لا تبخل بالموجود، ولا تتكلف المفقود
د. محمد بن سعيد الثبيتي
يُعدّ الكَرَم مِن أبرز الصِّفات عند العرب في جاهليتها واسلامها ، ففي العصر الجاهلي، كانوا يتباهون ويتفاخرون بالكَرَم والكريم ، بل جعلوا لهذا الكرم علامة وسمة ورمزا من النار؛ فأوقدوا النار ليلا في أعالي الجبال ليراها المارة ، ويأتوها فيضيفوهم ويكرموهم ، وبقدر الكرم يكون حجم تلك النار وعلوها في السماء ، وسموها “نار القرى” ؛لان بها يهتدي التائه في الصحراء ، ويستأنس بها الساري في ظلمة الليل البهيم خاصة في زمهرير الشتاء القارس ، يقول الجاحظ: «النار التي ترفع للسفر (أي المسافرين) هي من أعظم مفاخر العرب، فكلما كان موضعها أرفع كان أفخر..>>
وممن اشتهر من العرب بهذه الصِّفة الحميدة حتى صار مضربًا للمثل (حاتم الطَّائي ) فقيل "أجود من حاتم" .
وكان حاتم في ليل الشتاء البهيم يأمر غلامه بإيقاد النار ورفعها وجلب الضيوف، وينشد:
«أوقد فإن الليل ليل قر
والريح يا غلام ريح صر
عسى يرى نارك من يمر
إن جلبت ضيفاً فأنت حر
وتحكي النوار امرأته قصة من قصص كرمه فتقول: (أصابتنا سنة اقشعرَّت لها الأرض، واغبرَّ أفق السَّماء... وأيقنَّا أنَّه الهلاك. فو الله إنِّي لفي ليلة صَنْبر بعيدة ما بين الطَّرفين، إذ تضاغى أصيبيتنا مِن الجوع (عبد الله وعدي وسَفَّانة)
فقام حاتم إلى الصبيَّين، وقمت إلى الصبيَّة، فو الله ما سكنوا إلَّا بعد هدأة مِن اللَّيل ، ثمَّ ناموا ونمت أنا معه، وأقبل يعلِّلني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلمَّا تهوَّرت النُّجوم إذا شيء قد رفع كِسْر البيت ، فقال: مَن هذا؟ فولَّى ثمَّ عاد، فقال: مَن هذا؟ فولَّى ثمَّ عاد في آخر اللَّيل، فقال: مَن هذا؟
فقالت: جارتك فلانة، أتيتك مِن عند أصيبية يتعاوون عواء الذِّئاب مِن الجوع، فما وجدت معوَّلًا إلَّا عليك أبا عدي .
فقال: والله لأشبعنَّهم، فقلت: مِن أين؟ قال: لا عليك، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإيَّاهم، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشي جانبيها أربعة، كأنَّها نعامة حولها رئالها ، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمديته(أي:سكينه)، فخر الفرس، ثمَّ كشطه، ودفع المدية إلى المرأة، فقال: شأنك (الآن)، فاجتمعنا على اللَّحم، فقال: سوأة! أتأكلون دون الصِّرم( أي:جماعة الحي)؟!
ثمَّ جعل يأتيهم بيتًا بيتًا ويقول؛ هبُّوا أيُّها القوم، عليكم بالنَّار، فاجتمعوا، والْتَفَع بثوبه ناحيةً ينظر إلينا، لا والله ما ذاق منه مُزْعَة!! وإنَّه لأحوج إليه منَّا، فأصبحنا وما على الأرض مِن الفرس، إلَّا عظم أو حافر!
فعذلتُه على ذلك، فأنشأ ، يقول:
مهلًا نوار أقلِّي اللَّوم والعذلا
ولا تقولي لشيء فات: ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه مهلًا،
وإن كنت أعطي الجنَّ والخَبَلا
يرى البخيل سبيل المال واحدة
إنَّ الجَوَاد يرى في ماله سبلا
ورُئي حاتم يوما يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدلّ عليه أضيافه ، وهو يقول:
أقول لابني وقد سطت يديه ... بكلبة لا يزال يجلدها
أوصيك خيرا بها فإن لها ..عندي يدا لا أزال أحمدها
تدل ضيفي عليّ في غلس الليل إذاالنار نام موقدها
إن إكرام الضيف عند العرب يمثل السمة البارزة في السمو الأخلاقي الذي أقره الإسلام فيما بعد ، ودعت إليه تعاليم الشريعة ، فعدّ التخلق به مظهرا من مظاهر تمام الإيمان وكماله، ففي الحديث الصحيح : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخرفليكرم ضيفه)
ويروى عن الإمام مسلم -رحمه الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه ضيف ، فلم يجد ما يضيفه به ، فقال لأصحابه : ( من يضيف هذا الليلة رحمه الله ) فقام رجل من الأنصار فقال : " أنا يا رسول الله " ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : " هل عندك شيء ؟ " قالت : " لا ، إلا قوت صبياني " ، قال : " فعلّليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفيء السراج ، وأريه أنّا نأكل ، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه " ، قال : فقعدوا وأكل الضيف ، فلما أصبح ، غدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة )
وقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((كان أوَّل مَن أضاف الضَّيف إبراهيم))
وكان عليه السلام يسمَّى أبا الضِّيفان، حيث كان يمشي الميل والميلين في طلب مَن يتغدَّى معه ،وقيل: إنه كان لا يتغدَّى إلَّا مع ضيف .
وقد حكى الله لنا قصته عليه السلام مع ضيوفه فقال:
(هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون)(فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) (فقربه إليهم قال ألا تأكلون)
وهي قصة عجيبة استنبط منه العلماء آداب الضيافة ومنها : تعجيل قرى الضيف وعدم سؤاله ، وأن يكون القرى من أحسن ما يمكلك الإنسان ومن أجوده ، وأن يختار في طبخه أطيب ما يؤكل ، وأن يقرب الطعام إلى الضيف ولا ينقل الضيف إليه ، وأن يلاطف الضيف ويدعوه باسلوب العرض وليس الأمر كقوله :ألا تأكل .
فالكرم منقبة حميدة من مناقب العرب التي جبلوا عليها ، فكانت وما زالت تحن إليه حنين الإبل إلى أعطانها ، وهو صفة كمال من صفات المؤمن أمر بها الشارع في حق الفقير والغني والكبير والصغير على حدّ سواء ..
ولكن المقرّر في الشّريعة أنّ كلّ أمرٍ أمرنا الله تعالى به ،أوأمرنا به رسوله -صلى الله عليه وسلم ينبغي ألّا يتجاوز الحدّ إلى الغلو والإسراف ، فقد قال سبحانه : ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾
وكذلك فإن كلّ أمر شرعيّ مبنيّ على القدرة والاستطاعة؛ فهو القائل سبحانه:{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
وأختم بهذا المثل الشّاميَ : (لا تبخل بالموجود، ولا تتكلّف المفقود).