المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الخميس 11 سبتمبر 2025
ابراهيم علي الفقيه
ابراهيم علي الفقيه
ابراهيم علي الفقيه

روبن هود العصر الرقمي





في عالم التواصل الاجتماعي، لم تعد الشهرة مجرد ظهور عفوي لشخص يشارك تفاصيل يومه أو يطرح رأياً صادقاً، بل تحولت إلى صناعة كاملة تديرها قروبات مغلقة، يتقاسم أفرادها الأدوار بذكاء مدروس لإنتاج محتوى يلمع في العلن بينما يخفي في الكواليس واقعاً مغايراً.

يدخل المتابع على هذه الحسابات ليجد أمامه عالماً مثالياً: سيارات حديثة، قصور رحبة، رحلات مترفة، موائد عامرة بالكرم، وحكايات بطولية عن عطاء لا حدود له. يظهر أحدهم كأنه “روبن هود” العصر، يوزع المال والهدايا ويحل مشكلات الناس أمام الكاميرا، حتى ليظن المتابع أن الإنسانية بأكملها تجسدت في هذا الشخص. لكن الحقيقة التي تتوارى خلف الإضاءة وعدسات الهواتف أن كثيراً من هذه المشاهد ليست سوى مظاهر كاذبة مصنوعة بعناية لتسويق الوهم وجذب المتابعين.

القروبات التي تجمع هؤلاء المشاهير تعمل بمنطق “المسرح”: كل فرد يؤدي دوراً مرسوماً بعناية. هذا هو “الكريم”، وذاك “الناصح”، وثالث يُجسّد صورة “المغامر”، بينما يقف آخر في الظل ليظهر فجأة بدور “الفزعة” أو “المنقذ”. النتيجة النهائية: مشهد جماعي متقن الإخراج يبيع للمتابعين صورةً مبهرة لكنها بعيدة عن الواقع.

المعضلة أن هذه الظاهرة لا تقف عند حدود الترفيه، بل تمتد إلى تشويه القيم الاجتماعية. فالشاب الذي يرى هذه المقاطع يظن أن النجاح يُقاس بعدد السيارات الفارهة والهدايا الموزعة، لا بالعلم ولا بالعمل. والفتاة قد تتصور أن السعادة مرهونة بالحقائب الفاخرة والرحلات الباذخة، بينما في الواقع يعيش هؤلاء المشاهير حياة لا تخلو من الديون أو العقود التسويقية المرهقة.

والأخطر من ذلك أن بعضهم يوظف هذه القروبات لتسويق نفسه كبطل اجتماعي، يقدّم المساعدة للناس ويقف مع الفقراء. لكن المساعدة هنا ليست سوى مشهد أمام الكاميرا، في حين أن العوائد الحقيقية تصب في حسابات المشهور البنكية عبر عقود الإعلانات والتسويق، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على المتابعين أنفسهم. بكلمات أخرى: ما يبدو كعطاء إنساني هو في جوهره استثمار تجاري قائم على صناعة صورة “روبن هود” الوهمي.

هذه الازدواجية تطرح سؤالاً مؤرقاً: من المسؤول عن تفشي هذه الظاهرة؟ هل هو المشهور الذي يستغل منصته ليبيع الوهم؟ أم المتابع الذي يساهم بإعجاباته ومشاهداته في تضخيم الصورة الزائفة؟ الواقع أن المسؤولية مشتركة؛ فالمتابع بيده أن يرفع أحدهم إلى القمة أو يتركه في الهامش، والمشهور بيده أن يختار بين الصدق والوهم.

لكن ما لا يمكن تجاهله هو أن هذه المظاهر تساهم في خلق فجوة اجتماعية خطيرة. فبينما يعاني الشباب من البطالة أو صعوبة بناء مستقبل مهني، يرى أمامه مشاهد زائفة لرفاهية مصنوعة، فيشعر بالإحباط وربما بالعجز. هنا تتحول الشهرة الرقمية من وسيلة ترفيه إلى أداة ضغط نفسي واجتماعي تقوّض استقرار القيم.

إن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون بالمنع ولا بالمطاردة، بل بالوعي. على المجتمع أن يفرق بين المحتوى الذي يبني قيمة حقيقية ويضيف للوعي، وبين ما هو مجرد مسرحية لتسويق الوهم. وعلى المؤسسات التعليمية والإعلامية أن توفر بدائل حقيقية للشباب، ليجدوا قدواتهم في المبدعين والعلماء وأصحاب المبادرات النافعة، لا في “قروبات” تصنع بطلاً زائفاً أمام الكاميرا وتتفكك بمجرد إغلاقها.

وفي النهاية، تبقى الحقيقة واضحة:
“روبن هود” الحقيقي لم يكن بحاجة إلى عدسة تُوثّق أفعاله، بل كان رمزاً للعدل في زمن الظلم. أما “روبن هود العصر الرقمي”، فهو صناعة قروبات تبحث عن أرباحها، وتبيع الوهم لجمهور عطِش للحلم. الفارق بين الاثنين هو الصدق، والصدق وحده ما نفتقده اليوم .
بواسطة : ابراهيم علي الفقيه
 0  0  3.0K