حين تتحول الرعاية إلى حرمان أمهات يُغَيَّبن وهنّ على قيد الحياة
في السنوات الأخيرة تصاعد الحديث عن رعاية كبار السن وتزايدت المبادرات الداعية إلى حمايتهم وتوفير بيئة آمنة لهم.
غير أن هذا الخطاب على أهميته يفتح بابًا مهمًا للأسئلة:
أين تقف حدود الرعاية؟
ومتى تتحول من فعل إنساني نبيل إلى ممارسة تمس الكرامة والخصوصية وابعاد الأبناء عن أمهاتهم؟
تواجه بعض الأسر واقعًا معقدًا تُنقل فيه الأم من بيتها بحجة العناية وتُدار حياتها اليومية بأسلوب أقرب إلى المراقبة منه إلى الاحتواء.
في هذه الحالات لا يكون الغياب جسديًا فقط بل عاطفيًا وإنسانيًا حيث تجد الابنة نفسها محرومة من أمها رغم أنها ما زالت على قيد الحياة.
المفارقة المؤلمة أن هذا الحرمان غالبًا ما يُمارس باسم الخوف والحرص. تُبرَّر العزلة بأنها حماية وتُفسَّر السيطرة بأنها رعاية بينما تُغفل حقيقة أساسية أن الأم ليست جسدًا يحتاج مراقبة مستمرة بل إنسانة لها ذاكرة واحتياج نفسي وحق في الخصوصية.
إحدى أكثر الممارسات إثارة للجدل في هذا السياق تحويل البيوت إلى مساحات مراقبة بالكاميرات في كل زاوية. قد يُنظر إلى ذلك كإجراء احترازي لكن السؤال الجوهري يبقى هل المراقبة الدائمة تحمي الإنسان أم تُجرّده من كرامته؟ وهل يمكن للرعاية أن تقوم على العدسات بدل الثقة وعلى التسجيل بدل الحضور الإنساني؟
الرعاية الحقيقية لا تبدأ بإخراج الأم من بيتها ولا تنجح بعزلها عن أبنائها ولا تكتمل بحرمان مشاعر من تربّوا على يديها. بل تقوم على الحفاظ على محيطها الآمن وإبقائها قريبة ممن تحب وضمان حقها في الخصوصية والاحترام قبل أي إجراء تنظيمي أو تقني.
كما أن حق الأبناء في القرب من أمهاتهم ليس ترفًا عاطفيًا بل حاجة إنسانية متبادلة.
الأم تحتاج أبناءها كما يحتاجونها والحرمان القسري يترك أثرًا نفسيًا عميقًا على الطرفين مهما كانت النوايا حسنة.
هذه القضية لا تتعلق بأسرة بعينها بل تمس مفهومًا أوسع للرعاية داخل المجتمع.
وهي دعوة لإعادة التفكير في الممارسات التي قد تتحول، دون قصد إلى أشكال من الإقصاء. فالأم لا تُحتكر ولا تُعزل ولا تُدار وكأنها ملك خاص
إعادة تعريف الرعاية باتت ضرورة أخلاقية وإنسانية رعاية تحفظ الكرامة تحمي الخصوصية وتوازن بين الأمان والإنسانية. فالأمهات لا يحتجن فقط إلى من يراقبهن بل إلى من يفهم أن القرب والبيت والعائلة جزء أصيل من العلاج والحياة
وفي النهاية تبقى الحقيقة الأبسط والأقسى
أن تُحرم ابنة من أمها وهي على قيد الحياة
ليس لأن الموت سبق
بل لأن التسلّط سبق الرحمة
هذا الوجع لا يُرى في التقارير
ولا تلتقطه الكاميرات
ولا تعالجه الإجراءات
هو وجع ابنة تقف على الهامش
ترى أمها بعيدة
وتُمنع من القرب باسم الخوف
وتُبعد باسم العناية.
ليس كل ما يُدار بحزم يُدار بحب
وليس كل ما يُمارس باسم الصواب يكون إنسانيًا
فالقلوب لا تُحكم
والأمومة لا تُدار بالسيطرة
هذه ليست مطالبة بامتياز
بل بنداء بسيط
أن تُعاد للأم مكانتها كأم
وللابنة حقها الطبيعي في القرب
دون وصاية
ودون تسلّط
ودون أن يُطلب من المشاعر إذنٌ كي تُمارَس.
لأن أقسى أنواع الحرمان
هو أن تُسلب أمّك منك
وأنت ما زلت تناديها:
أمي.
حرمتونا من امهاتنا