المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الأحد 24 نوفمبر 2024

الكارثة!!

د.محمد الثبيتي*
كلنا إن لم يقرأ عن (البُرْدة النبوية) فقد سمع عنها ، ولا أعني بالبردة معناها اللغوي بل معناها الأخلاقي الذي رمزت إليه في سياقٍ حمل قيمتي العفو والمكافأة ، تلك القيم الأخلاقية العالية التي خلدها الشعر، وسارت بها الركبان ، وتجددت به الأزمان .. حيث ضرب لنا خير قدوة عرفته البشرية نبينا -محمد صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثال وأعظمها في قبول العفو ومكافأة المسيء ، في قصة مشهورة مع الشاعر المعروف كعب بن زهير عندما أنشده قصيدته التي مطلعها: بانت سُعادُ فقلبي اليوم متـــبولُ مُتيم إثرهــــــــا لم يُفد مـــــــكبولُ حيث بدأ قصيدته بوصف محبوبته ثم ناقته ورحلته ثم مدحه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطلبه العفو منه .. ويقال إن الشاعر لما وصل قوله : إن الرسول لنور يستضاء به وصارم من سيوف الله مسلول خلع عليه النبي-صلى الله عليه وسلم- بردته،ولذلك أشتهرت هذه القصيدة بالبُرْدة ، وذاع صيتها والاهتمام بها حتى بعد موته (صلى الله عليه وسلم).. إذن نحن أمام قدوة ضرب لنا أعظم وأروع الأمثال في التعامل مع ثقافة الاعتذار ليس في العفو عن المسيء فحسب بل بمكافأته بأغلى ما يملك: بردته صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك أن الاعتذار خلق نبيل، وبرهان صادق على الاعتراف بالذنب، والأعظم من ذلك هو قبول الاعتذار ، إذ هو سجيَّة محمودة لا يتصف بها إلا الكبار والعظام من الرجال ؛ يقول ابن حبان – رحمه الله - : " الاعتذار يُذهب الهموم ويجلي الأحزان ويدفع الحقد ويُذهب الصدّ ... ولو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تُحمد إلا نفي العجب عن النفس في الحال ، لكان الواجب على العاقل أن لا يفارقه الاعتذار عند كل زلة" ويقول الشاعر العربي: إذا اعتذرَ الجاني محا العُذرُ ذنبَه وكلُّ امرئٍ لا يَقبَلُ العذرَ مُذنِبُ ويقول الآخرُ: إذا ما امْرُؤٌ من ذنبه جاءَ تائبًا إليكَ فلم تَغفِر له فلكَ الذَّنبُ ويروى أن الشاعر الحميريّ هجا الفضلَ بنَ يحيى، ثم أتاه راغبًا معتذِرًا إليه، فقال له الفضل: بأيِّ وجه تلقاني؟! فقال: بالوجه الذي ألقى به ربي، وذنوبي إليه أكثرُ من ذنوبي إليك، فضحك ووصَله ورضي عنه! والعفو مما يُعزّ ويرفع بهما العبد عند خالقه ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ" وفي الأيام الماضية حدث موقفان : أما أحدهما فكان مع الداعية علي المالكي ، وذلك عندما قال في أحد البرامج على إحدى القنوات الفضائية : البنت عار !! فكانت زلة لسان أثارت غضب النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي ونحوها، فقام المغردون وغيرهم وقعدوا، ودنّوا ودندنوا ، وهم معذورن في ذلك؛ لأن العبارة أقل ما توصف به أنها لهجة شعبيه أسيء فهمها .. ولكن الرجل عاد بعد شعوره بالزلل والخطأ، واعتذر لمن أساء فهم عبارته ، وقال أن ما قصده بوصفه للبنت بـ "العار" ! هو أنها شرف الرجل وعرضه، وزواجها من الرجل الصالح صيانة لذلك العرش المصون !... وأما الآخر فكان مع أ.