المعجم الجغرافي لمحافظة ميسان، تحريف للحقائق وانتهاك للمنهج العلمي
في سابقةٍ علمية خطيرة، تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الأمانة المنهجية، زعم مؤلف المعجم الجغرافي لمحافظة ميسان في الصفحة (319) نفيَ وجود موضعٍ أصيلٍ ثابتٍ في الذاكرة التاريخية والجغرافية، هو الغالة، ثم مضى إلى نسبة سكانه إلى مناطق أخرى دون سندٍ معتبر، أو شاهدٍ موثوق من مصادر التاريخ أو الجغرافيا.
وهذا الزعم لا يمكن بحالٍ من الأحوال إدراجه ضمن الأخطاء العارضة أو الهفوات غير المقصودة، بل يندرج بوضوح في إطار التحريف المنهجي للحقائق، والتلاعب المتعمّد بالمعطيات التاريخية والجغرافية، بما يستوجب ردًّا علميًا صارمًا، يقوم على الدليل، ويكشف الزيف، ويعيد الاعتبار للمنهج.
لقد أجمعت المصادر التاريخية والمخطوطات المعتبرة على أن سكان الغالة بالحنشة ينتسبون إلى بني الحارث بن كعب، نسبًا ثابتًا، وموطنًا متجذرًا عبر القرون.
فقد ورد ذكر اسم ولد أبا الخير في سير الإمام الهادي، وهم اليوم المعروفون بـ(البخير)، أحد أفخاذ قبيلة الحنشة، كما ورد ذكر القطعان – وهم أبناء الأقطع بن يزيد بن عبد المدان – في مخطوطة القضاة الداروين، وهم كذلك من صميم أفخاذ الحنشة.
وهذه الشواهد لا تثبت النسب فحسب، بل تؤكد الامتداد التاريخي والاستقرار المكاني ثابت بما ورد في معجم محافظة الطائف للسالمي والمعجم الجغرافي في السعودية للجاسر، بما يُسقط أي محاولة للنفي أو النقل القسري للأصول والمواضع.
ولا يقتصر الدليل على الروايات النسبية، بل يمتد إلى الدلالات الاسمية والاجتماعية التي تحمل أبعادًا تاريخية راسخة.
فقد عُرفت قبيلة حسيكة من ناصرة بني الحارث بن كعب بهذه التسمية الدالة على القوة والمنعة، وهي تسمية لم تكن اعتباطية، بل تعكس مكانةً اجتماعيةً وتاريخًا معروفًا في مدونات العرب.
ويعضد ذلك ما أورده المسعودي في مروج الذهب ومعادن الجوهر، في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع عمرو بن معد يكرب الزبيدي المذحجي، حين سأله عن الحارث بن كعب، فقال: «هم الحسَكة المسَكة، تلقى المنايا على أطراف رماحهم»
وهو نصٌّ يحمل ثقلًا تاريخيًا وأدبيًا، ويؤكد أصالة التسمية، وارتباطها بالنسب الحقيقي للقبيلة، ويدحض أي محاولة لتفريغ الأسماء من محتواها التاريخي.
إن ما ورد في المعجم من نفيٍ للمكان، ونقلٍ للسكان، وإعادة تركيبٍ جغرافيٍّ قسريٍّ للواقع، يُمثّل إخلالًا جسيمًا بأمانة البحث العلمي، ويؤدي إلى تشويه وعي القارئ، وطمس الحقائق، وفتح الباب أمام العبث بالذاكرة المكانية والأنساب.
فالادعاء بأن سكان الغالة تابعون لمواضع أخرى، أو غير منتسبين إلى نسبهم الأصيل، ادعاءٌ باطل، يخالف المصادر الموثوقة، ويتجاهل الروايات المتواترة، ويضرب بعرض الحائط قواعد التحقيق العلمي.
ولدينا – موثقًا ومدروسًا – أكثر من ثلاثين دليلًا من المخطوطات، والسير، والمراجع التاريخية والجغرافية، تثبت أن قبيلة بني الحارث في الحجاز، وترج، ونجران، والحرث في جيزان، تنتسب إلى الحارث بن كعب ، وهي قبيلة قحطانية صريحة، لا يجوز الطعن في نسبها أو التشكيك في موطنها.
وقد بُسطت هذه الأدلة، وحُلّلت تحليلاً علميًا دقيقًا في كتابنا الموسوم: *"المجد المتوارث لقبيلة بني الحارث"* وهو توثيق لا يكتفي بالرد، بل يكشف بجلاء التزييف المنهجي، ويعيد بناء الصورة التاريخية على أسس علمية راسخة.
وعليه، فإن ما ورد في المعجم لا يمكن وصفه بهفوة، بل هو انحراف منهجي صارخ، يتجلى في، نفي مواضع ثابتة تاريخيًا، تجاهل الروايات المعتبرة والكتب الموثوقة، والخلط بين تشابه الأسماء واختلاف المواطن، ونسب السكان إلى غير أصولهم دون بيّنة.
وهو ما يفرض مسؤولية علمية وأخلاقية في التصدي له، حمايةً للمعرفة، وصونًا للتاريخ، وحفظًا لحقوق المكان والإنسان.
إن التاريخ والجغرافيا ليسا مجالاً للتجريب أو إعادة الصياغة وفق الأهواء، بل هما علمان يقومان على التحقق، والتوثيق، والانضباط المنهجي. وكل محاولة للتلاعب بهما، مهما لبست ثوب العلم، ستظل مكشوفة أمام نور الدليل.
وفي الختام، تبقى الحقيقة ثابتة لا تزول، ويبقى التاريخ عصيًّا على المحو، وتظل الأنساب محفوظة بالشواهد والوثائق، مهما حاول العابثون طمسها.
فالحقائق لا تموت، والتاريخ لا يُلغى، والزيف – مهما طال – مآله الانكشاف. وها أنا اقول "الأقلام النزيهة عصيّة على الهوى، حارسة للحق، تكشف زيف الباطل مهما ارتدى لباس العلم".