السعودية.. من تُدرّب العالم على التحضّر
نقلة ثقافية وسلوكية تُفاخر بها الأمم
لم نكن ندرك — نحن السعوديين — حجم التحوّل الذي أنجزناه، حتى غادر بعضنا أرض الوطن ونظر بعين المقارنة إلى ما حوله.
هناك، في دولٍ كنا نحسبها عنوانًا للتقدّم والنظام، رأينا فوضى سلوكية، وغيابًا للانضباط، وتراجعًا في الذوق العام. وهنا، في بلادنا، بتنا نرى حضارةً تتحدث من خلال السلوك قبل اللغة، ومن خلال الوعي قبل النظام.
لقد أصبحت المملكة العربية السعودية نموذجًا فريدًا في بناء الإنسان قبل المكان، وفي ترسيخ ثقافة الاحترام، والنظام، والنظافة، والمسؤولية الفردية والمجتمعية، حتى غدت مقياسًا عالميًا للانتقال الحضاري الحقيقي.
من الرؤية إلى الوعي
حين أطلقت المملكة رؤية 2030، لم يكن الهدف تطوير البنية التحتية فحسب، بل بناء مجتمعٍ يَعي، ويتصرّف، ويُمثّل حضارة بلاده في كل موقفٍ وسلوك.
تحوّلت المدن إلى لوحاتٍ فنية نابضة — من مشروع «رياض آرت» الذي جمّل الميادين العامة بألف عمل فني، إلى مواسم الثقافة والمهرجانات التي صارت فضاءات للانتماء والفخر الوطني.
لم يعد الفضاء العام مجرد مكانٍ للمرور، بل ميدانًا لقياس التحضّر والوعي الجمعي، تُترجم فيه القيم إلى أفعال، ويتجلّى فيه الانتماء في احترام المكان والناس.
أنظمة تُعيد ضبط السلوك
ولأن التحضّر لا يُبنى بالعاطفة وحدها، فقد أُقرّت أنظمة واضحة وصارمة للذوق العام والسلوك المدني، جعلت من الوعي التزامًا قانونيًا، ومن الاحترام أسلوب حياة.
ومن أبرز هذه الأنظمة:
• منع التدخين في الأماكن العامة حفاظًا على الصحة العامة واحترامًا لراحة الآخرين.
• الالتزام باللباس المحتشم واللائق في المرافق العامة والمراكز التجارية بما ينسجم مع القيم السعودية.
• منع الممارسات المزعجة مثل رفع الصوت، أو تشغيل الموسيقى في أماكن غير مناسبة، أو رمي النفايات في غير موضعها.
• حماية الخصوصية الشخصية عبر منع التصوير دون إذن في الأماكن العامة.
• تنظيم استخدام المركبات والدراجات في المنتزهات والساحات لتفادي الفوضى والإضرار بالغير.
ووفقًا لما أشار إليه دليل الذوق العام الصادر عن وزارة الداخلية وهيئة الترفيه، فإن الهدف من هذه اللوائح ليس العقوبة، بل تعزيز السلوك الإيجابي وترسيخ قيم الاحترام والمسؤولية في الفضاء العام.
هذه القوانين تحوّلت اليوم إلى ثقافة عامة يتشاركها الجميع، يقودها الوعي أكثر مما يقودها الرادع، ويجسدها المواطن طوعًا وفخرًا.
مقارنة تُظهر حجم التقدّم
المفارقة أن بعض المدن العالمية التي كانت تُعدّ مراكز للحضارة والنظام، لم تعد كذلك حين اقتربنا منها.
مشاهد من الفوضى المرورية، أو الإهمال في النظافة العامة، أو ضعف الانضباط الاجتماعي، جعلتنا ندرك أن السعودية اليوم تتفوّق سلوكًا وتنظيمًا على دولٍ كانت تُلقّب بالمدنية والتحضّر.
لقد بات الزائر القادم إلى المملكة ينبهر بالنظام، والنظافة، والتعامل الراقي في المرافق، وبالمشروعات الثقافية والفنية التي جعلت الشوارع متاحف مفتوحة، والحدائق منصات للفن والتعبير، والمدن لوحات تنبض بالحياة.
الانضباط بكل أشكاله — في المظهر، والسلوك، والإدارة، والذوق، والالتزام — جعل من السعودية نموذجًا يُحتذى به عالميًا، بل أصبحت اليوم مصدرًا ومُصدِّرًا للمظهر الحضاري والاجتماعي والثقافي والإسلامي،
من خلال السعودي كسفيرٍ لبلاده حيثما حلَّ أو ارتحل،
ومن خلال الزائرين والمقيمين من شتّى أصقاع المعمورة الذين يحملون معهم إلى أوطانهم صورة ناصعة عن القيم، والتنظيم، والجمال الإنساني في المجتمع السعودي.
ومع ذلك، لا نضع أنفسنا بما يُعرف بالمدينة الفاضلة، بل إننا ندرك تمامًا أن التحضّر مسيرة مستمرة، تتطلب وعيًا دائمًا، وتقييماً متواصلاً، ورغبةً صادقة في أن يكون التطوّر قيمةً متجددة لا إنجازًا مؤقتًا.
التحوّل السلوكي.. فخر أمة
ما يبعث على الاعتزاز اليوم أن المجتمع السعودي صار يمارس التحضّر تلقائيًا:
• المواطن يحرص على النظام لا خوفًا من العقوبة، بل احترامًا لذاته ووطنه.
• الأسرة تُنشئ أبناءها على ثقافة النظافة والمسؤولية والمشاركة.
• الشباب يتطوّعون في حملات الوعي وخدمة المجتمع.
• النساء يشاركن في المشهد العام برقي وذوقٍ راقٍ يليق بوجه الوطن الحديث.
لقد أصبحت السعودية — بفضل الله ثم برؤية قيادتها — نموذجًا عالميًا في التحوّل السلوكي والثقافي؛ فالتطوّر هنا لم يعد مظهرًا مدنيًا، بل قيمة إنسانية راسخة تُترجم في التفاصيل اليومية.
تحديات مستمرة ووعي يتجدد
التحوّل الحضاري لا يقف عند إصدار الأنظمة، بل يتطلب تثقيفًا وتقييمًا دائمين.
ومن أهم العوامل لاستدامته:
• تعزيز التربية المدنية في المناهج التعليمية.
• استمرار الحملات الإعلامية التوعوية.
• مكافأة النماذج المجتمعية الإيجابية.
• ضمان تطبيق القوانين بعدالة وشفافية.
بهذا التكامل، يتكرّس التحضّر كـ«سلوك وطني دائم»، لا كظاهرة مؤقتة.
خاتمة: السعودية أولًا.. حضارة وسلوك
من كان يرى في السفر وسيلة لاكتشاف التحضّر، بات يرى في العودة إلى السعودية دليلًا على اكتماله.
لقد أصبحت بلادنا عنوانًا للنظام، والذوق، والاحترام، والتعايش.
ومن يزورنا اليوم يرى أن السلوك السعودي الجديد أصبح هو المعيار، وأننا لم نعد نتعلّم من الآخرين كما في الماضي، بل أصبحوا هم من يتعلّمون منا.
هذه هي السعودية الجديدة..
وطنٌ لا يكتفي بأن يبني المدن، بل يبني الإنسان الذي يجعل كل مدينة أجمل.
وهكذا تسير المملكة بخُطى ثابتة نحو نموذجٍ حضاري يُحتذى،
حيث يصبح السلوك عنوان الهوية، والوعي مرآة الوطن.
المهندس / علي السليم
كاتب راي