المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

  • ×
الجمعة 26 ديسمبر 2025
م.علي السليم- جدة
م.علي السليم- جدة

حين تتراجع الأسرة وتتقدّم الشاشات: من يربي أبناءنا اليوم؟



لم تعد التحوّلات التي تطال الأسرة والمجتمع تأتي عبر أحداث كبرى أو قرارات مفصلية واضحة، بل تتشكّل بهدوء عبر الشاشات الصغيرة التي باتت جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية. فبرامج التواصل الاجتماعي، بما تحمله من تأثير واسع وسريع، لم تغيّر فقط أسلوب التواصل، بل أعادت صياغة العلاقات، وأثّرت في منظومة القيم، وفرضت واقعًا جديدًا يستدعي التوقف عنده بوعي ومسؤولية، خاصة حين يكون مستقبل الأجيال القادمة هو الرهان الأكبر.

في أقلّ من عقدين، تحوّلت هذه البرامج من أدوات ترفيه إلى قوى مؤثرة تعيد تشكيل البنية الأسرية والمجتمعية، وتفرض حضورها في التفكير والسلوك ونماذج القدوة. إنها تحوّلات صامتة في ظاهرها، لكنها عميقة في أثرها، تتسلّل إلى البيوت دون استئذان، وتعيد ترتيب الأولويات داخل الأسرة والمجتمع.

لقد تغيّر مفهوم التواصل الإنساني ذاته؛ فبعد أن كان الحوار الأسري قائمًا على اللقاء المباشر، والنقاش الهادئ، والمشاركة الوجدانية في تفاصيل الحياة، أصبح كثير من هذا التواصل يُستبدل بحضور افتراضي ورسائل مختصرة وإشارات سريعة تفتقد العمق والدفء. يجتمع أفراد الأسرة في المكان نفسه، لكن كلًّا منهم يعيش في عالم رقمي مستقل، محاطًا بشاشة، ومنفصلًا نفسيًا عمّن حوله. هذا التحوّل، وإن بدا عاديًا في ظاهره، إلا أنه يترك أثرًا تراكميًا على الروابط الأسرية، ويضعف مهارات الحوار، ويقلّل من مساحة التفاهم والتقارب بين الأجيال.

وعلى مستوى القيم، أصبحت منصّات التواصل الاجتماعي مصدرًا موازيًا — وأحيانًا منافسًا — للأسرة والمدرسة في تشكيل الوعي. فالمعايير لم تعد تُستمد فقط من البيئة القريبة أو المرجعية الثقافية الأصيلة، بل من محتوى عابر للحدود، يختلط فيه النافع بالسطحي، والواعي بالمضلِّل، دون سياق أو تمحيص. تتشكّل الأذواق، وتتغيّر مفاهيم النجاح، وتُعاد صياغة صورة القدوة وفق منطق الخوارزميات، حيث تُقدَّم الشهرة على الكفاءة، والصورة على الجوهر، والتفاعل على القيمة.

وفي المجتمع، أسهم هذا الواقع في إعادة تعريف المكانة الاجتماعية. لم يعد التأثير مرتبطًا بالعلم أو الخبرة أو العطاء، بل بعدد المتابعين وحجم الانتشار. هذا التداخل بين الحقيقي والمتخيَّل خلق ضغوطًا نفسية متزايدة، ومقارنات قاسية، وشعورًا متناميًا بعدم الرضا، خاصة لدى فئة الشباب، في ظل غياب مرجعية قيمية واضحة تضبط الإيقاع.

ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء التكامل المجتمعي في أدواره الرقابية والتعليمية والتربوية بوصفه ضرورة لا خيارًا. فمسؤولية ضبط السلوك اليوم باتت موزّعة بين جهات متعددة، لكل منها دورها المهم والمكمل؛ إذ يتمحور دور وزارة التعليم بطبيعته حول التحصيل العلمي والأكاديمي، وبناء المهارات المعرفية، وقياس المخرجات التعليمية وفق معايير دراسية واضحة، بينما تتركّز مهام وزارة الشؤون الاجتماعية في التعامل مع الحالات الاجتماعية، وتقديم الدعم والحماية، ومعالجة الآثار والنتائج بما يضمن التماسك والاستقرار الاجتماعي. غير أن ملف التربية وسلوك الأسرة والمجتمع، بطبيعته، ملف عابر للقطاعات، يحتاج إلى إطار أشمل يشتغل على صناعة السلوك، وترسيخ القيم، وبناء الوعي الجمعي، وضبط الإيقاع الاجتماعي بصورة استباقية لا ردّ فعلية، وبمنظور استراتيجي طويل المدى.

