فصول من تاريخ بني الحارث: بين أصالة الموروث وعظمة التاريخ
حين تتأمل صفحات التاريخ العربي، يتبدّى أن بعض القبائل تركت أثرًا خالدًا لا يزول، كالنجم في السماء، ومن بين هؤلاء تألّق نجم بني الحارث بن كعب، ببطولاتهم، وعلمهم، وفنونهم، ووفائهم لجذورهم الأصيلة. وقد دوّن الدكتور سيف بن جارالله النوفلي الحارثي هذا الإرث في كتابه القيّم "فصول من تاريخ بني الحارث"، ليقدّم رواية متكاملة عن حياتهم، تجمع بين الأنساب، الأحداث السياسية، الملاحم العسكرية، الحياة الاجتماعية، والشعر، في لوحة متكاملة من الزمن القديم.
في الفصل الأول، عُرضت الأنساب وفضائلها، وطبقات العرب، وانكشف نسب بني الحارث بن كعب حتى قحطان، ووردت وصية الحارث لبنيه عند وفاته، مع إشارات إلى أبرز أعلام القبيلة الذين نقشوا أسمائهم في سجل التاريخ، كالشمس التي لا تغيب عن سماء المجد.
بين دفتي الفصل الثاني، سُردت حياة القبيلة في العصر الجاهلي، بدءًا من ارتحالهم من شمال صنعاء إلى نجران، واستيلائهم على المدينة، وحكمهم ونفوذهم، واستقبالهم للشعراء والوفود، ومنافساتهم النبيلة، ومنازلهم ومعتقداتهم الدينية، مع إبراز حادثة الأخدود، لتبدو حياتهم اليومية مليئة بالتحدي والمجد والعزّة.
أما الفصل الثالث، فقد رواى التحول الكبير مع الإسلام، وفود بني الحارث على رسول الله ﷺ، إسلامهم، موقفهم مع وفد نصارى نجران، حركة الأسود العنسي، ارتداد العرب بعد وفاة الرسول، ودور سادات القبيلة في التصدي للردة، ومشاركتهم في الفتوحات الإسلامية، وصولًا إلى فتنة عثمان وخلافة علي بن أبي طالب، فظهروا كأحد أعمدة التاريخ الإسلامي المبكر، وسيفًا يسطع في ميدان العدل والشرف.
في الفصل الرابع، تبيّن أثرهم في العصر الأموي والعباسي، من الجهاد والمناصب التي تقلدوها، إلى أخبار أعلامهم، ومواقفهم السياسية، وخصال نساء القبيلة اللواتي أثارت حفاوة العرب للارتباط بهم، لتظل بني الحارث رمزًا للمجد والمروءة والعزة.
أما الفصل الخامس، فقد سرد هجرتهم وانتشارهم في خرسان والعراق والشام والمغرب الأقصى، ومعاركهم السياسية والدينية ضد المذاهب الدخيلة في نجران، من الزيدية إلى الإسماعيلية، وصراعاتهم مع همدان، وعودة النفوذ الزيدي، وخروج سلطة نجران عن حكمهم، واستقرارهم في جنوب الطائف، وتحالفاتهم وعلاقاتهم بالقبائل المجاورة، فتجلّى صمودهم وحرصهم على المحافظة على هويتهم في خضم الأحداث المتلاحقة.
وأخيرًا، جمع الفصل السادس أشعار بني الحارث منذ العصر الجاهلي حتى نهاية العصر العباسي، مع دراسات نقدية أظهرت مكانتهم الشعرية في التراث العربي، ليكون الشعر شاهدًا حيًا على حضارتهم وثقافتهم العريقة، ويثبت أنهم لم يكونوا مجرد سياسيين أو مجاهدين، بل حملة للبلاغة والفن الشعري والجمال الأدبي، ونسّاجون للكلمات التي خلّدت أسمائهم ومجدهم.
لقد كان كتاب "فصول من تاريخ بني الحارث" رحلة في عبق الماضي، ومرآة للأصالة، ووعاء يحفظ القيم النبيلة التي عاشها أبناء بني الحارث عبر القرون، وحكاية ممتدة في ذاكرة العرب، تتلألأ فيها أمجادهم وشموخهم وشعرهم، لتظل القبيلة علامة مضيئة في سجل التاريخ العربي.
وقد أضفى الدكتور ابن جارالله على هذا العمل جهدًا علميًا دقيقًا وعينًا أدبية ثاقبة، فجمع بين رصانة البحث التاريخي وعمق التحليل الأدبي، فنجح في تقديم نص يزخر بالمعلومة ويشع بالجمال، ويترك أثرًا دائمًا في القلوب والعقول، شاهداً على تفانيه في توثيق التراث العربي وحبّه للماضي المجيد، وعطاءً يُثري المكتبة العربية بكل فخر واعتزاز..