الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ: رحيل المفتي وفقد الأمة
في صباح يومٍ الثلاثاء ١ ربيع الآخر ١٤٤٧ لم يكن كالآخرين، غابت شمس المعرفة والحكمة عن سماء الأمة، وامتلأت القلوب بالحزن والأسى على رحيل واحد من أعلامها، ورمز من رموزها الدينية والعلمية، سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ – المفتي العام للمملكة العربية السعودية – رحمه الله.
لقد كان الشيخ عبدالعزيز نموذجًا فريدًا في جمعه بين العلم والورع، والحكمة والرحمة، والاعتدال والصرامة في الحق، ترك وراءه إرثًا علميًا كبيرًا، ومسيرةً دعوية مشعة، وذكريات ستظل خالدة في نفوس الأمة.
ولد الشيخ عبدالعزيز في الرياض عام 1362هـ (1943م)، في أسرة عريقة تمتد جذورها إلى الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب. فقد والده صغيرًا، لكنه تربى في كنف والدته وأسرة العلم، نشأ على حفظ القرآن وحب طلب العلم، ولم تثنه صعوبات ضعف البصر عن التفوق في تحصيله العلمي. منذ نعومة أظافره، كان القرآن رفيقه، وطلب العلم شغفه، والدين منهج حياته.
التحق الشيخ عبدالعزيز بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374هـ (1955م)، ثم بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود، وتخرج منها عام 1384هـ (1964م). وقد تتلمذ على كبار علماء عصره مثل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمهما الله – وغيرهما من أعلام العلم والدعوة. هذا التأهيل جعله عالمًا موسوعيًا، يمتلك القدرة على الجمع بين النص الشرعي وفهم الواقع، ويكون قادرًا على الإرشاد والفتوى بأسلوب معتدل وواع.
بدأ الشيخ عبدالعزيز حياته العلمية مدرسًا في معهد إمام الدعوة، ثم في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود، حيث أصبح أستاذًا ومرشدًا للأجيال، وأشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه، وترك أثرًا كبيرًا في تربية جيل من العلماء والطلاب الذين أصبحوا اليوم مراجع علمية بفضل ما تعلموه على يديه.
في عام 1402هـ (1982م)، عين خطيبًا وإمامًا لمسجد نمرة بعرفات، واستمر في أداء خطبته السنوية لما يزيد عن ثلاثة عقود، محملاً رسالة الدعوة والإرشاد، مؤكدًا على التوحيد والاعتدال ووحدة الأمة.
ثم توالت مناصبه العلمية المرموقة، حيث أصبح عضوًا في هيئة كبار العلماء عام 1407هـ (1986م)، وعضوًا متفرغًا في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عام 1412هـ (1991م)، ونائبًا للمفتي العام بمرتبة وزير عام 1416هـ (1995م)، ثم صدر الأمر الملكي بتعيينه مفتيًا عامًا للمملكة ورئيسًا لهيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء عام 1420هـ (1999م) خلفًا للشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – وهو منصبٌ شهد له العالم بالمسؤولية العلمية والاعتدال والدقة.
عرف الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بحكمته في الفتوى وحرصه على الجمع بين النص الشرعي ومقاصد الشريعة، وقدمه الواسع في الإرشاد والتعليم. كان صوته حاضرًا في البرامج العلمية والإفتائية، أبرزها برنامج “نور على الدرب”، حيث أجاب على أسئلة الناس بوضوح ولباقة، وبحكمة جمعت بين الرحمة والصرامة في الحق.
ترك الشيخ مكتبة غنية من الفتاوى والمقالات العلمية، شملت العقيدة والعبادات والمعاملات والقضايا المعاصرة، وأصبحت مرجعًا للطلاب والعلماء والمفتين. وكان دائمًا يؤكد على الاعتدال وتحري الصدق ونشر العلم ونصح الأمة بما يحقق مقاصد الشريعة في استقرار المجتمع وسلامة الأفراد.
لم يكن الشيخ عبدالعزيز مجرد مفتي، بل كان رمزًا للورع والخلق، والعدل والرحمة. عرف عنه تواضعه الجم، وحرصه على خدمة الآخرين، وزهده في المناصب، ومحبته لنشر العلم بلا مقابل. كل من جلس عنده طالبًا النصح أو المستنير بالفتوى، وجد صدرًا رحبًا، وابتسامة دافئة، وقلبًا حريصًا على الخير للجميع.
برحيله، شعرت الأمة باليتم. فقد اختفى صوت الحكمة، وضمحل وجود الناصح الأمين، وتوقف المنبر عن صوته الرزين، لكن أثره ظل حاضرًا في كل مكان. لقد فقدت المساجد من يرفع الصوت بالحق، وفقدت الأجيال من يعينها على فهم الدين، وفقد المجتمع من يعينه على الحلول الوسط، ويرشده إلى الصواب.
كان الشيخ عبدالعزيز رمزًا للعلم المتجدد، والحكمة البالغة، والاعتدال في الرأي، واللين في المعاملة، والتواضع الجم، والزهد في الدنيا. لم يكن للمنصب مكان في قلبه، ولم تكن للسلطة قيمة أمام مسؤولية العلم والفتوى.
ترك الشيخ عبدالعزيز إرثًا علميًا خالدًا، وذاكرةً لا تمحى، وفتاوى صادقة، ومسيرةً حافلة بالعمل الدعوي. إنه علم عاش في خدمة الأمة، وعمل في خدمة الإسلام، ونصح في صمت، وكان صوته للأمة منارة، ونوره دليلًا، وذكراه حاضرة ما دامت الأجيال تطلب العلم، وما دامت القلوب تتعلق بالهدى.
رحمه الله، وأسكنه الفردوس الأعلى، ورفع درجاته، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وكتب له ثواب كل كلمة صدق، وكل فتوى ناصحة، وكل نصيحة خالصة للأمة.
إن رحيل الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ – رحمه الله – هو فقد للأمة بأسرها، وليس مجرد فقد لشخص. فقد غاب جسده، وبقي أثره حيًا في الكتب والمجالس، وتلاميذه وطلابه، وفي كل من استفاد من علمه ونصحه. لقد ترك وراءه نموذجًا يحتذى به في العلم والعمل، والإخلاص والدعوة، والاعتدال والتواضع، وسيظل ذكره خالدًا في قلوبنا وعقولنا.
إنا لله وإنا إليه راجعون..