما وقع عليه من الكيد مغنيا عن التصريح.وعندما أجاب عن رؤيا الرجلين في السجن قال: "إني تركت ملة قوم لا يومنون بالله وبالآخرة هم كافرون" وفيها إشارة إلى العزيز وحاشية الملك والقوم الذين يتبعهم، والفتيان على دين القوم، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما، وإنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما، وهي كياسة ولطافة وحسن مدخل.ومن حسن خلق يوسف عليه السلام أيضا أنه قال: "وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي" ولنقف على هذه الآية لنتأمل:قال: أحسن بي ولم يقل أحسن بكم ثم ذكر حاله في السجن ولم يذكر الذئب ولا حاله في الجب لتمام عفوه عليه السلام ثم ذكر مجيئهم من البدو ولم يقل جاء بكم من الجوع والنصب ثم قال من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ولم يقل نزغ الشيطان إخوتي
أي نهضة تربوية هذه .... أي حضارة راقية هذه
يقف القلم حائراً للتعبير عن الإنبهار بالنهضة اليوسفية.
انتظرونا بالنهضة اليوسفية (٤).