د. أحمد عبدالله الباتلي الأستاذ بكلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض وصاحب كتاب (تمرة العجوة) وذلك عندما ظهر أيضا في إحدى القنوات الفضائية ، وشكك في عجوة المدينة الحالية، وقال بأنها ليست العجوة المقصودة في الحديث الشريف وأن العجوة الحقيقية نادرة جدا، وما يتداوله الناس حاليا هي تمرة «الوزنة» ولا تصلح إلا علفا للبهائم ..! فكانت ردة الفعل أيضا غضب الكثيرين خاصة أصحاب العجوة ، وتجارها من أهل طيبة ، وكالمعتاد اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها بذكر الخبر،وارتفعت الأصوات بين محذرٍ ورافض لتلك التصريحات!.. ولكن الرجل عاد واعتذر ، وقال :إن ما أثير إعلاميا حول حديثه عن ( عجوة المدينة ) كان القصد منه التنبيه والتحذير بعدم الغش من بعض الباعة على الناس ببيع تمور رديئة على أنها عجوة المدينة ، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل ، وقد يؤدي ذلك إلى آثار صحية لمن يأكلون تلك التمور اليابسة و التي لم تخزن جيدا و يظنون انها علاج ووقاية من السم و السحر...! وسواء سلمنا بحسن نية الرجلين في الخروج من المأزق أو لا ، فإن هذين الموقفين من الرجلين يدلان على أننا بخير ما دمنا نملك الشجاعة في الاعتذار ، ولكن ينبغي أن نقابل هذه الشجاعة بشجاعة هي أعظم منها، وهي شجاعة العفو والصفح والغفران .. غير أن المهم في الموقفين، ويقاس عليمها غيرهما هو أن ندرك جيدا أن الانفتاح على المجتمع والعالم بجميع قنواته ووسائله الحديثة ، يٓستلزم وعيًا باختلاف ثقافة المجتمعات ولهجاتها، ونمط تفكيرها ، لذا يجب أن تكون لغة الخطاب في طرح القضايا لغة واضحة غير مُلبسة ولا قابلة للتأويل والدلالات الهامشية وسوء الفم .. وأخيرا يُستلزم من ثقافة الاعتذار أن تقابل بثقافة العفو والصفح والغفران ؛لأن هذا السلوك الإيجابي في تلاقح الثقافتين ينتج ما يمكن أن نسميه بثقافة التسامح ؛ ذلك أن الاعتذار والاعتراف بالخطأ متى بدر من الإنسان ، وجب أن يُبادر بالعفو، ولا يكون ذلك إلا بقبول عذر الآخر دون تعالٍ ، أو أشرٍ، أو تعدٍ ؛ لأن ذلك سيشيع في المجتمع ثقافة التسامح ، ويدفع بمن أخطأ إلى الاعتراف بخطئه والاعتذار عنه .
أما التكبر والإصرار وعدم تقبل عذر الآخر ، فسيشيع في المجتمع ثقافة الفوضى الأخلاقية، والمواقف السلبية تجاه بعضه البعض ، وسيدفعه حتما إلى الإصرار على الخطأ وإن عُلم أنه خطأ، وعدم الاعتراف به، لا لأن الشخص لا يٓعلم أنه أخطأ بل لأنه لايريد أن يكون شخصا ضعيفا عند من يظن أن الاعتذار ضعف وذل ، يضاف إلى ذلك أنه إن لم نعِ أهمية ثقافة المجتمع بأطيافه المختلفة ، ونوع الخطاب في التعامل معه فتلك ستكون الكارثة!!! اذ المرء كما تقول العرب: مخبو تحت لسانه.. وقد أشارالقدماء في باب حفظ اللسان إلى الضابط الرئيس لحفظه*وهو الحذر من التسرع في الكلام ، والتدبر قبل النطق بالكلام ، وأضيف إلى ذلك مراعاة الحال والمقام .
بواسطة :
 0  0  8.1K