المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الأحد 21 سبتمبر 2025
حامد محمد الطلحي الهذلي
حامد محمد الطلحي الهذلي

ذاكرة الطين والحجر: طفولة الجبال والطقوس

لم تكن طفولتنا مجرّد أيام تمضي، بل كانت مدرسة من نوع آخر، صاغت ملامحنا بين قسوة الطبيعة ودفء العائلة. في قريتنا الصغيرة مرتان، خارج حدود المدينة، كانت البيوت المتواضعة تُبنى من الحجر والطين، لتقف شامخة أمام تقلبات الزمن، شاهدةً على بساطة العيش وصدق الناس.

كنا نعود إليها بعد عناء السير على الأقدام نحو المدرسة، نرسم خطواتنا فوق طرق ترابية صامتة إلا من همس الريح وصرير الأحذية البالية. لا سيارات تقلّنا ولا وسائل نقل، إنما عزيمة الأطفال وحلم المستقبل هو الذي كان يقودنا. وما إن نصل إلى البيت حتى نجد الجدة والجار القريب في انتظارنا، لنشاركهم وجبة الغداء على بساطٍ واحد، تحفّه الألفة وتظلّله المحبة، في حضرة الوالد والوالدة اللذين حملا همّ التربية والحياة.

بعد الغداء كنا ننطلق إلى الحقول مع الأغنام، نرعاها ونتعلّم منذ الصغر أن الرزق يحتاج إلى جهد وصبر. أما الإجازة الأسبوعية فكانت يومًا واحدًا لا غير، يوم الجمعة، نترقبه كالعيد.

ومع نهاية العام الدراسي، تبدأ مرحلة أخرى من العمل الشاق، إذ نصحب آباءنا إلى حقول الحنطة والشعير لنصرم الحصاد. ثم نحمله إلى "الجرين"، حيث تبدأ رحلة الدياس؛ فنأتي بالأبقار والحمير لتدور على السنابل حتى تنفصل بذور الحنطة عن قشها. هناك، في صخب الغبار والعرق، نعيش أجمل دروس الكفاح. وبعدها يبدأ فرز التبن عن حبوب القمح، ليُعبّأ المحصول في الشوالات، وتُوزّع حصص صغيرة تُسمى "الشبارة" على بعض العونية، لا تزيد عن كيلو واحد، لكنها تحمل في معناها قيمة التضامن والتكافل.

وفي شهر الرحمة، كان رمضان محطة خاصة في حياتنا. كنا نفرح بقدومه لأنه يجمع الأقارب والجيران أكثر من أي وقت آخر. نتبادل الأطعمة حسب نوعها، وأحيانًا نجتمع على مائدة واحدة لتناول الإفطار، فلا نفطر حتى نسمع دوي مدفع الطائف الذي يصل صوته إلى قريتنا رغم بعدها بثلاثين كيلو مترًا. وكان لصوت المدفع رهبةٌ وفرحة لا تُنسى.

أما ليلة السابع والعشرين، التي كانت تُعرف في قريتنا بـ عيد الموتى، فكانت تجمّعًا كبيرًا لأهل القرية، يبدؤون فيه بالإفطار الجماعي، ثم يذبحون خروفًا احتفاءً بتلك الليلة المباركة. وما إن ينقضي رمضان حتى يهلّ العيد، فنبدأ صباحه بزيارة كبير العائلة، ثم تتوالى أيام المعايدة والفرح خمسة أيام كاملة، يتنقّل فيها الناس بين البيوت، حاملين معهم البهجة وصِلات القربى.

تلك كانت حياتنا؛ قسوة ممتزجة بصفاء، وتعب مشوب بفرحٍ غامض، وغنى حقيقي لا يقاس بالمال، بل بوفرة القلوب وصدق العلاقات. واليوم، حين أستعيد تلك الصور، أرى أنها لم تكن مجرد تفاصيل من الماضي، بل كانت أساسًا متينًا لشخصياتنا، وبذورًا غرست فينا معنى الصبر، والوفاء، والعزة
 0  0  2.5K