وفي قلب هذا المشهد، تتجلّى أهمية الترابط الأسري بوصفه الركيزة الأولى والأقوى. فإعادة الاعتبار لدور الأسرة في التعاون والتلاحم، وتعزيز روح الشراكة بين الوالدين والأبناء، وإحياء ثقافة الحوار والمرافقة الواعية، تشكّل حصنًا حقيقيًا ومنيعًا أمام التأثيرات السلبية. الأسرة المتماسكة ليست مجرد إطار عاطفي، بل خط دفاع أخلاقي وتربوي، يمارس دوره ضمن مسؤولية مشتركة في الرقابة والمتابعة والتعليم والتنشئة، ويكمّل — لا ينافس — دور المدرسة والمجتمع.

ومن هذا المنطلق، تبرز مناشدة صادقة للعودة إلى شيء من سابق عهدنا، حين كنّا نعيش في القرية أو الحي الواحد، حيث لم تكن التربية شأنًا فرديًا معزولًا، بل مسؤولية جماعية يتقاسمها الجميع. كان المجتمع آنذاك عينًا ساهرة وقيمة حاضرة؛ الجميع يراقب، والجميع يوجّه، والجميع يربي، بل والجميع يعاقب عند الخطأ في إطار من القيم والاحترام، دون حساسية مفرطة أو تبرير دائم للسلوك الخاطئ. ذلك النموذج، رغم بساطته، كان يوفّر بيئة متّسقة وآمنة، ويزرع في الأبناء الشعور بالانتماء والمسؤولية منذ الصغر.

وفي ظل هذا الواقع المتغيّر، يبرز طرح وطني مشروع يتمثّل في الحاجة إلى كيان مؤسسي متخصص يُعنى بالتربية والسلوك المجتمعي بمفهومه الشامل، لا المدرسي الضيق. إن إنشاء كيان وطني يُعنى بالتربية والسلوك المجتمعي ليس ترفًا إداريًا، بل استثمارًا استراتيجيًا في الإنسان، وضمانة طويلة المدى للاستقرار الاجتماعي، وتعزيزًا للهوية والقيم في مواجهة تحوّلات عالمية متسارعة. بل إن هذا التوجّه يمكن النظر إليه بوصفه أحد المخرجات المتقدمة لرؤية المملكة المستقبلية، التي تضع الإنسان في قلب التنمية، وتستهدف بناء مجتمع حيوي بقيم راسخة وسلوك واعٍ ومسؤول. إن ترك هذا الملف دون إطار مؤسسي جامع يُنذر باستمرار التآكل البطيء الذي تتحمّل الأسرة وحدها كلفته، بينما تتجاوز آثاره قدرتها الفردية. وسواء أكان هذا الكيان وزارة مستقلة، أو هيئة عليا، أو مجلسًا وطنيًا بصلاحيات واضحة، فإن جوهر الفكرة يتمثّل في توحيد الجهود، وصياغة سياسة وطنية للسلوك والقيم، ودعم الأسرة تربويًا، وضبط الخطاب المؤثر في الطفل والمراهق، وقياس مؤشرات السلوك المجتمعي بوصفها مؤشرات استقرار وأمن مجتمعي ناعم.

أما مستقبل الأجيال القادمة، فهو التحدي الأكبر. فجيل ينشأ في فضاء مفتوح بلا حدود زمنية أو أخلاقية واضحة، يحتاج إلى وعي مضاعف وتوجيه ذكي، لا يقوم على المنع المطلق ولا على التساهل الكامل. إن الخطر الحقيقي لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في غياب الإطار القيمي الذي يضبط استخدامها، ويحوّلها من أداة تشتيت إلى وسيلة بناء، ومن استهلاك فارغ إلى وعي ناضج.

إن برامج التواصل الاجتماعي ليست شرًّا مطلقًا ولا خيرًا خالصًا؛ هي مرآة تعكس وعي المجتمع بقدر ما تعيد تشكيله. وحين تتكامل الأدوار، ويقوى الترابط الأسري، وتُستعاد روح المسؤولية الجماعية، ويُدار الشأن التربوي والسلوكي برؤية مؤسسية استراتيجية منسجمة مع توجهات الدولة، يصبح المجتمع أكثر قدرة على توجيه هذا التحوّل لصالحه، وصناعة مستقبل متوازن يحفظ القيم، ويواكب العصر، ويصون الإنسان في جوهره ودوره ورسالة وجوده.





المهندس / علي السليم
كاتب راي
 0  0  1.1K